آليات السياسات العربية ودورها في تغييرالبنية الاجتماعية

محمد عبد العظيم العجمي – مصر


يتشكل الهيكل الاجتماعي لأي مجتمع ويتغير تبعا للعديد من العوامل (السياسية والاقتصادية والثقافية)، بالتفاعل مع البعد التاريخي مما يصيغ أو يعيد صياغة الهرم الطبقي لأي مجتمع وهذا ما يسمونه (الحراك الاجتماعي).
والهرم الطبقي لأي مجتمع هو الشكل الذي يصف ترتيب الطبقات الاجتماعية، وهي تتمثل في الفئات التي تكون على قمة الهرم في كل مجتمع (رجال الأعمال والمال والساسة والإعلاميون ونجوم المجتمع والفن.. إلخ)، ثم الطبقة المتوسطة التي نسميها دائما (السواد) أو العامة، وحسب العوامل المذكورة سابقا تظل الحركة الطبقية الاجتماعية أشبه ما يكون بالقِدْر في حالة الغليان وحسب درجة الكثافة يقفز بعض العوام إلى أعلى السلم الاجتماعي، ويتردى البعض من على قمة الهرم إلى القاع، وتظل البنية الاجتماعية دائما في حالة إعادة تشكيل، ولا يظهر ذلك منها إلا على المدى البعيد، لكن ربما يكون هناك من العوامل والأحداث غير النمطية التي يكون تأثيرها في الشكل الاحتماعي قد يظهر على المدى القريب، والعامل الذي نحن بصدد مناقشة تأثيره في تشكيل هذه البنية الاجتماعية هو:((العامل السياسي)).
يقول محمود السعدني في كتابه (مصر من تاني) إن: الخليفة الأموي (يزيد بن معاوية بعد مقتل الحسين بن علي - رضي الله عنه - أراد أن يقضي على البقية الباقية من نسب الحسين فِأرسل إلى الولاة في الأمصار أن يبعثوا إليه بكل من يمُتُّ إلى الحسين بصلة حتى يتخلص منهم، فاحتال عليه والي مصر في ذلك ــ خوفا من عقاب الله، وخوفا من عصيان أمر أمير المؤمنين ــــ فجمع له جميع اللصوص والشطار وقطاع الطرق في السجون وأرسلهم إليه في قافلة، فلما وفدوا على يزيد وكان قد أصابته لوثة من الجنون، فعفى عنهم جميعا، وأمر بإكرامهم وأن تجرى عليهم العطايا والهبات من بيت المال غير منقطعة وأن تحسن معاملتهم "فرجع اللصوص والشطار وقطاع الطرق وقد أصبحوا "سادة شرفاء مكرمين" ، والقصة وإن كان فيها شيء من المبالغة إلا أنها تعكس شيئا من واقع السياسة العربية التي تحكمها الأهواء والسلطة المطلقة قديما وحديثا، والتي وإن تغير الشكل الأدائي لها في الواقع الحالي بسبب العامل التاريخي والحضاري، إلا أنه يبقى مضمون الممارسة لا يكاد يختلف كثيرا، من وضعية الحاكم الملهم المطلق الأبدي، الذي يمكن أن يعيد تصنيف الطبقات حسب الأهواء والمصالح.
فالسياسة العربية تتحكم إلى حد كبير في تغيير نمط البنية الاجتماعية، والتي من المفروض أن تخضع في تفاوتها إلى عوامل موضوعية أصيلة تلك التي تصوغها النظريات الاجتماعية السياسية الحديثة (الديموقراطية والليبرالية والاشتراكية)، وتحفظها.
وكذلك الشريعة الإسلامية قديما التي أمرت بحفظ الفروض الخمسة للفرد (النفس والعقل والعرض والدين والمال)، أما النظريات الحديثة فقد أعطت للفرد الحرية الذاتية التي تكفل له حق الحياة والعيش والكرامة والعمل والكسب والتعبيرعن رأيه...إلخ، ومن خلال فاعلية الفرد وأدائه وإثباته لذاته والاضطلاع بواجباته، ثم الوصول - إن أمكن بعد ذلك - لدرجة من التميز التي تقود خطواته إلى مرحلة متقدمة من درجات السلم الاجتماعي أو الاكتفاء بالحد الأدنى حسب القدرات الشخصية والنفسية والعلمية التي يتحدد تبعا لها أداء الفرد وفعاليتة في المنظومة الاجتماعية، ومن خلالها يستطيع كل إنسان أن يحقق ذاته، ويحوز مكانته الاجتماعية ويصنع دوره كلَبِنَة في بناء المجتع مهما كان هذا الدور بسيطا فهو دور لابد من وجوده ولابد من احتواء المجتمع له.
