د. عبدالله باحجاج
لن نبالغ إذا ما قلنا بأن تساؤل عنوان المقال، هو تساؤل كل المواطنين في بلادنا، على اعتبار انصهار الديموغرافيا العُمانية، وانفتاح كل الجهويات عليها سواء للإقامة لظروف العمل أو الاندماج الاجتماعي بالنسب أو المصاهرة، فليس أي مرفق عمومي خدمي في أية محافظة أو حتى ولاية، شأن جهوي مُغلق، فخدماته عامة تشمل كل الساكنة العمانية أو غير العمانية.
لكنه -هذا التساؤل- يحمل همه خاصة الخصوص، وبالذات كل من يُعاني وجعاً لا يعلم سببه ولا موضعه، وكل من يشتكي ألما، ولا يرى أفقاً لعلاجه، وكل من يبحث عن تشخيص مُتقدم لن يجده في مسقط رأسه، وكل من ينتظر تحويل ملفه الطبي طويلاً لمركزية الخدمات المتقدمة في العاصمة، وهو في حالة قلق نفسي عال، وكل من لن تسفه إمكانياته المالية أن يتخذ قرار سفره لمسقط على نفقته الخاصة، وكل من يحتاج لترقيد إضافي حتى استكمال علاجه، ويرخص له بالخروج لمحدودية الطاقة الاستيعابية للترقيد مقابل تزايد الطلب عليها، وهو تساؤل يطرح الآن نفسه بنفسه، بعد أن اضطرت وزارة الصحة لنقل المئات من مرضاها إلى مسقط جوًا بسبب إعصار مكونو .. من تلكم الاعتبارات الموضوعية والوطنية، نتساءل الآن عن مصير المستشفى الجديد؟ فقد مرَّت تسع سنوات على التوجيهات السامية بإقامته، ومرَّت سبعة أشهر على توقيع اتفاقية إسناده لشركة كاريليون علوي، ولم نر على صعيد الواقع حتى الآن سوى لوحة طويلة على مدخل المستشفى القديم تشير إليه "اسميا" فقط، مما يجعلنا نتساءل عن فترة التأخير الطويلة؟ وهل لها ما يبررها؟ قيل لنا إنَّ الشركة المنفذة للمشروع لم تتأثر بحالة الإفلاس التي أصيبت بها "الأم" الأجنبية في موطنها، إذن، ماذا يجري في الكواليس؟
فقضية التأخيرات التي يشهدها هذا المستشفى تُحير المجتمع، ولا تجعله يفهم ما يجري خلف الكواليس، فمن يحس بهذا المواطن الذي بدأ يشعر بقلق مرتفع على صحته وعلى مستقبل معيشته .. في ظل كل المتناقضات الغريبة والعجيبة التي تصدر من كبار مسؤولي الدولة وتؤكد بأن حقوقهم لن تمس .. لكنها تمس في العمق، وسريعًا، وفي ظل ما يُصاحب المشاريع عند ولادتها من زخم حكومي وإعلامي كبيرين، لكنهما يذوبان وسريعًا، ومثالنا على النموذج الأخير، المستشفى الجديد، فقد كانت عملية إسناده للشركة في الخامس عشر من نوفمبر 2018 في حفل رسمي لها الكثير من الدلالات، فالحفل كان في مكتب معالي وزير الدولة ومُحافظ ظفار، وبحضور معاليه ومعالي الدكتور وزير الصحة والشركة المنفذة للمشروع، ومنقول تلفزيونيًا مباشرة، ودلالته واضحة تمامًا، وهي كانت بمثابة رسالة للمجتمع مفادها أنَّ صبركم الطويل على تحقيق حلمكم القديم/ الجديد في مستشفى جديد، يطور الخدمات الصحية الإقليمية آن له الأوان أن يرى النور أخيراً، وإنه جدير بان يكون تحت رعاية كبرى السلطتين المركزية والمحلية، وإنه سيكون في مستوى التطلعات، وبهذه القوة السلطوية، ذهبت الاعتقادات الاجتماعية كعادتها في التفاؤل بعيداً إلى درجة انها ترى في منامها رؤى إنجاز المشروع بسبعة طوابق بين ليلة وضحاها رغم عملها أنه قد يحتاج لثلاث أو أربع سنوات على الأقل، غير أن هذه الليلة لم تكن سوى ليلة عمرها الآن أكثر من سبعة أشهر، ولا يبدو أنَّ لها نهارا قريبا، مما يدخل المستشفى الجديد مجددا في موجة جديدة من التأخيرات/ التأجيلات المقلقة، علمًا بأن عمر الطموح الاجتماعي بمستشفى مرجعي متكامل الخدمات الصحية والعلاجية والوقائية يرجع إلى الثمانينيات من القرن الماضي بعد عجز المستشفى الحالي الذي تم بناؤه مع بداية النهضة المباركة عن تأمين الحاجة للمواطنين.
