مع الله في كتايه، (الألوهية ـ المُلك ـ القدرة)

 

عبد الجواد خفاجي – ناقد وروائي من مصر

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51(

ثلاث آيات من سورة الشورى يمكن أن توجهنا ـ للنظرة الأولى ـ إلى الحديث عن قدرة الله ودلائلها، ولكنها على المستوى الأعمق تقودنا للحديث عن فكرة الآلوهية، خاصة أن الآيات بدأت بتقديم الخبر ( لله) على المبتدأ (المُلك) .. وكأنها تلفت إلى ما فوق المُـلك أو قبله والمتحكم فيه وهو الإله المتصرف في الملك.
الآيات تقرن بين الألوهية والمُلك ودلائل القدرة.. إذ بدأت بإقرار المُلك لله، حيث يقر الله لنفسه بهذه الصفة التي تعني من ضمن ما تعني: القدرة على الخلق حسب مشيئته (يخلق ما يشاء) ، والقدرة على التحكم في الخلق ( يهب لمن يشاء ... أو يزوجهم .... ويجعل من يشاء عقيما)

وإذا كانت الآيات قد تضمنت إقرار الملك لله، إلا أنها حقيقة تضمنت دلائل قدرته. وكأن الله سبحانه وتعالي أراد أن يقرن الملك بالألوهية، فلا إله بدون ملك يصرفه، وإلا فهو إله زاعم أو مزعوم. ثم لتقرن الآياتُ الألوهية بالقدرة، فلا إله بدون قدرة وإلا فهو عاجز. ثم لتقرن الآيات القدرة بدلائلها، فلا قدرة بغير دليل وإلا كانت وهماً وظناً وزعماً.

هكذا ربطت الآيات بين الألوهية والملك والقدرة ودلائلها، ثم توقفت بالتفصيل على دلائل القدرة؛ لتكون أمام البشر ـ سواء الذين يؤلهون أنفسهم، أو من يؤلهون غير الله ـ دليلاً على الألوهية. فلا توجد قدرة بلا دليل، ولا توجد ألوهية بغير قدرة، وإلا صار الاثنان زعماً.


من دلائل هذه القدرة:
ـ تعطيل النتائج الطبيعية مع توافر الأسباب. فمن الطبيعي أن زواج الرجل بالمرأة يكون ناتجه الإنجاب. ولكن ظاهرة العقم تعني تعطيل الظاهرة الطبيعية عن نتائجها الطبيعية، وهذا في حد ذاته دليل قدرة، فمن الطبيعي أنك إذا ألقيت حجرا في الهواء فإنه يسقط لأسفل نحو سطح الأرض بفعل الجاذبية، ولا قدرة في هذا، لكن القدرة تتجلى عندما تلقيه في الهواء ولا يسقط.
ـ التحكم في نوع المنتَج : فقد يكون من الطبيعي أن الإنجاب ناتج الزواج ، لكن توجيه هذا المنتج والتحكم فيه بحيث يكون: ذكراناً فقط، أو إناثاً فقط، أو خليطاً من الإناث والذكور، فهذه بحاجة إلى قدرة يمكنها التحكم في توجيه الأسباب نحو غاية دون أخرى.
بِيْد أن السؤال الذي يفرض نفسه: ما علاقة الآية (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) بما قبلها؟
والحقيقة أن هذه المحددات الثلاثة للاتصال تتضمن دلائل قدرة ، إذ ينفرد الله سبحانه بالقدرة على الوحي كوسيلة اتصالية بينه وبين البشر وعلى من يزعم أنه إله أو من تُنسب له الألوهية من دون الله أن يكون مالكا لهذه القدرة .
فإذا كان البشر قد عرفوا فيما بينهم الكلام من وراء حجاب ، وبإمكان أي ملك أن يحتجب عن رعيته، ليكلمهم من وراء حجاب، وبإمكان كل صاحب قدرة أن يحتجب ليكلم الناس من وراء حجاب، إلا أنه لم يدَّعِ أحد على مدى التاريخ أنه قادر على الاتصال بالآخرين عن طريق الوحي. أو أنه قادر على أن يوحي للآخرين بما يريد بطريقة غير مباشرة. ومن ثم فإن القدرة على التواصل بالوحي يتفرد الله بها وهي من ضمن قدرته.