أما النظم السياسية العربية فعوامل النجاح الاجتماعية مختلفة غير تلك المذكورة ، فمن المعلوم أن الفئات المقربة من دهاليز السلطة في العالم العربي هي دائما الفئات الأكثر دخلا والألمع نجومية، والأكثر نفوذا بغض النظر عن القدرات العلمية والشخصية لهذه الفئات، حيث يكون التقريب طبقا لعامل الولاء والثقة وليس لعامل الكفاءة والقدرات والمواهب، كما يكون كذلك الأكثر ولاء للحاكم ورجال السلطة، وأصحاب النفوذ وليس الأكثر ولاء للوطن، وكذلك السعي في خدمة الاستمرار في السلطة وليس لصالح الوطن ومقدراته..
ولا زال على هرم أولويات الأنظمة السياسية العربية الجمهورية بعد اعتلاء السلطة هاجس (الاستمرار في السلطة)، وكيفية المحافظة عليها، وصياغة السياسات الإعلامية (خاصة) والتي تتفاعل مباشرة مع الجمهور في تلميع الأنظمة، والحشد الجماهيري وتعديد الإنجازات الحالية بالمقارنة بالأنظمة السابقة، وبيان ثقل التركة الموروثة من النظام البائد من الإخفاقات والديون، وعلى هذا يتم تشكيل الرأي العام، وصياغة الوعي الجماهيري.. وبما أن هذه الأنظمة ليس لها من السياسات والخطط التي تظهر نتائجها من خلال المدى القريب أوالبعيد للنهوض بمستوى الأوطان فإن التركيز والتمحور يكون حول إخضاع الرأي العام باستمرار وتدشين الولاء الوطني لتقديمه للعالم الغربي من خلال أجهزة الإعلام، والتركيز كذلك على تقارير المنظمات الدولية كالبنك والدولي وحقوق الإنسان، والاتحاد الأوربي والمفوضية الأوربية لحقوق الإنسان، وإزكاء الحماس الوطني الجماهيري من خلال الأغاني الوطنية، والتركيز على بدائل السياسة من الأمور التي تستهوي الجماهير ككرة القدم ومسلسلات رمضان والفضائيات التي تشغل الرأي العام بالكثير من القضايا الهامشية التي تلفت الانتباه عن فاعلية الأداء السياسي والاقتصادي.
يصنع عدم الاستقرار السياسي أيضا والثورات والانقلابات والحركات التحررية التي حدثت في الخمسينيات والستينيات، وحديثا كثورات الربيع العربي ـــ كما أطلق عليها إعلاميا ـــ صنع ذلك نوعا من التغيير الطبقي وإعادة تشكيل جزء من البنية الاجتماعية حيث بادت الأنظمة السياسية في الخمسينيات والستينيات واعتلى سدة الحكم ثلة من أبناء الوطن الذين كان يعدون في نظر الإقطاعيين والاحتلال وملاك الأراضي كانوا يعدونهم (الرعاع)، كما قال الخديوي (توفيق) للجنرال أحمد عرابي "ما أنتم إلا عبيد إحساننا"، وحدث نوع من إعادة توزيع السلطة والثروة وأصبحت الطبقة (العامة) هي المهيمنة على شؤون الحكم وبالتالي اتخذت لها سدنة وأعوانا وبطانة غير البطانة القديمة وهي أيضا من أسفل السلم الاجتماعي، ثم جاء هذا الحدث السياسي الاقتصادي ليحدث نوعا من الانقلاب في شكل الطبقات الاجتماعية وهو (سياسة الانفتاح الاقتصادي)، الذي فتح الباب أما السلع والاستثمارات الأجنبية، وإطلاق يد الشعب للتفنن في طرق الكسب وتكبيل يد الدولة من التدخل في النظام الاقتصادي، مما أحدث ما يسمى في المجتمع بشخصية (الفهلوي) التي لم تكن موجودة سابقا، والذي يستطيع أن يحصل على المال من أي طريق حتى يتصدّر أعلى درجات السلم الاجتماعي وفي المقابل تراجع دور التعليم ورجال العلم والفقهاء، وحدث الكثير من التردي في القيم الأخلاقية والدينية والاجتماعية وتصدرت المشهد الاجتماعي في تلك الفترة أنماط من الشخصيات تُسمى اصطلاحا شعبويا (الكسّيبة) فأصبحت من رجال الأعمال وقد جسدت السينما المصرية هذه الحقبة في عدة أفلام منها (البيه البواب، وزمن حاتم زهران).
كذلك كان اكتشاف النفط في خمسينيات القرن الماضي في بعض الدول العربية، واتجاه حكوماتها إلى توزيع الثروة حسب النظم القبلية والعشائرية لكسب الولاء والتأييد السياسي بدلا من الاتجاه إلى إقامة دولة المؤسسات والصروح الصناعية وتدشين بنية اقتصادية في الوقت الذي كان العالم يلملم أشلاءه في الخروج من الحرب العالمية ولم تكن أنظار الغرب مركزة على الثروات العربية كما هو الحال الآن، وكان من الممكن توجيه هذه الثروات إلى ثورة صناعية تذهل العالم وتحتل أسواق الشرق الأوسط جميعها قبل ظهور المارد الصيني والماليزي والأندونيسي، ولكن للأسف الشديد تحولت هذه الأموال إلى نوع من الترف غير المحدود، باستثناء سلطنة عُمان حيث أهدرت ثروات ومقدرات الأوطان في البذخ حتى أصبح الحفاة العراة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان ويسكنون الأبراج وناطحات السحاب، ويقتنون الطائرات الخاصة وأحدث السيارات ونظم التكنولوجيا والتي لم تغن عنهم شيئا حين تغير النظام العالمي، وأصبحت هذه النظم كما يقول القائل:
"من اشترى مالا يحتاج إليه، باع ما يحتاج إليه ".
