كَارِيزْمَا السَّمَاء

فَاطِمة البُودرِيس

"نصٌّ سرديٌّ"

كيفَ لَنا أَن نَعرِفَ ما يَملِكُهُ الآخَر مِن اِستقامةٍ شَخصيةٍ، وحَقيقةٍ قُدسِية؟

هَلْ بِمِقَدارِ مَا يكُونُ مَاثِلاً أَمامَ حَواسِنا، ونُشاهِدُهُ بِأَعْيُنِنَا؟ لاسِيَّما وأنَّ العينَ أقوى الحواسِّ إِدرَاكاً وفَهْماً!

أَمْ بِمِقدَارِ ما تنالُهُ النَّفسُ الإِنسانِيَّةُ، ومشاعِرِها المُنسَجِمةِ مع مَلكُوتِها الأَعْلَى؟ فَهيَ تَأبَى إِلاَّ تِلْكَ الدَرجات، تَنجَذِبُ إِلَيْها كُلَّ حِينٍ وآخَر، فَلا اِسْتِغناءَ وَلا اِنْفِكاك، التلازمُ بَينهُما العِلّة ُوالمَعلولُ في الوُجودِ والبَقاء.

لا شك وأنَّ هذا ما نُعنِيهِ بالكَاريزْمَا، كَلِمةٌ أصلُها يُونانِي وتَعنِي في العَربيَّة: القُدرَةُ عَلَى اِستخدامِ كُلِّ جَوانبِ الذّات، للوصولِ إلى التأثيرِ الأقوى الذّي لا يُنسى على الآخرين، ومُستَوياتِهم الشُعوريَّةِ والجسديَّةِ والذّهنيَّة، حَيثُ الأَفكار، والاِتجاهات، والسُّلوك، مِمَّا يزيدُ مِنْ قُوَّةِ العِلاقةِ بِهِم.

فاَلكَارِيزْمَا قُوَّةُ تَأثيرٍ غَيرَ طَبِيعيَّة، تَبلُغُ الذَّروَةَ فِي سَاعةٍ تُدعَى (بِالسَحَر)، بَعدَ مُنتَصفِ اللَّيلِ إِلَى قُبَيلِ الفَجر، حِينَ يَعلُو البَياضُ السَّواد فِي سَماءِ العِشقِ واللّقاء ، وتَسحَرُ القَانِتَ مِنَّا بِأنفاسِ الصُّعَدَاء بَعدَمَا كَانَ عَلَى وشكِ المَوتِ والانتهاء، أَمَامَ ما يدعيه الغرباءُ والفُقراءُ، لِحِيازةِ المجدِ والثَّناء، ولأِجلِ ذلكَ دَعَانا إِلَيها أَغنَى الأَغنِياء فَقالَ:(وَمِنَ الّليلِ فَتَهَجَّد بِهِ نافلةً لَّكَ عَسَى أَن يَبَعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحمُوداً).

لِيُكبِّرَ المَدعُوُّ هَذِه ِ الكَلِمَات وَيقُول: إِلَهِي تَرانِيمُ قَولِك لا يُجَارِيها غَيرُك أبداً، اللحنُ والصدقُ والهدفُ والطلاقةُ والحضورُ والعرفانُ والظهورُ،  كَاِريزْمِيَّاتٌ سَبعٌ فِي تأثيركَ الأقدرِ عَلَى اِستِجابَتي الدائِمة لِفُنونِ عِبادتِك، واجتياحِ سُبُلِ الجُمودِ عَن مَعرِفتك، فالجُمودُ أقبحُ مِن الجهلِ، بَل مُخالفٌ لِرُوحِ عِلمكَ وخِلافتِكَ فِي أرضِك، اللَّذَيْنَ اِرتَضَيتَهُما لِي فيِ أَنْ أَرفَع َنفسِي ومَن حَولِي ِإِلَى مَنازِلِ المُخبِتِين، لِتفتَحَ أبوابَها أَمامَ الفِكرِ والإِرادة، أَخَصُّ خَصائِصِ النَّفسِ المُرَادَة، فأَستَرعِي الاِنتِباه عَمَّا غَفلتُ عَنهُ مِن صَفاءٍ ونَقاء.

الفِطرَةُ المُلْهِمَةُ دَلِيلِي إِلى الزَّكاةِ والنَّجاة، وهِي الجَوهرُ الإِلهي بِالقُوَّةِ والفِعل، الَّذِي لا يُخطِئُ المسِير إِلى ميدانِ القُربِ واليَقين، لتُظهِرَ لِي الحياةَ، بعد أَنْ بَحثتُ عَنها فِي كُلِّ قلبٍ ذاكرٍ لِربِّه، ومُستعدٌ للفناءِ والذَّوبِ والِاتِّحاد، لِأجلِ أن يعرِفَ حَقيقةً هِي الواقعُ بِعينهِ ومَا حولُها التعيناتُ فَحسب، إِنَّها الذَّاتُ الإِلهِيَّةُ ونُورها الأتّم، تكشِفُ لَنا عَن مَفاتِحِ الغيبِ، الَّتِي أولُها العقل وآخِرُها الحُب.

