الموافقات بين لغة العرب والقرآن (2)


محمد عبد العظيم العجمي – مصر

 

قال أبوفراس الحمداني :
الشعر ديوان العرب                               أبداً وعنوان الأدب
لم أعدٌ فيه مفاخري                                ومديح آبائيَ النجب
وقال أبوتمام :
ولولا خلال سنها الشعر مادرى      طلاب العلا من أين تؤتى المكارم
ويقرأ على نحو آخر :
ولولا خلال سنها الشعر مادرى      بغاة الندى من أين تؤتى المكارم
لقد كان الشعر في ما قبل القرآن ذكرٌ للقبيلة وتخليد لمجدها، وكان يقام للشاعر حين ميلاده (الشعري) احتفالا عظيما تفتخر به القبيلة لما سيقدم لها من فخر وتمجيد وإثراء لذكرها بين القبائل.. هكذا كان جُلّ اهتمام القوم ومنتهى علمهم، أما على المستوى العام فقد عُدّ الشعر الديوان (من التدوين) الحافظ للغة العرب، والمخلد للآثار والأمجاد وهو الذي يسن مكارم الأخلاق، أو كيفية بلوغ هذه المكارم أو نوال أنداء الملوك والأمراء والوجهاء عن طريق المدح والإطراء، وإنشاد الشعر بين أيديهم .. فلما جاء القرآن غير من وجهة كثير من هذه العادات وأنشأ قواعد ومراسيم وقوانين مختلفة لكل هذا على هذا النحو.
أولا: لقد تكفل القرآن بحفظ اللغة العربية حتى قيام الساعة وصار هو الديوان الحقيقي للعرب، وبذا صار الشعر العربي محفوظا بحفظه أيضا حتى يرث الله الأرض، وذلك قول الحق "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" الحجر. ، وذلك لما يكون دوما من الاستدلال على لغة القرآن بالشعر وأنه لم يكن بدعا من لغة العرب، وقد أقرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - محامد الشعر الذي ليس فيه فحش ولا كذب ولا استعلاء بالعصبية الجاهلية ، وأعجب صلى الله عليه وسلم بما أنشده كعب بن زهير بين يديه من قصيدة : "بانت سعاد" حتى قال:
إن الرسول لنور يستضاء به        مهند من سيوف الله مسلول
في فتية من قريش قال قائلهم        ببطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف       عند اللقاء ولا ميل معازيل
وكان يشير صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فى الحِلَقِ (أن اسمعوا) إعجابا بقول كعب، كما أثنى على شعر لبيد حين قال: أصدق كلمة قالها شعر قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا اللَهَ باطلُ             وكل نعيم لا محالة زائلُ
ثانيا: لقد جاء القرآن بلسان عربي مبين وبأفصح اللهجات (لهجة قريش) وعلى أحرف سبعة بلغة كثير من القبائل، وكان نزوله ثم التمكين له نقلة تاريخية لقريش خاصة والعرب عامة، حول مساراتهم من شراذم وأوباش يتقاتلون ويتفاخرون بالقتل، إلى أمة كائنة عالمة قارئة ذات حضارة وأدب وعلم وفلسفة وطب وخلافه، وقد أعلمهم بذلك حين نزوله وقد كانوا مكذبين له معاندين فقال لهم "لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون" . الأنبياء ، وقال "وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون" الزخرف، والذكر هنا في الآيتين بمعنى الشرف والرفعة وما نالهم من القدر حيث صار الناس أتباعا لهم بعد ذلك فى الخلافة والرياسة، وأخرجهم به من الجهالة والضلالة إلى النور المبين ، "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آيته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" الجمعة .
وياله من فارق في الرفعة والقدر والمنزلة بين من كان يحدو به الشعر، هذا الصنيع البشري الذي ما يلبث أن يخمد كما يخمد صانعه ويفنى كما يفنى، والمذموم نظامه وأتباعه إلا القليل منهم "والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم ترأنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون مالا يفعلون إلا الذين آمنواوعملوا الصالحات" الشعراء، وبين من يذكره القرآن فيخلد ذكره مهما حاول المعرضون والمغرضون إخفاءه أو إيقافه ، كما فعل الأعراب مع النبي صلى الله عليه وسلم حين قالوا له من وراء الحجرات "اخرجْ إلينا إن مدحنا زين ، وإن ذمنا شين" أو كلمة نحوها فقال لهم "ذلكم هو الله" أي الله الذي يرفع ويخفض، ويعز ويذل، ولذا فلا مجال للموازنة أو المقارنة بين ما كان يقدمه الشعر لأتباعه وما قدم القرآن لهم من الذكر الممتد والخير العميم "وكذلك جعلناه قرآنا عربيا" طه. "وكذلك أنزلناه حكما عربيا" الرعد.، "إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون" يوسف.
