ضياع الحقيقة أم سطوة الخرافة؟!

سلمى اللواتية

 

عندما يتحدث اختصاصيو علم النفس عن القناعات والأفكار، فإنهم يقولون إن كل ما تعلمناه واكتسبناه منها خلال حياتنا قابلٌ للتعديل أو التغيير، وأن تلك عملية تلقائية تحصل لنا خلال حياتنا، فما كان جميلا سابقا لم يعد كذلك، وما لم يكن منطقيا صار منطقيا اليوم..وهكذا. ولن نختلف أن تلك سمةٌ إنسانية عالية تتناسب طرديا مع اقتراب الإنسان من بشريته التوّاقة إلى الكمال والمعرفة. وبلاشك، فهناك عوامل عدة تتفاعل معا لتعيد ترتيب الأشياء في دواخلنا، اجتماعيةٌ وثقافية ودينية...إلخ، غير أننا ندافع أحيانا عن وجهات نظرنا بشكل مستميت، رافضن التغيير وبلا دليل! مما يعتبرعجيبا حقا، والأعجب حين نتذرع بأسطورة حُكيت على دكّات الجدّات؛ لنسعى إلى توريثها للجيل الذي لا نفتأ نربيه على الأخذ بالدليل والمنطق في اعتناق ما يراه، نفعل ذلك في تناقضٍ عقلي وتربوي مهول!

 خطيرةٌ جدا هذه الأمية المقنّعة -وأقول مقنعة لأنها تختبئ في عقول المتعلمين- وفي عصر العلم، والتي ما زالت تتمسك بالخرافة والأسطورة بدلا عن الحقيقة المثبتة، وهي -أي الخرافة- غالبا ما تدور في محيط الغيب؛ باعتباره المساحة الغائبة عن الحواس؛ وبالتالي كانت محطَّ فضول البشر على مر التاريخ؛ لذا فمروِّجو الخرافة يسعون لاتخاذ الغيبيات مبررا لتمرير أفكارهم، وهو أمرٌ يزداد خطورةً حين يتعدّى على نقاء الدين وطهارته؛ مما يجعل الحاجة ملحةً إلى تركيز علماء الدين نحو بيان معنى الغيب، ومبررات الإيمان بما ثبت منه والأدلة الضرورية لذلك، وكل ما يخص هذا المجال الحساس الذي يمس عقيدة الإنسان ومسيرة حياته وسلوكه فيها وبالتالي أمر آخرته، ذاك أدنى ما يفترض فعله لإزالة الشبهة والضبابية عن هذا العنوان الدقيق. وإذ لا يخفى اليوم إعراض شبابنا عن اتخاذ تعاليم الدين منهاجا لحياتهم ذاك الاتخاذ الذي يتضمن الاستيعاب الحقيقي لتشريعات السماء ومقاصد الشريعة الروحية والنفسية والاجتماعية بثقةٍ واعتزاز ومعرفة، فإنّ الخرافة واحدةٌ من الأسباب المهمة لنفور جيلٍ يعلم أنّ العقل والبرهان والدليل هو الأساس الذي تقوم عليه السنن الكونية! إن تلك مسؤولية عظيمة يتحملها كل راع هو مسؤول عن رعيته في موقعه، ولعلّه يتوجب عليَّ أن لا أنسى التراث الإسلامي الروائي وما يتضمنه من خرافات يندى لها الجبين والتي تحتاج إلى مراجعةٍ جادة يتحمل رعاة الدين مسؤوليتها!

