تشيؤ الشخصيات والبحث عن ملاذ في "تلك الوجوه..هذه الأبواب"

 

أمين دراوشة – رام الله - فلسطين

تذكرني الكاتبة الأردنية منال حمدي، بمقولة لنيتشة، تقول: "أكتب بدمك، فتعرف عندها أن الكتابة حياة"، فمنال تكتب بعواطف مندفعة تكاد لا تتوقف قبل أن تجعل القارىء يقف ويفكر في تلك الوجوه في القصة، والأبواب المغلقة بأحكام في وجه الناس البسطاء، الذين يحاولون الخروج من دوامة مقيتة تدور بهم في حياة قاسية لا ترحم.
في اهدائها تقول: "لسنا على مشارف الحياة كي نظل، ولسنا على مشارف الموت كي نمضي. إننا نعيش حالة النقيضين، بينهما عبور لا بدّ منه. وكما قالت لي أمي وهي تودعنا وداعها الأخير: "نحن لا نهاب الموت، إنما نخشى فراق من نحبهم"".
فالحياة طريق مليئة بالقبح والسوء والقسوة، يجمّلها الأصدقاء والأحبة، ويجعلوها أمرا ممكن الاحتمال. قصصها نموذج لما يتصل بحياة الناس، وبالإضافة إلى الفن فهي "تعطي اللذة الفنية والمتعة الجمالية التي يعطيها كل عمل فني إضافة إلى ما لها هي من خاصة أخرى تتصل بما يشغل الناس ويهمهم في الحياة". (محمد زغلول سلام. النقد الأدبي الحديث. الاسكندرية: منشورات منشاة المعارف.ط1. 1981. ص 108-109) كما يقول ولتر ألن.
تتناول الكاتبة في بعض قصصها مجموعة من الهموم التي تحطم نفسيات شخوصها، وتحولهم إلى ماكنات منزوعة المشاعر، أو إلى بشر غير قادرين على تصريف هذه المشاعر والانفعالات. في قصتها التي بدأت بها مجموعتها "يشربه الورد أحيانا"، تحدثنا عن امرأة تشعر بالملل وعدم القدرة على تحقيق رغباتها البسيطة، فهي تعمل خياطة ملابس للنساء والأطفال، ويبدو للوهلة الأولى إنها تعيش مع رجل عاجز جنسيا، فمهما حاولت أن تغريه بمفاتنها، يبدو عقيما وغير قادر على الفعل. وحتى بعد أن تناولت شراب الورد من الثلاجة، وسكبته فوق صدره، ودنت منه، "وردمت كل الفراغات بينهما، لاصقة جسدها به، ثم طوّقته بذراعيها. لكنه ظل كمسمار لا يتحرك من مكانه". (منال حمدي. تلك الوجوه..هذه الأبواب. عمّان: منشورات دار أزمنة. ط1. 2010.  ص12) وتخاطبه بحسرة لماذا لا تحس ولا تشعر، وعندما تفقد الأمل به، تعتمد على نفسها في التمتع بجسدها. والمرأة تبدو تحاول الهروب من واقع مأزوم فتشغل نفسها في صناعة شراب الورد، تعبئة في زجاجات وتضعة في الثلاجة، هي تحب صناعته أكثر من شربه، وباتت تحبذ إهداءه إلى زبائنها.
تحاول المرأة من جديد معه، تداعب صدره بأناملها، وتقول له: "لماذا لا ينبت على صدرك زغب أداعبه تارة، ويثيرني تارة أخرى؟". (ص 12) وعندما يرفض التجاوب، وكأنه صنم، تخاطبه قائلة: "لماذا أنت هنا...". (ص 12)
تستقبل في الصباح أحد زبوناتها، التي تشرع في لبس فستانها الجديد، ومن غير قصد تُسقط "المانيكان" على الأرض، تندفع المرأة لرفعه، وتساعدها الزبونة، التي تعلّق قائلة: "أنه دبق". (ص 14)
وعندما تبدي استغرابها من وجود مانيكان رجل، تقول لها الخياطة: "بدأت أتعلّم خياطة الملابس الرجالية. ربما أفتح مشغل خياطة ذات يوم". (ص14)
إننا بصدد امرأة تعاني نفسيا، تعيش وحيدة دون زوج أو أولاد، وترى يوميا النساء اللواتي يتزوقن ويلبسن أحلى الملابس لينالن إعجاب أزواجهن أو أحبابهن، كما أنها تخيط ملابس للأطفال، وهي التي لم تنجب قط، ولا تملك في الدنيا غير مانيكان رجل، فتحدثه وتشرّبه ماء الورد، وتحاول ممارسة الحب معه. القصة محبوكة باحترافية، ويحتاج القارئ إلى التركيز والخيال ليعرف أننا إزاء أضغاث أحلام امرأة مكسورة ومحطمة.