ثالثا: جاء القرآن أيضا يوافق الحكمة والأمثال العربية التي تختزل التجربة الحياتية في كلمات موجزة بليغة واضحة الدلالة، وهي فى النهاية قد توفي بالمعنى المطلوب أو تقصر عنه، فجمع القرآن كل هذه التجارب والحكم والمثل فى طياته صريحا أو متضمنا لها لم يترك منها شاردة ولا واردة، بل أضاف لها من حكمته وعلمه مالم يكن موجودا وما لم تقدمه التجربة البشرية المحدودة، فضلا عما أسس لهم مما يستقبلون من أمور حياتهم، ومصالح معاشهم ،فجعل لهم كذلك نظما للسلم والحرب والجوار والبيع والشراء، والزواج والأنساب، والمواريث، والمزارعة والمؤاجرة .. الخ ، حتى قال بعض أهل الفهم: أن القرآن لم يترك شاردة ولا واردة إلا أتى بها " مافرطنا فى الكتاب من شيء" الأنبياء ، فقال أحدهم : فأين قول العرب " أعط أخاك تمرة، فإن لم يرض فأعطه جمرة " فقال له: هذا في قول القرآن "ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين " الزخرف.، وكما جاء في المثل العربي "وافق شن طبقه " جاء هذا المعنى فى القرآن على صورة أرفع وأفصح " قل كل يعمل على شاكلته"، أي أن كل إنسان يقلد صنوه في أفعاله وصفاته، وكذا يوافق طبعه الذي جبل عليه وخلقتة، ثم ما استمده أيضا من أبويه وممن حوله من أهل بيئته .
ومن الحكم التي أورد القرآن ذكرها أيضا قول العرب:
المستغيث بعمرو عن كربته            كالمستغيث من الرمضاء بالنار
وهذا ما جاء فى سورة الكهف "وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه " الكهف.، وهو يعني أن المجرمين في النار حينما يشتد بهم العذاب والعطش يصرخون طلبا للماء والنجدة، حينئذ تأتي الإغاثة لهم ــــ ليست في صورة إغاثة ــــ كما هي مذكورة وإنما هو نوع من التوبيخ والتقريع، إنما تكون بماء حميم يشوي الوجوه ويقطع الأمعاء.
وكان الأحنف بن قيس - رحمه الله - يقول : أريد أن أرى ذكري فى القرآن، ثم يفتح المصحف، فيرى ذكر السابقين من المهاجرين والأنصار، فيقول "اللهم لست من هؤلاء"، ويرى ذكر الكافرين والمنافقين فيقول: "اللهم إني أبرأ إليك من هؤلاء"، ثم يأتي على ذكر الذين "خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا " فيقول " اللهم إني من هؤلاء " ثم يستغفر الله.
رابعاً: الملاحظ لنمط الشعر العربي وصياغته قبل الإسلام وبعده يجد هذا الفرق الكبير (الأسلوبي والنظمي والأخلاقي) بين الشعر الجاهلي والشعر في صدر الإسلام وخلاله، فلا شك أن العرب تأثروا أيما تأثر بلغة القرآن وأدبه ورقته وبلاغته وحكمته، وهذا أمر حتمي، فمخالطة الثقافات المختلفة لا بد أن يكون لها الأثر الملاحظ في بنية الثقافة الأصلية وأدبياتها، فكيف بمخالطة القرآن وما يحويه من خلاصة الحكمة والقدوة والأدب واللغة والبيان واللسان الفصيح.
وكان للقرآن والتربية القرآنية أثر في الصياغة الشعرية التي انتقلت من الكذب المبتذل والمبالغة في الفخر ، وكذلك الإفراط فى الهجاء والانتصار للعصبية إلى الصدق والانتصار للدين والحمية الإسلامية المستبدلة بحمية الجاهلية التي عبر القرآن عنها في أكثر من موضع حيث قال "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس والله بما يعملون محيط" الأنفال. وهم مشركوا مكة حين أقسموا أن يخرجوا إلى بدر يشربون الخمر وتغنيهم القيان وتسمع بهم العرب فتهابهم ، فتحولت هذه الحمية إلى حمية الإسلام التي تذود عن حياضه وتنصر نبيه، كقول حسان الذي صادف شعره ماحدث في فتح مكة بالصورة التي ذكرها حتى سأل النبي أبابكر في ذلك قائلا : كيف قال حسان ؟، فقال أبوبكر، قال :
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا        وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم                    يعز الله فيه من يشاء
تظل جيادنا متمطرات                  تلطمهن بالخمر النساء
