بناء الدولة بين النظرية والتطبيق

 

علي بن مسعود المعشني

هناك فجوة تضيق وتتسع بحكم الظروف الموضوعية بين النظرية والتطبيق وكما هو معروف علميًا، وهناك خلل في التطبيق أحيانًا يسيء إلى أصل النظرية وما تحمله وتدعو إليه قد يسيء إلى النظرية ولكنه لا يلغيها، وهناك قواعد عامة لكل علم ولكن على أرض الواقع قد نجد بعض الاختلافات في تطبيق تفاصيل ذلك العلم من بلد لآخر؛ بحكم المعطيات والموروث الديني والثقافي والقيمي لكل مجتمع دون الإخلال بالقواعد العامة لذلك العلم.

وأقرب مثال لهذا هو علم القانون والذي تٌدرس قواعده في جميع جامعات العالم ولكننا نجد الاختلاف في مجمل التشريعات ومراميها وتباين الأحكام كذلك ومرد ذلك إلى سلة القيم والموروث لكل مجتمع والتي تشكل الإطار العام للتشريع في كل دولة، على قاعدة أنّ القانون في فلسفته أداة تحفيز للمجتمعات وحفظ وصون قيم وحقوق وليس أداة عقاب كما يفهم البعض ويفسر.

من هذا المنطلق يمكننا القول بأن مجمل القواعد العامة لأي علم مرحب بها ولكننا لا يمكننا التسليم بصلاحية جميع العلوم بفروعها وأصولها لكل مجتمع بالتساوي ودون أفضلية أو مراعاة أو توطين أو منسوب الحاجة من كل علم من هذه العلوم، وعلم السياسة وعلم الاقتصاد كمثال معاصر في وطننا العربي، حيث تتدفق علينا نظريات لا حصر لها من قبل النُخب السياسية والاقتصادية وغيرهم وبحسن نية لإصلاح سياسات دولة ما، ولكنها في النهاية نجدها عبارة عن فرضيات منزوعة من أسبابها الحقيقية وغير متسقة مع ظروف وممكنات هذه الدولة أو تلك ونجاحها في دول ما لا يعني بالضرورة نجاحها في دول أخرى ما لم تتوفر لها ذات الأسباب والممكنات المادية والبشرية والمعنوية بحذافيرها فتتحول تلك النظريات على ألسنة وأقلام النُخب إلى عوامل تحريض وتجييش للرأي العام لتسليمهم بلا وعي بصدقيتها ويقينهم بمروجيها وتخصصاتهم العلمية ومكانتهم الأكاديمية.

دور النُخب في الغالب الأعم في أي مجتمع هو دور تنويري مصاحب لسياسات التنمية ودور تبصيري لصناع السياسات والقرار في أي دولة لالتماس العلمية في كل خطوة يخطونها، لهذا فطنت الدول الحيوية إلى أهمية المزاوجة والتناغم والتكامل ما بين النُخب السياسية في السلطة التنفيذية (الحكومة) في الدولة والنُخب العلمية والفكرية والأكاديمية فيها لتصبح المشروعات والسياسات والقوانين بسمات الممكن بالمزاوجة ما بين الخطاب العلمي والعقلي والواقعية الممزوجة بجملة من الظروف الموضوعية والممكنات والحاجة الفعلية للدولة والمجتمع في كل حراك وطور.

مشكلتنا في الوطن العربي أن الخطاب لازال متباينا وحادا ومتناقضا بين النخب السياسية والتي تنفرد بالقرار وصناعة السياسات وتنظر إلى النُخب العلمية والفكرية والأكاديمية نظرة التنظير القاصر عن فهم الواقع، والنُخب العلمية التي ترى بأن النُخب السياسية لازالت تتعامل مع الدولة وحاجاتها من زاوية الارتجال والبعد عن النظريات العلمية وحقائق الأرقام واستشراف المستقبل.

أطلعت مؤخرًا عبر وسائل الإعلام على التجربة الصينية في المزاوجة ما بين الجهود السياسية والعلمية وذلك باستحداث الدولة ومنذ عقود لما سُمي بالأكاديمية الصينية للعلوم، هذه الأكاديمية التي تضم عقول الصين في مختلف التخصصات والتي تعكف على تبصير رجل القرار وصانع السياسة بالأسباب العلمية والأرقام والاستراتيجيات وتزوده بكل تفاصيل استشراف المستقبل لأي مشروع حتى يبني سياساته على بصيرة شاملة ويتحقق التكامل العضوي بين النظرية والتطبيق، وتقريب الفجوة بين رجل الدولة ورجل الفكر فتتحول النظريات إلى أدوات طيعة وممكنات قابلة للتحقيق والإثمار، ويفهم في المقابل رجل الفكر معوقات وقواعد تسيير الدولة ويكون قريبًا وملمًا بثقافة الدولة بمعزل عن التنظير العاري.

وتقوم بعض البلاد في الغرب وفي ذات السياق بتشكيل لجان علمية استشارية ومساندة لكل قطاع مهمتها أضفاء العلمية والعمق البحثي على كل مشروع ومن مختلف زواياه وأبعاده قبل إقراره من قبل الحكومة واعتماده كمشروع تنموي.

كما تسلك بعض البلاد كالولايات المتحدة الأمريكية نهج تكليف النُخب العلمية من أصحاب النظريات والفرضيات الهامة بحقائب وزارية أو مناصب تنفيذية لتطبيق نظرياتهم على أرض الواقع مع تسخير تام لكافة الممكنات لهم من كوادر وموازنات لتوفير سٌبل النجاح على الوجه الأكمل، كما تقوم تلك الحكومات بالتعاقد مع مراكز البحوث في الجامعات والمراكز الخاصة منها للقيام بدراسات شاملة لمشروعات الحكومة وسياساتها القصيرة والبعيدة لتحقيق التنمية الشاملة ببعديها العلمي والواقعي.

قبل اللقاء: لا يمكننا التقدم بثبات وتحقيق مفهوم التنمية الحقيقي ما لم نُسلم بأنّ الحكومة سُلطة تنفيذية فقط وطيف واحد من أطياف الدولة ومكوناتها ومن الخطأ الجسيم تكريس الدولة واختزالها في هيئة الحكومة بالشكل والمضمون وإلغاء بقية المكونات أو تعطيلها ثم ننتظر نتائج إيجابية على الأرض.

وبالشكر تدوم النعم

Ali95312606@gmail.com

الأكثر قراءة