عبيدلي العبيدلي
تُعلِّمنا التجارب السياسية المختلفة أنَّ تاريخ تطوُّر الشعوب ليس خطًا بيانيًّا مُستقيمًا، يسير في بُعد واحد فقط، بل على العكس من ذلك تمامًا؛ فهو يسيرُ في خطوط متعرجة، وفي أبعادٍ متعددة تفوق الثلاثة في أحيان كثيرة. هذا لا ينفي أن محصلة ذلك التطور دائما ما تكون إيجابية، وهذا ما يفسر تطور المجتمعات الإنسانية، ويشيع التفاؤل في سلوك البشر، ويحثهم على مواصلة العمل من أجل ضمان هذا التطور والمحافظة على استمراره في المسارات الإيجابية، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا في محطات نضج الظروف كافة، خاصة السياسية الملائمة منها، التي تُسهم في تطور المجتمعات وتقدمها نحو الأمام. ففي مراحل معينة من تاريخ تطور المجتمعات البشرية، تكون الظروف ناضجة ومهيأة من أجل تقدم المجتمع، في حين تمارس ظروف أخرى دورا معاكسا وسلبيا في مراحل أخرى.
كل ذلك يجعل من التدخل الإنساني المباشر، وغير المباشر مهمة مُلحة؛ كي يتسنَّى لهذا التدخل أن يُمارس دورا مهما في تقليص دور العوامل السلبية التي تحاول أن تثني عجلة حركة المجتمع عن دورانها في الاتجاه الإيجابي المطلوب من جانب، وتعزيز دور الأخرى التي تسعى لاستمرارية فعل العناصر الإيجابية في أداء دورها الذي يضمن استمرارية التطور في الاتجاه الصحيح ونحو الهدف الإيجابي المنشود، من جانب آخر. هذه العملية الإنسانية المركبة التي تبذل أقصى جهودها لتشذيب السلبي وتعزيز الإيجابي، مُرتبطة بشكل وثيق وعميق بالمكونات البشرية ذات العلاقة بالمجتمع المعني الذي تتفاعل مع المجبولات التي تشكل الخميرة الأساسية للبنية السياسية/الاجتماعية لذلك المجتمع.
من هنا، فعملية الإنضاج ليست -في أي من مراحل المجتمع- تلقائية وعفوية، بل هي مُحصلة تفاعل تلك القوى؛ فهي بدورها التي تقرر اتجاه حركة المجتمع، صعودا وهبوطا. وتبرُز الحاجة لهذا التدخل في المرحلة التي يصل فيها ذلك المجتمع إلى نوع من الجمود بسب مجموعة من العوامل؛ نرصد الأبرز بينها في النقاط التالية:
- حين يصلُ الصراع المجتمعي بين مكونات المجتمع إلى طريق مسدود، إلى درجة حادة لا يستطيع عندها أي من الأطراف الضالعة فيه أن يحسم نتيجة الصراع لصالحه. حينها يتطلب الأمر تدخلا قوىا معينة، إما من داخل تلك المكونات الضالعة في الصراع، ويفضل ألا تكون من خارجها، وتكرس جهودها، وتصب أنشطتها من أجل دفع عجلة حركة المجتمع نحو الأمام. مستوى واتجاه حركة المجتمع في تلك المرحلة التاريخية من تطوره، رهن محصلة صراع القوى من جانب، والثقل الذي تحظى به القوى المتدخلة من أجل إنضاج الظروف نحو الأحسن من جهة ثانية. وكلما حملت قوى التغيير الإيجابي مؤهلات تمكِّنها من مُخاطبة الكتلة الاجتماعية الراغبة في التغيير، كانت خطوات التغيير أكثر اتساعا، وأعلى سرعة، وأشد تواترا.
- متى ما بَرَزت في المجتمع المعني قوة معينة لها مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في وضع العصي في دواليب حركة تطور المجتمع نحو الأمام، ومن ثمَّ سخرت كل جهودها كي تضمن تقهقره نحو الخلف، أو الحيلولة دون تقدمه، إذا ما تيقنت نزوعه نحو التقدم. مثل هذه القوى الظلامية لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي وهي ترى مصالحها مهددة بحركة المجتمع نحو الأمام. عند هذه الحالة تجد قوى التقدم نفسها مطالبة بمحاصرة تلك القوى المعيقة للارتقاء أولا، من خلال تسييجها بحركة مجتمعية متنامية لها مصلحة في التغيير الممكن الوصول له. في خضم هذه الصراعات يصبح إنضاج الظروف العاملة لصالح حركة التقدم مرهونة بقدرة الطرف الذي يقف وراء هذه الأخيرة في تجييش أوسع قطاع من مكونات المجتمع ذات التأثير في حركته على تحقيق هذه المهمة، وهنا يتم إنضاج الظروف السياسية المواكبة لعملية التغيير.
- عندما تتدخل قوى خارجية، لها مصالح مباشرة أو غير مباشرة، في الوقوف ضد حركة تطور المجتمع نحو الأمام، وتحمل بين يديها من العوامل التي تمكنها أن تفرض شروطها التي تكفل لها إعاقة حركة ذلك المجتمع، او توجيهها نحو الخلف. في تلك اللحظة التاريخية، ليس أمام قوى المجتمع الراغبة في إنضاج الظروف من خيار سوى العمل بصدق ودأب من أجل تكتيل قوى المجتمع كافة وقيادتها نحو هدف واحد محدد يشكل الوصول إليه الرافعة التاريخية التي من شأنها شل أداء العناصر السلبية التي تعيق عمل إنضاج الظروف، وفي الوقت ذاته تعزيز فعالية تلك التي من شأنها الدفع بحركة تطور المجتمع نحو الأمام. أخطر ما في الأمر هنا، عندما يتوهم من يحاول إنضاج الظروف المواتية لحركة إيجابية أن الاستعانة بطرف خارجي آخر ضد الطرف الخارجي المعادي، سيمكنه من حسم الصراع لصالحه. عندها يقع الطرف الطامح للتغيير الإيجابي في فخ الاستعانة بالخارج لحسم الصراع؛ فالطرف الخارجي، مهما حسُنت نواياه، لا يمكن أن يعمل بصدق من أجل إنضاج الظروف الذاتية للمجتمع، كي يواصل مسيرته نحو الأمام.
في ضوء ما تقدم، نكتشف أن ملاءمة الظروف الموضوعية التي تدفع بحركة المجتمع نحو الأمام أو الخلف، لا تعمل بعيدا عن الظروف الذاتية التي تتمتع بها مكونات المجتمع، بل هي في مراحل معينة أحد إفرازاتها.
وعليه، فمن المطلوب على تلك القوى الذاتية، وعلى وجه التحديد تلك التي حملت على عاتقها مسؤولية دفع حركة المجتمع نحو الأمام أن تحشد قواها من أجل تحقيق هدف واحد ذي وجهين؛ الأول: الوقوف ضد عوامل إرجاع حركة المجتمع نحو الخلف، والثاني: تعزيز جهود دفعه نحو الأمام.
وفي حال فشل تلك القوى في انجاز مهمة إنضاج الظروف، يصبح مصير المجتمع رهنَ تلك القوى التي لا تألو جهدا من أجل لي حركة المجتمع، وتوجيهها نحو الخلف.