مُعْجَمُ البَيَانِ الحَرَكِيّ والحَاكِي فِي الْقُرْآنِ (لُغَةُ الجِسْمِ أنمُوذَجًا) (11)

ناصر أبو عون


الجزء 30 - سورة التكوير - سورة التكوير - الآيات (15- 18)
{فَلَآ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ ﴿١٥﴾ ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ ﴿١٦﴾ وَٱلَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ﴿١٧﴾ وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ﴿١٨﴾ إِنَّهُۥ لَقَوْلُ رَسُولٍۢ كَرِيمٍۢ ﴿١٩﴾}
(قصة الآية/ المَثَل):
"روى مسلم في صحيحه، والنسائي في تفسيره عند هذه الآية من حديث مسعر بن كدام عن الوليد بن سريع عن عمرو بن حريث، قال صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبح فسمعته يقرأ (فَلَآ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ  ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ  وَٱلَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ  وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ). ورواه النسائي عن بندار عن غندر عن شعبة عن الحجاج بن عاصم عن أبي الأسود عن عمرو بن حريث به نحوه . قال ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق الثوري عن أبي إسحاق عن رجل من مراد عن عليّ (فَلَآ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ  ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ) قال هي النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل". (1)

(المشهد التصويريّ):
جاء في تفسير المنار للإمام محمد عبده: "قيل هي الدراري الخمسة وهي: عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل، وذلك لأنها تجري مع الشمس، ثم ترى راجعة حتى تختفي في ضوء الشمس. فرجوعها في رأي العين هو خنوسها، واختفاؤها هو كنوسها. وقيل هي الكواكب جميعها، فإنها لا تزال جارية راجعة علينا بعد مغيبها، غائبة عنا بعد طلوعها. (وعسعس) الليل أدبر". "وتنفس الصبح تبلج وامتد حتى صار نهارًا بينًا. وأقسم بهذه الدراري أو الكواكب جميعها لينوه بشأنها من جهة ما في حركاتها في الدلائل على قدرة مصرفها ومقدرها، وإرشاد تلك الحركات إلى ما في كونها من بديع الصنع وإحكام النظام، مع نعتها في القسم بما يبعدها عن مراتب الألوهية من الخنوس والكنوس تقريعًا لمن خصها بالعبادة واتخذها من دونه أربابًا. وفي الليل إذا أدبر زوال تلك الغمة التي تغمر الأحياء بانسدال الظلمة بعد ما استعادت الأبدان نشاطها، وانتعشت من فتورها. وفي الصبح إذا تنفس بشرى الأنفس بالحياة الجديدة في النهار الجديد، تنطلق فيه الإرادات إلى تحصيل الرغبات، وسد الحاجات، واستدراك ما فات، والاستعداد لما هو آت". (2)
(ٱلْخُنَّسِ ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ).. "هي الكواكب التي تخنس أي ترجع في دورتها الفلكية وتجري وتختفي. والتعبير يخلع عليها حياة رشيقة كحياة الظباء. وهي تجري وتختبئ في كناسها وترجع من ناحية أخرى. فهناك حياة تنبض من خلال التعبير الرشيق الأنيق عن هذه الكواكب، وهناك إيحاء شعوري بالجمال في حركتها. في اختفائها وفي ظهورها. في تواريها وفي سفورها. في جريها وفي عودتها. يقابله إيحاء بالجمال في شكل اللفظ وجرسه". "وَٱلَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ".. أي إذا أظلم. ولكن اللفظ فيه تلك الإيحاءات كذلك. فلفظ عسعس مؤلف من مقطعين: عس. عس. وهو يوحي بجرسه بحياة في هذا الليل، وهو يعس في الظلام بيده أو برجله لا يرى! وهو إيحاء عجيب واختيار للتعبير رائع. ومثله: (وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ).. بل هو أظهر حيوية، وأشد إيحاء. والصبح حي يتنفس. أنفاسه النور والحياة والحركة التي تدب في كل حي. وأكاد أجزم أن اللغة العربية بكل مأثوراتها التعبيرية لا تحتوي نظيرا لهذا التعبير عن الصبح. ورؤية الفجر تكاد تشعر القلب المتفتح أنه بالفعل يتنفس! ثم يجيء هذا التعبير فيصور هذه الحقيقة التي يشعر بها القلب المتفتح. وكل متذوق لجمال التعبير والتصوير يدرك أن قوله تعالى: فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس، والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس .. ثروة شعورية وتعبيرية. فوق ما يشير إليه من حقائق كونية. ثروة جميلة بديعة رشيقة تضاف إلى رصيد البشرية من المشاعر، وهي تستقبل هذه الظواهر الكونية بالحس الشاعر". و"يلوح بهذه المشاهد الكونية التي يخلع عليها الحياة ويصل روح الإنسان بأرواحها من خلال التعبير الحي الجميل عنها لتسكب في روح الإنسان أسرارها، وتشي لها بالقدرة التي وراءها، وتحدثها بصدق الحقيقة الإيمانية التي تدعى إليها.. ثم يذكر هذه الحقيقة في أنسب الحالات لذكرها واستقبالها" (3)