كذلك استطاع التيار الديني بعد ثورات الربيع العربي أن يستحوذ على السلطة بعد صراع استمر أكثر من نصف قرن، وقد أثبتت التجربة أن الهوة سحيقة بين التنظير والتطبيق، وأن معاركة الواقع والتعاطي مع المعطيات والمشاكل السياسية والاقتصادية أصعب بكثير من التنظير لها بين سطور الكتب والخطب، وأن إعادة نظام الخلافة الإسلامية المثالية صار دربا من المستحيل، وأن من الأفضل بكثير التعاطي مع الواقع بموضوعية وحلول مستحدثة والنظريات العلمية الحديثة أفضل من أن ننشد المدينة الفاضلة التي من الصعب تحقيقها على أرض الواقع مع النظم العالمية المعقدة والصراعات الإقليمية والدولية، وقد نتج عن هذه الثورات الربيعية حالة من (الخريف الأخلاقي وسيادة الفوضى والتردي السلوكي) نظرا لغياب الرقابة واختفاء تطبيق القوانين لفترة ربما لا تزال مستمرة في بعض الدول كاليمن وليبيا وسوريا، ومما أنتج حالة من العشوائية الطبقية في هذه المجتمع لم تستطع إلى الآن أن تتمخص عن تمييز اجتماعي نظرا لعدم وجود حالة من الاستقرار السياسي، والتي لابد من وجودها حتى يتم التخلص من الفوضى والتناحر ويحدث نوع من الانصباط والاستقرار الاجتماعي وحفظ الأمن والأفراد والممتلكات، وقد استطاعت دول (تونس أنموذجا) تجاوز هذه المرحلة والانتقال إلى حالة من الاستقرار النسبي (الأمني والسياسي)، وبعد أن أثبتت التجربة أن تداول السلطة في البلاد العربية غير مطروح، ولا يؤيده واقع ولا تستسيغه ثقافة الشعوب.
إن الممارسة (الشكلية ) للحقوق السياسية والدستورية وغياب الدستور في بعض الأنظمة الحاكمة حتى الآن، يصيب الشعوب بحالة من السلبية السياسية حيث تكون على قناعة أن مراد هذه الأنظمة نافذ لا محالة وأنه لا مجال لإبداء الرأي الذي لا قيمة له، خاصة حين تصل نتائج الانتخابات في الغالب إلى (98% ، 99%) ولا يحدث هذا إلا في النظم الجمهورية العربية فقط، كما يكون التمثيل البرلماني هو بمثابة الرأي المؤيد للحاكم وليس الشريك في السلطة كما تقول النظريات السياسية، ويحتاج تطبيق هذه الممارسة الشكلية إما إلى: معارضة سياسية ولو شكلية وهي المرفوضة شكلا وموضوعا، بل ويطلق عليها بعض التيارات الدينية (خروجا على الحاكم ومنازعة السلطة)، أوتحتاج إلى التأييد (المطلق) وهم الطبقة الذين يصبحون في حالة المرضيّ عنهم والمقربون من أوساط السلطة، وعلى رأسهم رجال الإعلام والشاشات وبعض فقهاء الشاشات، حتى نجد بعض القضايا الاجتماعية تعالج على أساس ديني أكثر من نصف قرن من الزمان، ثم إذا أراد النظام ردها إلى أصلها الاجتماعي لا يكون هناك أدنى اعتراض، كمسألة (قيادة المرأة للسيارة، وإقامة الحفلات الغنائية)، وبعض القضايا الدينية يراد معالجتها على أساس اجتماعي كالتوريث والزواج والطلاق.
إن الإسلام ، وبعده النظريات الحديثة قد جعل الناس جميعا متساوين في الحقوق والواجبات، وجعل التفاوت في الطبقة والدرجة على أسس مختلفة غير التي نمارسها حاليا، فقال "الناس سواسية كأسنان المشط" ، "ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوي"وقال تعالى:"وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( التوبة - 105) "، وبالتالي فمقياس التفاضل هنا هو (العمل ، وإجادة العمل ، والإحسان في العمل)، وعلى حسب القدرات الخلاقة للفرد وما وهب من مواهب يتمايز الأفراد وتسمو مراتبهم "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (سورة الأنعام 165) "وكذلك "لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا" (سورة الزخرف 32): ، والعلم وأهله على قمة  كل ذلك، فما رفعت أمة قدر العلم إلا رفع به قدرها ، وبقدر ما تحط من قدر العلم بقدر ما ينزل من مكانتها وخيريتها.. " وقدر كل امرئ ما كان يحسنه              والجاهلون لأهل العلم أعداء".

 

تعليق عبر الفيس بوك