وجبريل أمين الوحي فينا          وروح القدس ليس له كفاء
والبيت الأخير هذا مصداقا لقوله تعالى:" علمه شديد القوى" النجم ، وقوله " وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين" التحريم، ومن الحمية للدين أيضا قول القائل:
ولست أبالي حين أقتل مسلما          على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ              يبارك على أشلاء جلدي الممزع
وقد رقق القرآن الطبع البشري العربي الذي كان مشتدا على من سواه من غير القبيلة حتى أصبح كما قال القرآن " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين "المائدة. ، ووصلت الأرحام التي كانت مقطعة إذعانا لتعليم القرآن وأدبه الذي أدبهم به "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم" محمد.، "وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب" النساء، ورسخ لمفهوم أن الخلق كلهم عيال الله لا فضل لأحد على غيره إلا بالتقوى وأنه جعلهم خلفاء في الأرض ليتعايشوا ويتخذ بعضهم بعضاً سخريّا،" ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير". الحجرات، وقد كان الشعر قبل ذلك يقول:
وفرسان هيجاء تجيش صدورها          بأحقاد حتى تضيق دروعها
إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها         تذكرت القربى ففاضت دموعها
شواجر أرماح تقطع بينهم                شواجر أرحام ملوم قطوعها
ورأينا بعد ذلك ظهور هذا اللون من الشعر العربي (العذري) الذي لم يكن موجودا قبل الإسلام ، وهو من آثار التحول النفسي والأدبي والسلوكي الذي أوجده القرآن ، وإن لم يكن القرآن قد دعا إلى هذا النوع من الشعر ولم يقر منه إلا ما كان يوطد للعفة ويحث على مكارم الأخلاق، ولما أنشد كعب بن زهير قصيدة "بانت سعاد" بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ومن سعاد، قال زوجتي، وكذلك رأينا الحطيئة الذي اشتهر بالهجاء اللاذع واشتداده على خصومه، يقول في بعض شعره:
ولست أرى السعادة جمع مال           ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد زخرا             وعند الله للأتقى مزيد
ثم أخذ الشعراء يأخذون من المعنى والأسلوب القرآني ما كثيرا من المعاني والصور التي لم تكن رائجة في شعرهم، ومن ذلك قول المتنبي في مدح كافور الإخشيدي:
وما كنت لولا أنت مهاجراً                له في كل يوم بلدة وصحاب
ولكنك الدنيا إلي حبيبة                     فمالي عنك إلا إليك ذهاب
وهذا مأخوذ من قول الحق: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه " .التوبة .
ومن المعاني الحديثة المأخوذة من صور القرآن كذلك ، قول نزار:
قد يطلع الحجر الصغير براعماً          وتسيل من جداول وظلال
وهو مأخوذ من قوله تعالى : "وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء" البقرة.
وهكذا نرى في هذه الإطلالة البسيطة السريعة هذه العلاقة التفاعلية بين القرآن الكريم والشعر العربي، حيث جاء القرآن موافقا للغة الشعر (قرآنا عربيا)، (بلسان عربي مبين)، إلا أنه لا يكاد يطابقه في شيئ من نظمه ولا صفاته حتى يُبرّأ نبيه صلى الله عليه وسلم عن قوله ، وينفي عنه ادعاءهم عليه بأنه شاعر فقال: "وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين" يس.، ثم كان هذا الفضل العميم العظيم للقرآن على الشعر وأهله ولغته، حتى أدب من لغته ولفظه وطبعه ورقى عناصره وموضوعاته واستعمله في نصرة الله ورسوله وكتابه،وجعل منه ديوانا لمكارم الأخلاق وحافظا للأمثال والحكمة والمكرمات، وخلد ذكره أبدا معه إذ جعله من أحظى خدامه وأدناهم يستدل منه على ورود لفظه ودقة لغته ومطابقته للغة العرب.
إنه الذكر الذي لا يخبو ولا ينضو ولا ينبو حتى قيام الساعة والحبل المتين الذي من تمسك به هُدي إلى الصراط المستقيم، الذي يعلو على غيره ولا يعلى عليه، ولا يدع أتباعه وأولياءه حتى تكون لهم الغلبة في الدنيا، والفوز في الآخرة "وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون" الزخرف.

 

تعليق عبر الفيس بوك