أما دليل القدرة الآخر فهو التنوع بين بدائل الاتصال حسب مراده هو لا مراد البشر، وجعل غير الطرق الثلاثة ممنوعة عنه.. والحقيقة أن التاريخ لم يذكر طريقة رابعة ادعي فيها  أحدٌ أنه اتصل فيها بالله بطريقة رابعة، حتى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، لم يزعم أنه اتَّصل بالله بغير الطرق الثلاث، حتى في رحلة الإسراء، والمعراج.
الآيات ـ أيضاً ـ تتضمن إعجازاً عظيماً يكسر حجاب الزمن ، لأنها ترد على مزاعم فكرية فلسفية ظهرت في العصر الحديث تزعم أن الطبيعة خلقت نفسها، أو أنها خُلقت بالصدفة.
فإذا كانت الطبيعة قد خلقت بالصدفة ، فأي حكمة في الصدفة العمياء؟ .. وإذا كانت الطبيعة قد خلقت نفسها فإن ذلك معناه أن الطبيعة هي الخالق، وهي المخلوق في نفس الوقت وهذا أول دلائل عدم صحة الزعم منطقيا.
الآيات تفصل بين الخالق والمخلوق، عندما تجعل المخلوق خاضعا لمشيئة أعلى متحكِمة أو بالمعنى تجعلها مُلكاً يتصرف الله فيه، والله يتجلي في هذه الآيات بوصفه خالقًا ، ومالكا، ومتصرفا في الملك حسب مشيئته، وكل صاحب مُلك ـ غير الله ـ  ومتصرف فيه فهو مستمد من خلق الله، بوصفه ـ سبحانه ـ مالك الملك، وعلى من يزعم أنه إله أن يكون خالقا لُملك يملكه، ومتصرفا فيه بقدرته، وأن يكون قادرا على تعطيل نواميسه الطبيعية، ليس هذا فحسب بل إن الطبيعة بقوانينها ـ وكيفما أكد المؤكدون على وحدة الخلق والناموس وخضوعها لقانون السببية ـ  ليس من المعقول أن تعطل بنفسها ناموسها وأسبابها التي تعتمد علها ، ولهذا فإن تعطيل النواميس والقوانين الطبيعية يؤكد وجود قوة أعلى متحكمة في الطبيعة ذاتها، وقد أكدت الآيات على هذه القوة التي يمكنها أن تعطل الأسباب وتتحكم في النتائج وجعلتها لله وحده بل وتتحكم في النتائج وتوجه الأسباب نحو نتائج بعينها ، وتجعلها خاضعة لمشيئة عليا.
ليس ذلك فحسب ، بل أن الآيات أشارت إلى ممكنات فوق طبيعية تحدث خارج سياق القوانين الطبيعية ومن ضمنها الوحي .. القوانين الطبيعية كلها خاضعة للقياس والإدراك، فهل الوحي ـ كوسيلة اتصالية ـ خاضع لوسائل القياس والإدراك الطبيعية؟ .. ثمة قدرات أخرى وممكنات أخرى فوق طبيعية إذن في الكون، من ضمنها الوحي، وهذا يؤكد أن ثمة قوة مهيمنة فوق الطبيعة.
كذلك تضمنت الآيات تأكيداً على أن القدرة ودلائلها المنوطة بالله سبحانه، لا تتم وفق مشيئة فقط، ولا قدرة فقط ، بل إنها بحاجة إلى سياج من الحكمة العليا (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) ، لتنتهي الآيات بالتأكيد على الحكمة العلوية ، بجانب الملك والقدرة ودلائلها. ولذلك على من ينسب الألوهية لغير الله أن يبدأ أولا بتحديد ملكه موضع التصرف، ثم يؤكد ادعاءه بالإجابة عن أسئلة المشيئة ، ثم الحكمة من وراء المشيئة، ثم عليه أن يؤكد القدرة ودلائل القدرة ، وأسئلة الحكمة وراء هذه القدرة.
وهكذا تقودنا الآيات ـ كما ذكرت بداية ـ إلى الحديث عن الألوهية .. فالألوهية ليست زعما أو ادعاء أو تجريداً عقليا أو فكرياً ، إنها حقيقة تتضمن: المشية والقدرة والحكمة وما بينهم من وشائج ودلائل. وكلها تعمل في مجال واحد هو المُلك.

 

تعليق عبر الفيس بوك