أما من أين تبدأ الخرافة في المجتمع؟ فلا نعرف بالضبط، لكننا نولد لنراها تعمل على أرض الواقع، وتتفاعل مع أحداث الحياة كمسببات ونتائج يؤمن معتنقوها أنها حقيقية؛ فمثلا تقول الأسطورة إنَّ كسر البيضة يدفع البلاء مع أن دفعها لمسكين كصدقة في نظري ستكون أكثر دفعا للبلاء! والدم على عتبة الباب لذبيحة يحفظ البيت وأصحابه، ومع أنّ الذبيحة تدفع للفقراء إلا أن دمها ينبغي أن يجري على عتبة الباب! التي لو حصنّاها بآيات من الذكر الحكيم فهي تستغني عما سواها! ومع ذلك لا مانع من قبول الفكرة إذا استندت إلى دليلٍ علميٍّ أو شرعي، أمّا أن نكون إمّعةً نقبل الفكرة دون تمحيص لأنها جرت على لسان الآباء فهي مخالفة صريحة للمنطق والدين.

يقول علماء الاجتماع: إن الخرافة تنشأ حين تشعر المجتمعات أنها بحاجة لتفسير بعض الظواهر التي لا يسعها علمها، فتلجأ إلى تأويل يزيل عنها قلقها. لذا؛ فالمجتمعات تبتلى حقا بالأميّةً المقنعة من متعلمين وذوي شهاداتٍ عليا حين تعتمد عليهم في بناء الأجيال؛ فإذا بهم لا يكلفون أنفسهم عناء البحث عن حقيقة اعتناقهم، بل وينتقل الأثر السلبي منهم للحدّث الذي لا يزال طريا يتعلم ويتلقى تجاربه الأولى التي تعينه على تفسير أعماقه لاحقا !

وعلماء النفس يقولون: حين يمتنع شخصٌ ما عن البحث عن الحقيقة، ويمتنع عن سؤال (لماذا؟) لنفسه، فإنّ ذاك يغذي نقصا في جانب من شخصيته! وبالطبع لا يعد ذلك عيبا إذ إننا لم نُخلق كاملين، ولكن العيب الحقيقي أن لا نسعى للكمال البشري، ولا نسعى لبدء نقطة البحث، وهنا يكمن الخطر من توغّل الخلل المعرفي في أعماق النفس الذي في أفضل حالاته يجعل المرء فريسة الوهم غافلا عن إمكاناته المتفردة التي أودعها الله -جل وعلا- فيه ليكون حلقة تكامل مع من حوله في هذه الحياة.

في زمن ما، كان الخسوف والكسوف يُفسران بحزنٍ كونيٍّ على فقيدٍ ما، لينسفها الرسول (ص) بقوله: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره، مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا انكسفتا أو واحدة منهما فصلوا".

والسؤال هنا: هل ترانا ننتظر في كل موقفٍ رسولا ليأتينا؟ أم أننا كمتعلمين استنتجنا من حديثه أن لا بد من مسبِّبٍ منطقي لما يحدث دوما؟! للمتعلمين المتعلقين بالخرافة أقول: فلننفض غبار الأمية المقنغة الجاثم على صدورنا، ولنتجرأ على كشف اللثام عن الحقيقة، ولا تجتمع في القلب خشيتان، فإما أن نخشى ضياع الحقيقة أو أن نخشى سطوة الخرافة!

وعودٌ على بدء، فإنَّ جميع قناعاتنا الإنسانية المتوارثة من البشر قابلة للتغيير، كلها قابلة للمناقشة والحوار العقلاني العلمي بالدليل والبرهان، يقول المختصون: إنّ الأمراض الاجتماعية والنفسية معدية تماما كالجسدية، بل هي أشدّ عدوىً وكارثيةً على الفرد والمجتمع، غير أنها تبدأ بحوارات داخلية في نفس المرء؛ لذا فهي لا تظهر إلا حين تتضخم وبشكلٍ كبير، ولا يخفى على ناظرٍ تضخم الجهل والتخلف في مجتمعاتنا نظرا للكثير من الأمراض الاجتماعية المتوارثة، وشخصيا أرى الخرافة ضمن قائمة مقدمتها؛ أفهل نكون ممن يضع بصمته في طريق التغيير؟

s.allawati@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك