محمود عجمي .. التشكيل وجمالياته في الإرث السومري

...
...
...
...


د. حازم السعيدي – ناقد وفنان تشكيلي


الأستاذ الدكتور محمود عجمي تدريسي في كلية الفنون الجميلة بابل .. في معرضه الشخصي كرنفال لمنحوتات فخارية وصحون وتميثيلات طينية ورموز سومرية تخللت بلونياتها الحمراء أروقة قاعة المعارض في كلية الفنون..عزفت موسيقى وتراتيل متأخرة للخير والشر والليل والنهار ..إرث امتدادي لحضارة سومرية ومنه لبابل القديمة وحتى يومنا الحالي .أشكال أنثوية عارية مفعمة بالأنوثة تشير إلى الخصب في الحياة ودوراتها ضمن عصور إنسان بلاد الرافدين, وثيران مفعمة بالقوة .. أساطير، وإشارات للنمو ليست بعيدة عن الفحولة المبكرة, تماثلها "الدكتور محمود عجمي" وصورها لنعيش فترتها الحقيقية، ارتبطت بكل تأكيد بخامة الطين المنضجة بالنار كوسيلة إقواء وتصليب "كل شىء يتهتك بالنار إلا الطين فإنه يقوى "إذ طالما يخامر فنانو النحت حكايات تجنيسهم للخزف والفخار في بوتقة التشكيل الرؤيا والتحصيل, هنا يضعنا (محمود) في إشكالية القوة الأنثوية الواردة عبر آلاف السنين في التاريخ القديم والمعاصر وكيف كان عالمنا خصبا مزدانا بتلاقح قوتين ظهرتا أولا في التنزيل لآدم وحواء وانتقاله إلى الآلهة ثم في الإنسان والحيوان والنبات فيما بعد وكثف الفكر قدراته وأنشد "أنانا، وننخرساك، وننماخ، ونينتو، وعشتار، واورور، وغيرها لترتبط مضامين الأشكال برمزيتها, وتتابع الفصول الأربعة على مدار السنة السومرية, إنها زراعة المواسم وعالمي الماء والتراب, رحلة الموروث تلك اعتقاد فني أنوي وانتقالة لمحور عقائدي ديني أسطوري؛ بل وتتابع مرحلي للمعيش من الصيد والزراعة, إنه استنبات لديمومة القوى الأربع "الماء والهواء والتراب والنار" فلسفة التكوين  لقد جمعت بتقنية التشكيل الطيني في التعبير عن خلجات الذات  ذاتها وصنعت كنصوص منتجة، بل ورموز عنيت بنقل الفكرة إبان معنى الحياة, فذهب الفنان إلى توارث الرمز وإحيائه وصناعته إن تطلب الأمر كما جِىء بها ثيران قوية وأبقار حبلى تدر الحليب..., امرأة ولادة تعنى بالإنسانية جلها معبودات... قدمها "عجمي" على أسس الإلهة الأم بطابع عصري كما عرفناها تاريخيا صورت هيئاتها عارية كامرأة تمثل البيئة والأرض وأشكالها مصحوبة بالغموض الذي بدى جاذبا للقدسية والعبادة, صورت بحركات مختلفة لما تمثله المرأة في وجودها تحديدا بالرغبة والخوف والرهبة جسد تنشأ في أحشائه الحياة وفي صدرها دفق الحياة كالبذور الكامنة في جفافها الحياة، قال تعالى " اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)", فضلا عن الرجل الذي رمزه بشارة القرون في اعتبار للفحولة والذكورة.
إن أغلب محركات الذاكرة في معرض الطين والنار كان يسجل العمق التاريخي للإنسان والحيوان وترادف حضورهما لما وظفته الأساطير آنذاك وما سجلته الصور الشاعرية للماء كونه نبع الحياة واستمرارها فالربيع موسم الزهور والعطاء وورافدا العراق القديم ينعمان بالفيضان مداليل غارقة كما ذكرته أسطورة الطوفان
