الله بين الفكر الديني والتفكير الفلسفي

تأملات في الأسماء الحُسنى والصفات العُليا(1)


محمد بن رضا اللواتي – سلطنة عمان


"الله" اسم للوجود الإطلاقي المتصف بجميع الكمالات(1)، الأزلي الأبدي والسبب الأعمق لكافة الفعاليات وفواعلها، والذي جاء الأنبياء يدعون إلى معرفته وعبادته.
وأولى المسائل التي تفرض نفسها على مبحث الإلهيات، هي مدى دقة وصواب الدلائل التي تقدمت بها مختلف الحضارات البشرية حول وجود الكائن المُسمى بالإله والمتصف بكل صفات الكمال. فبمقدار شدة لصوق الألوهية بالفكر الانساني منذ أولى مراحل وجوده وإلى يومنا هذا، أيوجد دليل يبرهن على وجوده الواقعي بهذا النحو من الشدة والرسوخ؟
تتخذ المسألة مزيدا من الأهمية لا سيما وأن محصلة محاولات فلاسفة أوروبا خرجت خالية الوفاض من تقديم بُرهان متين للغاية يمكن الوثوق به. فمنذ الحُجة الوجودية التي أطلقها القديس "أنسلم" والتي لم تستطع أن تكون "منطقية" للغاية، مرورا بمحاولات "ديكارت" في صياغة برهان بدا وكأنه أقرب إلى "الفكرة" منه إلى الواقع، وانتهاء ببقية المحاولات المتعاقبة من جمع من الفلاسفة، لم يتمخض عنها أمر ذي بال حقيقة، ما حدا بأن إرتفع نداء يُعلن عن موته!
فقد نادى "نيتشه" بموت الإله(2)، وكان هذا، الحدث الأكثر ضخامة في ذلك الوقت، وجاء مواطنه الألماني "هيدغر" ليشرح لنا أنه مات "مخنوقا" على يد الانسان نفسه(3)! قال: "الإماتة تعني تنحية العالم الروحي القائم بذاته، وإزالته على يد الانسان، هي تعني أن الانسان في عصره الآلي الحديث ما عاد يترك مجالا لهذا العالم الروحي القائم بذاته كي ينير ويتلألأ بنفسه ومن نفسه، الأرض موطن الانسان ومحل إقامته جردت من شمسها(4)".
وبإعلان موت الإله، أخذت الفلسفات الغربية تحاول البحث عن بديل له، فاقترح "سميث" أن يكون "المال" هو البديل عندما قال: "جمعوا جمعوا فتلك هي الشريعة والأنبياء"(5)، واقترح "ماركس" أن تكون "المادة" هي البديل(6)، ونادت الأصوات في فترة زمنية معينة "بالتجربة" بديلا عن الإله، وتدعو بعض الاتجاهات المعاصرة اليوم إلى إقامة "التكنولوجيا" مقام الإله المقتول.
ولكن الأوفق عمليا على الميدان هي الرؤية التي نادى بها "نيتشة" عندما قال بأن البديل للإله لن يكون غير "الانسان السوبر"(7)، "فالشيطان الأكبر" يزحف معيدا النداء الذي نقله الكتاب المجيد عن لسان "فرعون" : "أنا ربكم الأعلى"، ناقلا سفارته إلى "القدس المحتلة"، في زمن الذل العربي الذهبي، حيث يسقط شهداء "مليونية العودة" واحدا تلو الآخر، غداة الذكرى السبعين لنكبة "فلسطين"، وقد "خشعت الأصوات" فلا من معترض!
ومؤخرا، كان الفيزيائي "هوكنج" قد أعلن بأنه وجد شفرة يستطيع بها أن يفسر لنا إنبثاق هذا العالم من "لا شيء" دون أن يلجأ في ذلك إلى فرضية "الإله" الخالق(8)!
في ظل هذه التراكمات الفكرية، والتي أدت إلى بروز زمن "الكفر الميتافزيقي" و"الاستعلاء العلني"، وبالمقابل، وفي العالم الاسلامي، برز تيار شديد التزمت من موقف التفكير العقلي والتأمل الفلسفي في مضامين الفكر الديني، إلى درجة أن جماعة من الفلاسفة ممن مارسوا تلك التأملات، طاولتهم عناوين "الكفر" والمروق عن "الدين" وكادت أن لا تستثني منهم أحدا!
ينقل "فروخ" أن رجلا جاء إلى "مالك بن أنس" فسأله عن الآية 5 من سورة طه "الرحمن على العرش استوى" كيف استوى؟ فرد مالك يقول: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"(9).