لِذا أجريتُ السؤالَ عَلَى كُلٍّ مِنَ الأفكارِ العادلةِ عَنِ التطرُفِ والتَفريط، والمُوجِبةِ للاِعتِدالِ فِي التهذيب.

أيُّ الوسائلِ مُمكِنةٌ لِهذا الوجوب؟

وأيُّها أسبقُ إلى التطبيق؟

أللوحدة مع النَّفسِ طريقٌ في التركيزِ والصبرِ والاِستمرار؟ أم لِلنشاطِ أن يستثمرَ كُلَّ ما هو قَويٌّ وخَفي؟

وهل للنظامِ أن يستنجدَ بقانونهِ الجامعِ للفلاحِ والإنجاح؟ أم لِلتجرُّدِ بعد العلم حقٌّ في الهيمنةِ على ذلك كُلِّه؟

 بَيْدَ أنَّ التجرُّدَ مِن أهمِّ الكَمالاتِ المُتَصَوَرَةِ عن ِالنَّفسِ والشَبِيهةِ بِالملأِ الأَعلَى.

إِنَّ الكُلَّ قُدُرَاتٌ نَاعِمة ٌفِي الوُصُولِ إِلى مبدأِ الوحدةِ والضبطِ والثّباتِ والتدبير.

مَبدأ النَّفسِ الإِنسانِيَّة الَّذِي يُعَرِّفُ الفرحَ عَلَى الحُزن، والحُبَّ عَلَى البُغْض، والتَحليلَ عَلَى التركيب، والنَّفيَ عَلَى الإِثبات، لا يطغى بعضُها عَلَى البعض، فَتَتفِقُ الأحوال، وتَنسجِمُ الأقوال، إِيذَاناً بِحياةٍ عقليةٍ مُستمرة ٍومُتصلةٍ بِالحرَكةِ والتَغيير، فأحداثُ اليومِ هي امتدادٌ لِأحداثِ الأَمس، بل تَجلٍّ لها وإِعدَاداً لِمُستَقبلِها، دُونَ أَنْ يُحدِثَ النَّومُ أَيَّ فَراغٍ أو انقِطاعٍ فِي السِلسِلة، كما فِي بُرهانِ الاستمرار لابن سِينا- الفيلسوفُ وعَالِمُ النَّفسِ المُسلِم- ولَولاَ هذِه الوِحدةُ فِي النَّفس لَضَعُفَت الحَياةُ وَلَقُضِيَ عليها، ذلِك ما يؤمن بِهِ المذهبُ الرُّوحِي لِعُلماءِ النَّفسِ المُحدِثِين (وِليَم جِيمس وبِرجسُون).

فَهِي - أَيْ الحياةُ العقليَّة - أَشبهُ بِالقطعةِ المُوسِيقِيَّة، وَوترِها العازِفِ عَلَى نبضِ الحُبِّ والمُرُوءَة، ليس لِتنَاغُمِها وتَألِيفِها المُوسِيقي إِلاَّ صَوتُ السَماءِ المُتواتِر بِرُوحِ الَبحثِ والتَحقِيق، المُناشِدُ بِإِنتاجِ الرُموزِ الفاعِلةِ بين الحقِّ تعالى وخَلقِهِ الإِنسان، حِينَ عُرِضَت عَليهِ الأَمانةُ دُونَ غيرهِ، (إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ والأَرضِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الاِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومَاً جَهُولاً)، فكانَ لها الُممَثِلُ الأَصلَحُ فِي الإِدراكِ والتعبير، واِختِيارِ أنسبِ القوالبِ التَطبِيقِيَّةِ لِلحَالةِ النَّفسِيَّة، ظَلمَ نَّفسَهُ بِالتجَافِي عَن الأنا المُقَيَّدة، تَقرُباً إِلى الذَّاتِ المُطلَقة، فأصبحَ عادِلٌ بِالعِلمِ الرَّبانِي، جاهِلٌ بما يُبعِدُ عَنهُ ويُسِيءُ إِلى حَضرَةِ قُدسِه، لِذا عُدَّ الظُلمُ والجَهلُ في ذيلِ الآيةِ الشريفةِ أعلاه، مَصدرَ مَدحٍ للإِنسان تناسُباً مع ما جاء في رأسِها.

هَذِه هِيَ المُعادلَةُ الصَّعبة الَّتِي أَنتجَتها السَماءُ الجَاذِبة نَحْوَ الحَقِيقةِ والوَحِي الإِلهي، صوغُ مُفكِرِها- التجديدي المُسلِم - مُحمَد أركون، لتَبتغِي الحلَّ مِن إنسانِها الفَنَّان والمِعياريّ في آنٍ واحد.

الوَحيُ = الحَقِيقةُ المُطلَقةُ الَّتِي تُوجِه التارِيخَ الأَرضِي والمُؤَدِّي بِدوره إِلى تاريخِ النَّجاةِ والفَوزِ فِي الآخِرة.

تعليق عبر الفيس بوك