"والفيضان الواثب لايقوى أحد على مقاومته .. والذي يهز السماء وينزل الرجفة للأرض.. يلف الأم وطفلها في غطاء مريع.. ويحطم يانع الخضرة في حقول القصب.. ويغرق الحصاد إبان نضجه.. مياه صاعدة تؤلم العين.. طوفان يطغى على الضفاف.. فيحصد أضخم الأشجار.. عاصفة عاتية تمزق كل شىء.. بسرعة مطيحة في فوضى عارمة".
إن ما ذهبت إليه تشكيلات ومضامين الصحون الفخارية في المعرض كانت تتقارب لمعتقد الخيال السحري المتصف بالعقيدة السحرية والدينية الأولى في زواج الآلهة على المستوى الميثولوجي وهو ما أريد به من تقديم مثقلات الفكر ومحمولاته واستجاباته في الحفاظ على مظهرية سيطرة الإنسان على البيئة بدافع قد يرتقي إلى أصول الحاجة في تفسير الظواهر السيكولوجية وقراءتها لديه وتعرف بالنمو بحيث تصل بصفة البذرة التي تنمو حيث تبذر وحسب ما آراه فإن التشكيلي "محمود عجمي " جلب إرثه السومري المتعين بـ 5000سنة إلى السطح في العام 2018 لا غير المرأة والرجل وأداة الخصب, وأعاد ظواهر الأمس بملتقى معرضه الحالي "الإلهة , الأرض, رموز المرأة الحبلى جلها واقعية لا زالت محركة لعوالم الطبيعة والمحرضة لدوافع البقاء, من هنا نقيم تناص الفكرة والشكل في أعمال الدكتور "محمود عجمي "وتماثيل النمريك حينما أوجد إنسان العراق القديم تماثيل النمريك العائدة لـ 7500 سنة ق. م جسدت أشكال برؤوس نسور فهي لم تكن أشياء مادية وإنما عبرت عن أرواح فاعلة بوصفها رموزا توحدت فيها الماورائية ووصفت بالعوذ الجالب للحظ والنحس, لذا فإن توليفات "محمود "النحتية لم تأتِ من فراغ وإنما اتساق إرثي حضاري تمظهر بفعل الانغماس في عمق التاريخ, إلا أن مايميز الحديث عن صحون "العجمي" أنها جدلية بين الصحن والجدار وسطوح استوعبت النص التشكيلي للمنحوتات البارزة ذات الجمالية المتطورة, واستعارة فخاريات أطوار حسونة والعبيد العائدة إلى 6000 سنة ق. م كانت تشكيلا زخرفيا ورسوما رمزية لقرون ونساء على سطوح فخارية آنذاك.
أما طور سامراء بالفترة نفسها فقد عني بتميثيلات أنثوية مجسمة, هكذا يركز الفخار هنا بمنحوتاته البارزة على الموضوع والتعبير عنه بفعل الفكرة التي تداخلت معبرة عن سيمانتكس "أي الإشارة في الصورة المنسوخة" لا بماديتها بل بروحيتها فيما جِىء به من إنشاء تكويني ذي مظهرية تصميمية على أساس التراكب لإعلان التشكيل صفة الجمالية وعنوانه.
لذا تجىء التعبيرية التجريدية في منحوتات رمزية واقعية خليط من تراكم الخبرة عند "محمود عجمي" برمزية عالية يتجانس فيها الماضي وتستحضر الآني بعد أن تمكن من فك شفراتها لا أن يكون الغموض والمغايرة أبجديات النحات فقط؛ بل هي ما تم التعبير عنه لضرورات داخلية وإسقاطات ذاتية أعربت عن فن يستحق أن نسميه بـ"الفنولوجيا" بوصف الفن علم تتدخل فيه يد التاريخ والأسلوب والتقنية وينادي بالعودة إلى الأصول البدائية للتعبير وإن تجاوز سياقات قوضت الجمالية وابتدعت التكوينات إلا أنها أبقت الجوانب الشكلية محض دراسة في القادم من لغة التصوير التي انتهجها التجريد للفكرة والتجريد للموضوع والتجريد للتعبير وبالتالي هي معنى الفن وآلياته؛ بل وأدواته.

 

تعليق عبر الفيس بوك