 (أضواء على البيان الحركيّ ولغة الجسم الإشاريّة):
(فَلَآ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ) "وهذه الصفات أريد بها صفات مجازية; لأن الجمهور على أن المراد بموصوفاتها الكواكب، وصفن بذلك لأنها تكون في النهار مختفية عن الأنظار، فشبهت بالوحشية المختفية في شجر ونحوه، فقيل: الخنس وهو من بديع التشبيه; لأن الخنوس اختفاء الوحش عن أنظار الصيادين ونحوهم دون السكون في كناس، وكذلك الكواكب لأنها لا ترى في النهار لغلبة شعاع الشمس على أفقها وهي مع ذلك موجودة في مطالعها. فشبه طلوع الكوكب بخروج الوحشية من كناسها، وشبه تنقل مرآها للناظر بجري الوحشية عند خروجها من كناسها صباحا، وشبه غروبها بعد سيرها بكنوس الوحشية في كناسها وهو تشبيه بديع، فكان قوله: (بِٱلْخُنَّسِ) استعارة وكان (ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ) ترشيحين للاستعارة. وقد حصل من مجموع الأوصاف الثلاث ما يشبه اللغز يحسب به أن الموصوفات ظباء أو وحوش; لأن تلك الصفات حقائقها من أحوال الوحوش، والألغاز طريقة مستملحة عند بلغاء العرب وهي عزيزة في كلامهم". (4)
(وَٱلَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) "ذكر أهل اللغة أن (عسعس) من الأضداد، يقال: عسعس الليل إذا أقبل، وعسعس إذا أدبر ، وأنشدوا في ورودها بمعنى (أدبر) قول العجاج : (حتى إذا الصبح لها تنفسا وانجاب عنها ليلها وعسعسا)، وأنشد أبو عبيدة في معنى (أقبل): (مدرجات الليل لما عسعسا). "ثم منهم من قال: المراد هاهنا أقبل الليل، لأن على هذا التقدير يكون القسم واقعا بإقبال الليل وهو قوله: (إِذَا عَسْعَسَ) وبإدباره أيضا وهو قوله: (والصبح إذا تنفس) ومنهم من قال: بل المراد "أدبر" وقوله: (والصبح إذا تنفس) أي امتد ضوءه وتكامل فقوله: (والليل إذا عسعس) إشارة إلى أول طلوع الصبح، وهو مثل قوله: (والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر)، وقوله: (وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) إشارة إلى تكامل طلوع الصبح فلا يكون فيه تكرار . وأما قوله تعالى: (وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) أي إذا أسفر كقوله: (والصبح إذا أسفر) ثم في كيفية المجاز قولان: أحدهما: أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم، فجعل ذلك نفسا له على المجاز، وقيل تنفس الصبح. والثاني: أنه شبه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي جلس بحيث لا يتحرك، واجتمع الحزن في قلبه، فإذا تنفس وجد راحة. فها هنا لما طلع الصبح فكأنه تخلص من ذلك الحزن فعبر عنه بالتنفس وهو استعارة لطيفة".(5)
(وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) بأن "التنفس: خروج النسيم من الجوف، واستعير للصبح، ومعناه: امتداده حتى يصير نهارا واضحا". (6) وقال النسفيّ في (وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) امتد ضوؤه؛ ولما كان إقبال الصبح يلازمه الروح والنسيم؛ جعل ذلك نفسا له مجازا؛ وجواب القسم: (إِنَّهُۥ لَقَوْلُ رَسُولٍۢ كَرِيمٍۢ). (7)
...............................
المصادر:
1)    صحيح مسلم والنسائي
2)    الإمام محمد عبده، تفسير المنار
3)    سيد قطب – في ظلال القرآن، [ ص: 3842 ]
4)    الطاهر بن عاشور - الجزء 31 - التحرير والتنوير، [ص: 152/153]
5)    الإمام فخر الدين الرازي -  (التفسير الكبير)، [ص: 67]
6)    أثير الدين الأندلسي - تفسير البحر المحيط، [ص: 431]
7)    النسفي - الجزء الثالث

تعليق عبر الفيس بوك