وقد يُحاججنا بعض المطلعين على ما وراء الكواليس بأنَّ هناك تفكيرا الآن بنقل المستشفى الجديد إلى موقع آخر غير الموقع المقرر له أن يكون قرب المستشفى القديم، وهذه حجة مردودة كذلك من عدة وجوه، أولاً، أن هذا التفكير لم يكن اختياريا "للأسف" رغم وضوح الرؤية، وإنما فرض بعد تداعيات إعصار مكونو التي حتمت ضرورة البحث عن موقع جديد له بعيدًا عن البحر وفي مستويات مرتفعة ويمكن الوصول إليه مهما كانت ظروف وتحديات الأنواء المناخية، فأين كان التخطيط؟ وقد كانت هناك أصوات كثيرة من بينها صوتنا تنبه إلى هذه القضية، لكنها لم تلق آذانا صاغية، ولن ننسى من ذاكرتنا مشاهد نقل كل المرضى ويقدرون بالمئات إلى مستشفيات مسقط جوا، وثانيا، أن هذا التفكير يعني مزيدا من التأخير للمستشفى الجديد، فالبحث عن الموقع سيستغرق زمناً، والمخاطبات بين الجهات الحكومية وما تكتنفها من بيروقراطية، ستستغرق أزمنة، وثالثا، أن تغيير موقع المستشفى الجديد لن يفسر لنا كل أسباب التأخير المثيرة للجدل، فمن سبعة أشهر تأخير، يمكننا أن نسحب منها شهرا أو أقل منه قليلاً بسبب مكونو، لكن ماذا عن بقية الشهور السابقة لمكونو؟ فقد كانت عملية الإسناد في الخامس عشر من نوفمبر من العام الحالي – كما أسلفنا – فكيف يتم تفسير هذا التأخير؟ وقد يقال رب ضارة نافعة، بمعنى أنَّه لو لا مكونو لما تمَّ إعادة التفكير في نقل موقع المستشفى رغم وضوح الرؤية بالسلبيات المفترضة مسبقًا، وحتى هذا المثل قد أصبح شاذا على خاصية السمع، ولن ينفذ الآن إلى القناعات، لأنه يشرعن الخطأ، ويفتر الجهود، ويمطط العمر الزمني للإنجازات المتوقع تحقيقها في آجالها الزمنية، والتساؤل الأهم الآن، متى سيعرف الحلم الاجتماعي النور بعد التفكير الجديد في نقله الى موقع آخر؟ هل سنتلقى إجابة أم سيكون التجاهل؟ فالمجتمع من حقه أن يعرف عن مستقبل أهم حقوقه.
