رضوان قاسم يغنّي للغضب وفلسطين في "فاء أنا"

...
...
...


أ.د/ يوسف حطّيني – أكاديمي وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات


يتّبع الأدباء الفلسطينيون مذهبين رئيسيين في التعامل مع الموضوع الوطني، أصحاب المذهب الأول ينطلقون من كمال الفلسطيني وبهائه، ويرون في الأدب رافعة جمالية إنسانية من روافع القضية (درويش وجبرا)، فيما يحمل أصحاب المذهب الثاني لواء الغضب الصارخ الذي يقرّع الآذان، منطلقين من نقص الفلسطيني وحاجته للحرية (سميح القاسم، وغسان كنفاني)، وعلى الرغم من أنّ لكلّ من المذهبين أتباعاً وأشياعاً، وعلى الرغم من التداخل الحاصل بينهما، والتفاوت المفترض بين أتباع المذهب الواحد؛ فإنه من الممكن أن نلمس غلبة سمات محددة لكل أديب تسمح لنا بمثل هذا التصنيف، نقول هذا ونحن بصدد مطالعة مجموعة شعرية للشاعر الفلسطيني رضوان قاسم، بعنوان "فاء انا"، صدرت حديثاً في دمشق؛ إذ تواجهنا لهجة الغضب ابتداءً من العتبات، حيث "فاء أنا" تؤشر لفلسطين التى تواجه من ينكر عليها وجودها، وحيث الإهداء إلى الوطن والأم والإخوة، وأهل الخيام، وحيث أعناق القصائد تسعى لمواجهة مُدى الأعداء وعجز الأصدقاء في زمن العهر، ص58:
"كيف يقاوم عصفور منقار الصّقرْ؟
في زمن العهرْ
والسيف المسلول الانصالْ
لا يوجد إلا في الأشعارْ"
وعلى الرغم من أنّ هذا الغضب يحاول أن يصنع فجراً جديداً (انظر قصيدة نقش على جدار الأيام التي تمجّد الطموح)، فإنّ ظلال تشاؤم رومانسي تسيطر عليه، وتستند إلى واقعٍ حالكٍ، يراه الشاعر أمام ناظريه، فيكتب بالفحم قصيدة يقول فيها، ص42:
"يا صاحبي،
أنّى نظرت فكلّ شيء أسودٌ
الدربُ والفجر المخضّب والحديقةً
والحقيقة قد تعاطَت بالعفنْ".
ويبلغ التشاؤم منتهاه، حين يبني القصيدة جُلَّها على اللون الأسود، ليفارق نفسه في نهايتها (كما فعل أمل دنقل من قبل: كلُّ هذا البياضِ يذكّرني بالكفن)، فيجعل الأبيض مخالفاً دلالته السائدة، لأنه لا يشير في قصيدته إلى ما اعتادت عليه المخيلة العربية من ثلج ونصر ونهار، بل إلى كفن يدلّ دلالة مباشرة على الموت، فيتساءل: ماذا أهدانا الوطن، ثم يجيب، ص43:
"لم يُهدِنا إلا بياضاً واحداً
لم يعطنا إلا بياضاً للكفن".
وأمام هذا الغضب والانطلاق من عبثية الحاضر، يؤكّد الشاعر تشاؤمه، ويكتب قصيدة بعنوان " لا جدوى"، ويجد في مخزون الغضب في الشعر العربي خير مساند له، فيمتح من آبار شعرائه، مذكّراً بأشعار نزار قباني بعد نكسة حزيران؛ إذ يرى الانتساب للعروبة عاراً وشناراً، فيقول: "بلاد العرب اوطاني... أقهقه ثم أنفجرُ"ص71، ويقول: "ما عدتُ أفخر بالأعراب أصل دمي... قد بتّ أخجل من أصلي ومن نسبي، ص21، ويستمرّ مثل هذا الأثر النزاري الذي ينتقد فحولة المجتمع الشرقي التي لا تتعدى فتوحات الليل؛ إذ يقول: "في الليل تعوم رجولتنا... نعتزّ ونبرم شاربنا... ننجب في الصبح الخيبة" ص18، ويعيد إنتاج مقولة قباني: "الفدائي وحده يكتب الشعر"، فيؤكّد صداها في قوله: فإذا كتبتُ قصيدتي خجلٌ أنا ... إنّ القصيدة دون فعل ثرثرهْ/ ص ص62،
هذا الوطن المعشوق الذي يصبّ الشّاعرُ جام غضبه عليه وعلى العروبة، يبدو في حالة شعرية أخرى "أقصر الدروب بين الأرض والسماء"، فالإهداء يشير إلى قداسته "إلى وطني حيث التقاء الأرض بالسماء"، ص5، وكثير من شعر المجموعة يشير إلى حبّه، وقلمه مشرع دائماً في سبيل التعبير عن جراح الوطن، ص7:
"وطني أحبك، لا تلمني
إن طال نزفي والجراحْ
هذي جراحك في فمي
قلم تشرّده الرياح".
ويرصد رضوان قاسم الأشكال المختلفة للنضال الوطني الفلسطيني، ويشير بلهجته الحماسية المباشرة إلى المخيّم، وإلىى الوطن الذي تتناوشه الوحوش والأفاعي، وإلى إضراب الماء والملح، متسائلاً بفخر، ص45:
هل رأى التاريخ شعباً ... أشهر الجوعَ سلاحْ
كوبُ ماءٍ فيه ملحٌ ... كرصاص أو رماحْ