وينقل "أبو العز الحنفي" عن الإمام الشافعي أنه قال: "حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد والنعال ويُطاف بهم في القبائل والعشائر ويُقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسُنة وأقبل على الكلام"(10).
وهذه التراكمات كذلك، أنتجت وصفا للفكر الديني بأنه "خامل" يطالب بالايمان "الصامت" وليس الحركي المتولد من "التأمل" و"التفكر" و"إعمال العقل"، حتى أن "زكريا" في وصفه إياه، ومقارنته "بالتأمل الفلسفي" كتب يقول:
"الخلاف بين الفلسفة والدين لم يكن في الأساس خلافا في المحتوى أو المضمون، بل كان خلافا في المنهج! ويتلخص هذا الخلاف في أن منهج التفكير منهج نقدي، في حين أن منهج التفكير الديني إيماني! إن الفلسفة تناقش كل المسلمات كافة ولا تعترف إلا بما يصمد لاختبار المنطق الدقيق، في حين أن مبدأ التسليم ذاته أساس في الايمان الديني وأقصى غايات ذلك الايمان هي أن يؤدي بالمرء إلى قبول المعتقد بلا مناقشة، بل دون أن تطرأ عليه أصلا فكرة المناقشة!
الفيلسوف يريد مناقشة كل شيء، في حين أن رجل الدين حتى لو اعترف بمبدأ المناقشة، لا يسمح بهذه المناقشة إلا في حدود معينة ويرفض أن تمتد لتشمل المعتقدات الأساسية"(11)
ولكن، الأمر ليس سيئا إلى هذا الحد، إذ الوصف المار للفكر الديني وعلاقته بالتأمل الفلسفي ليس الأوحد في ساحة الأفكار، فثمة رأي في مقابله تماما، يقول:
"كيف يسوغ للأنبياء أن يدعوا الناس إلى المسع والقبول بلا بينة وأن يطلبوا منهم السير على غير طريق الاستدلال وإقامة البرهان؟! مع أن ذلك مخالف لجبلتهم ومناف لما جهزوا به في أصل خلقتهم وبنية وجودهم؟! حاشا ساحة الأنبياء أن يحملوا الناس على أن يخبطوا خبط عشواء وأن يسوقوهم سوق البهيمة العمياء، وهاهو القرآن أعدل شاهد على ذلك فيما يدعو اليه المجتمع الانساني من معارف المبدأ والمعاد وكُليات المعارف الإلهية، فهو لا يأخذ إلا عن حُجة بينة ولا يدع إلا عن حُجة بينة، ولا يمدح إلا العلم والاستقلال في الفهم ولا يذم إلا الجهل والتقليد. قال تعالى "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني".
وخلاصة القول: إن الدين لا يدعو الانسان إلا إلى نيل الحقائق الالهية بشعوره الاستدلالي الذي جهز به، وهذا هو بالذات ما يُعبر عنه بالفلسفة الإلهية. فكيف صح بعد هذا الفصل بين الدين الإلهي والفلسفة الإلهية مع انهما شيء واحد لا تعدد فيه ولا اختلاف؟ لا قيمة إذن لما أصر عليه جمع من الأوروبيين، واستحسنه آخرون من المسلمين من أن الدين يقابل الفلسفة! لا قيمة لأقاويلهم ودع عنك أيضا ما نهج به جمع من الباحثين المسلمين من أن الدين يرفض الفلسفة ويبطلها ولا ينسجم معها! دع عنك هذه الأقاويل وتيقن أن الدين لا يدعو إلا إلى الفلسفة الإلهية وهي الحصول على المعارف الإلهية عن حُجة عقلية"(12).
تُرى، أي من الرؤيتين المارتين ينبغي تبنيهما؟ وما الأساس الذي يمكن الاستناد عليه في ذلك؟
نعود إلى القارئ في حلقة قادمة لتقصي المسألة.
............................
المصادر:
1)    الشرباصي، أحمد: له ألسماء الحسنى ج1ص15
2)    الشامي، علي: الفلسفة والانسان ص382
3)    المصدر السابق ص383
4)    المصدر السابق ص383
5)    المصدر السابق ص250
6)    فخري، ماجد: أبعاد التجربة الفلسفية ص158
7)    المصدر السابق ص158
8)    اللواتي، حسن أحمد: المصمم الأعظم ص115
9)    فروخ، عمر: ابن تيمية المجتهد ص35
10)    الحنفي، الامام أبو العز: شرح العقيدة الطحاوية ص205
11)    زكريا، فؤاد: مقال نشرته ندوة عن الفلسفة في الوطن العربي المعاصر: ص43.

تعليق عبر الفيس بوك