وقضايا التأخيرات، تعمق الشعور المجتمعي بالحمل الكبير المتراكم، ويحكم حلقات القناعة العمرية التي ترى أن الكثير من الحالمين بالمستشفى الجديد لن يُعاصروا ولادته – والأعمار بيد الله – هنا نستدعي البعد السيكولوجي الاجتماعي، واستيائه من موجة التأخيرات القديمة والجديدة، فهناك حالة يأس اجتماعية عميقة الآن من حلمهم في المستشفى الجديد، فماذا يجري في الكواليس؟ هذا التساؤل سيتكرر معنا كثيرا في هذا المقال، ولابد للمركزية ممثلة في وزارة الصحة والمحلية في مكتب وزير الدولة ومحافظ ظفار، أن تفسر للرأي العام الأسباب، احترامًا لتعهداتهم وتقديرًا للرأي العام، لا يمكن أن يظل الصمت يغلب على قضية المستشفى الجديد، وكأن عملية الإسناد لم تأخذ زخمها الرسمي، ويخرج منها بشائر اجتماعية فورية رفعت مستويات الأمل إلى عنان السماء، والآن تهبطه إلى مستوياته الدنيا، فلماذا التلاعب بالمشاعر الاجتماعية؟ هذا التساؤل نطرحه من ردة فعل حادة لمواطن التقينا به صدفة في أحد مكاتب الطيران العماني، وهو يجادل في قيمة تذكرتين، حددت قيمة كل واحدة منهما بأكثر من (70) ريالا ذهابا فقط – صلالة مسقط – غير معتد بتبريرات الموظف للسعر المرتفع، لأن مستجدات حالة مريضه الصحية تحتم سفره غدا في اليوم التالي صباحًا إلى مسقط لعرضه على المستشفيات المتقدمة هناك بعد أن فقد الأمل في تحويله رسميًا .. هذه الواقعة تعكس لنا المآلات كلها من الكثير من القضايا المحتقنة، من بينها قضية سعر الخط الداخلي، وعلاقته بالحق في الصحة، فهذا الخط يتم التعامل معه من منظور فوارق مختلفة في الأسعار استغلالاً لحاجة الناس الفورية للسفر .. فكلما تكون حاجة المواطن للسفر لمسقط عاجلا، يكون سعر التذكرة مرتفعًا، وهنا ينبغي أن نربط الثقل المالي على كاهل المواطن من سفره لمسقط مع قضية تأخير حلم المستشفى الجديد، وذلك حتى ندرك حجم معاناة المواطنين، وهي معاناة ستزداد عمقاً وارتفاعاً في المستقبل القريب عند تطبيق منظومة الضرائب والرسم الجديدة، فماذا يجري خلف الكواليس؟ الأوضاع كلها تتجه نحو تعميق التعقيدات الحياتية، فضية المستشفى هنا، نموذجنا "الاستدالالي" ولا يمكننا فصله عن بقية القضايا المتعلقة به كقضية الأسعار على خطنا الداخلي، فاستمرار قضية التذكرة المرتفعة، واستغلال ظروف المواطنين القاهرة في السفر العاجل لمسقط، قضية تثير العجب، وصمت الجهات الحكومية عليها حتى الآن، أعجب من هذا العجب نفسه، لأن هذه القضية تفرغ التقدير الوطني للخطوط الداخلية، وتجعلها فوق العالمية على اعتبار أن سعر الخط العالمي والإقليمي أقل من سعر تذكرة خطنا الداخلي، ويشهد منافسة فعلية تؤدي إلى خفض الأسعار، على عكس الخط الداخلي الذي تتحكم فيه شركتان تحتكرانه.
وقضية التأخيرات تطرح من جهتها التساؤلات التالية: أين الثقة في مستقبل التخطيط والتنفيذ من جهة؟ وأين مستقبل الثقة في الشخصيات المعنوية العامة من جهة ثانية؟ نريد من يظهر للرأي العام، ويطلعه على الكواليس، ويعرفه بخفايا ومستجدات المسيرة طويلة الأجل للمستشفى الجديد الذي ذهبت أجيال كثيرة وهي تحلم به، وأخرى ستغادرنا وهي حالمة، وتعقيدات حياتنا الصحية تزداد تعقيدا، والظروف المالية الاجتماعية تزداد صعوبتها، فكيف بمرحلة التزامن المقبلة، تزامن تطبيق ضريبة القيمة المضافة مع تزامن تطبيق رسوم خدمات البلديات، وهذا التزامن مقرر له اليوم الأول من يناير 2019، فأين الحكمة من وراء هذا التزامن؟ وأين الوعي السياسي بتداعيات هذا التزامن؟ مشكلتنا الأساسية تكمن في قصور الوعي في استيعاب التحولات وإدارتها، مما قد يعرقل التطورات، وترتد عكسياً؟ فالمرحلة فعلا، تحتم عقول جديدة لمرحلة جديدة غير مسبوقة، لا تحكم الحاضر بالماضي، ولا تدير مستقبلنا بالأفكار المحبوسة داخل الصندوق، وإنما بإطلاق عمليات العصف الذهني لمستقبل ملي بالتحديات الداخلية والخارجية، وغير مسبوقة، ولها تداعيات خطيرة تظهر من الآن على المجتمع على وجه الخصوص، وهذه قضية سنفتحها في مقال مقبل، وأخيرا يظل التساؤل قائماً: أين، ومتى، سيتم تنفيذ التوجيهات السامية بإقامة المستشفى الجديد في محافظة ظفار؟