وعلى الرغم من اللغة الحماسية المباشرة التي يعلو صداها، فإنّ الشاعر يلجأ أحياناً إلى الصورة التي ترفع اللغة إلى مستوى أفضل، على نحو ما نقرأ في السياق التالي:
"غداً تنتهي الحرب
أصعد باصاً إلى عملي
أترجّل منه لكي أتنفسَ صوتَ المدينةِ
ألقي بورد ابتسامي على العابرينْ/ ص65.
وقد يأخذه الشعر إلى تجليات بعيدة عن حماسته، فيرقّ أسلوبه، وتنضح لغته بماء الشعر من مثل قوله، ص22:
أرى عبرتين على وجنتين ... هما وردتان بأرض قفارْ
ولا سيفَ دفءٍ بحضنِ يديّ ... فكيفَ سأحمي منام الصغارْ
وربما تبلغ الأنشودة الرضوانية غايتها حين تتضافر الرؤية والغنائية، لتعبّر عن الموضوعات الأثيرة لدى الشاعر؛ وتمكن هنا الإشارة إلى واحدة من أفضل قصائده في المجموعة، مبنى ومعنى، وهي بعنوان "موسوعة الشهداء"، ومنها، ص20:
يا قدس روحي نخلةٌ نبتت بشا ... طئ دجلةٍ والنخل رمز دمائي
والنيل تجري في دمشق مياهه .... بردى يصبّ بتونسَ الخضراءِ
هذي بلادي كلّها عربية ... لو قطّعت ألفاً من الأجزاءِ
وهو نص يرسّخ الإيمان بالعروبة، ويشف عن أن موقفه السلبي منها في قصائد أخرى  هو موقف الغاضب من عجزها، لا من جوهر وجودها.
* * *
ولا نحتاج، ونحن نطالع "فاء أنا"، إلى كبير عناء لنلمس أثر الآخر في شعر رضوان قاسم، وإذا كنا قد أشرنا إلى أثر نزار قباني، فيمكن أن نذكر أثر محمود درويش أيضاً في نصوصه، وهو أثر لم ينجُ منه كثير من الشعراء الفلسطينيين، فهو يعيد إنتاج قوله: "وحبوب سنبلة تجفّ..."، المأخوذة أصلاً من التراث الإسلامي، فيقول: "مرج السنابل لم يكن/ لو لم تمت في الأرض بذرهْ" ص50، ويفيد منه  إفادات أخرى، وقفت عند حدود التناص ليدعم سياقه الشعري، كأن يقول: حتى وإن نفدت أوتاد خيمتنا .... (اضرب عدوّك بي)، رمحٌ أنا جسدي، ص44، كما يعيد إنتاج مقولة "تأبى الرّماح" بطريقة أخرى في قوله، ص ص71ـ 72:
إذا عيداننا اجتمعت ... بلا شك ستنتصرُ
بشطر آخر أتلو ... إذا افترقت ستنكسرُ
وكثيراً ما ينجح الشاعر في استثمار ثقافته العربية والفلسطينية في بناء سياقات واضحة الدلالة، كأن يبني قصيدة "نبوءة" على تراث غسان كنفاني، مشيراً إلى رجال في الشمس والسرير رقم 12 وأم سعد، أو يشير إلى امرئ القيس أوطارق بن زياد أو غيرهما، ويجد مثل كثير من الفلسطينيين، في قصة يوسف عليه السلام متكأً جيداً، فيقول، ص9:
وأهلي أغمضوا الأجفان ناموا .... كأخوة يوسف شاؤوا ضياعي
أنا في الجب أصرخ من جراحي... فصمّوا الأذن خوفاً من سماعي
دمي حقاً أراه على قميصي... وأنفسهم تسوّل بالخداعِ
ثمة إشارة أخيرة أريد ان ينتبه إليها أيّ شاعر، لا سيما في أعماله المبكرة، وهي ضرورة عدم ادعاء بأنه ملك القوافي وبأن الققصائد مطويات بيمينه، من مثل قول شاعرنا، ص8 وص46:
•    أنا الربان في بحر القوافي... لسان الضاد يبحر في شراعي
•    موج القصائد طوع فكري دائماً ... فإذا علا فعلى فمي يتحطّمُ
لأنّ وجود الأخطاء طبيعي، ولا أحد بريء منها، ولكنّ مثل هذا الادعاء يجعل الخطأ أكثر إثارة لحفيظة القارئ، ونحن لا نود هنا تتبع أخطاء اللغة والعروض التي قد يكون بعضها مطبعياً، ولكننا نشير، في عجالة، إلى أخطاء ألف التأسيس التي تعدُّ جزءاً من القافية، كما في  قصيدة "هم"، وقصيدة "تبصّر"، وقصيدة "للقدس للقدس وجه آخر"، ونكتفي بالإشارة في الأخطاء اللغوية إلى التذكير بوجوب حذف ياء المنقوص في حالات معينة، وبأن الأسماء الخمسة لا تعرف بأل على نحو ما نجد في قوله، ص8.
وكم راموا بكتم الفيه عندي... بغير الحب لم يلووا ذراعي
يحتاج رضوان قاسم إلى أن يبحث عن صوته الخاص، وهو قادر على ذلك؛ لأنه صوت شعري واعد، في قلبه وطن للأحلام، وأمام عينيه مخيم للجوء، وفي لغته حماسة وغضب وحبّ، وفي حافظته أصوات شعراء كبار، نفخر بهم، ونسعى إلى الخروج من تحت عباءتهم.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
رضوان قاسم: فاء أنا، دار دلمون الجديدة، دمشق، 2018 (لوحة الغلاف للفنان: محمد الركوعي).

 

تعليق عبر الفيس بوك