في قصة "باب سحري..درجات متحركة" تطرقت لفتاة مكسورة الساق وتعاني من التهابات حادة في العظم، ومراجعتها للمستشفى، وانتظارها حتى يأتي دورها، وتشغل نفسها بتصفح الوجوه. "الأيادي المتلاحمة والحانية بعضها على بعض". (ص18) فهناك امرأة تمسك يد ابنتها، وفتاة صغيرة تمسك بيد أمها، ولا يهم من يمسك بيد من، "الأهم أنهما تسيران جنبا إلى جنب، وأنّ هنالك طراوة ما وكثيرا من التحنان". (ص18)
فتتخيل أمها، وأنها ستدخل من الباب لتعاتبها كونها ذهبت إلى الطبيب دون علمها، ولم تعد تسمع ما يقول الطبيب، فهي مشغولة بالنظر إلى الباب في انتظار دخول والدتها.
لم تأت الأم، تمسك الفتاة هاتفها النقّال، وتتصل بها، ويأتيها الرد الأتوماتيكي إن رقم الهاتف المطلوب مفصول. تصدمنا الكاتبة بأن الأم المنتظرة قد فارقت الحياة منذ فترة.
أما قصة "أصدقاء برسم البيع" فبطلها كاتب مشهور ومحبوب، يفاجئ باتصال هاتفي من فتاة تطلب مقابلته، ويدفعه الفضول للموافقة، وتكون المفاجأة المرّة التي تنتظره، تقدم له مجموعة من كتبه، لم يستغرب في البداية فالأمر عادي، ولكنها تطلب منه أن يدقق فيها، تصفحها، فامتقع لونه، وتهجم وجهه، وسألها: من أين أتيت بها؟ فقالت: من محل بيع الكتب المستعلمة. فيقول وكأنه يهمس لنفسه: "من الآن فصاعدا على المثقف أن يصوغ حياته بطريقة تجعل مسافة بينه وبين الآخرين، خوفا من أن يكونوا من فئة صديقي الذي يبيع كتبي، وأنا لم يكن في حسباني صناعة الدروع ذات يوم لأحمي ظهري منهّ". (ص82)
فالإهداء الرزين والمفعم بالحب الذي يزين الكتب المهداه لم يشفع لها، وقام الصديق المقرب من الكاتب ببيعها للخلاص منها، فهو لم يقرأها، أما لأنه غير مهتم بالأدب أو لأنه يشعر بالغيرة والحسد من نجاح صديقه الكاتب. وتخفف الفتاة عنه، قائلة: بيع كتبك في محلات الكتب المستعملة، يجعلها تذهب إلى قرائك الحقيقيين.
يتصل بصديقه بعصبية، ويقول له: "بقي لي عندك مجموعتان قصصيتان ورواية. أريد أن أشتريها منك بالسعر الذي تراه مناسبا. سأدفع أفضل مما يدفعه بائع الكتب المستعملة". (ص82)
فالإنسان في حياته يقابل الكثير من الناس، الذين يتحول بعضهم إلى أصدقاء أو هكذا يعتقد، حتى تثبت الأيام أنهم يتخفون خلف أقنعة زائفة، وأن لا مناص من كشفهم ورحيله عنهم.
في القصة الأخيرة، تروي لنا الكاتبة حياة فتاة في مقتبل العمر، تقضي وقتها في حضور المحاضرات الدينية، تلك المحاضرات التي استطاعت أن تغير من شخصيتها، وتجعلها إنسانه رخوة، وقابلة للانقياد الأعمى. فهي تحب سماع أغاني أم كلثوم وتحفظها عن ظهر قلب، ولكنها تخشى صديقاتها ومرشدتها، فتلك طامة كبرى. تتحضر الفتاة لحضور حفلة زفاف خالها في سوريا، وعندما تزورها صديقتها وتخبرها عن الأمر، تتهجم وتحذرها أن يكون الزفاف مختلطا، فتشعر بالقشعريرة، والخوف من معرفة مرشدتها بالأمر.
وفي نقاش مع أختها حول حضورها الحفل من عدمه، تحذرها قائلة: "هذه خصوصياتك. ثم من هنّ ليغيّرن مجرى حياتكّ". (ص89) فترد أنها منذ طفولتها وهي معهن، فما كان من أختها أن قالت: "منذ طفولتك وأنت عاجزة على أن تكوني مثلهن". (ص89)
وتخبرها أنها حجزت في صالون السيدات لها، وتستهجن الأمر فهي لم تدخل صالونا طوال حياتها، فتخبرها أنها بحاجة لبعض الترتيبات لتكون أجمل، فقد حان الوقت لتخفيف من الحاجبين الثخينين كأنهما لرجل، وإزالة الشعر عن ساقيها.
وتقابل ابن خالتها، وتكون السخرية أنها لا تعرفه، فهي لا تظهر على الرجال، وتجبر على مصافحته، وكونها تصافح رجلا للمرة الأولى، فقد "أهاجها شعور لم تقو على فهمه أو مقاومته". (ص92) وقلبها ازدادت ضرباته، وأخذ تحاول لملمة نفسها.
في الصالون شرعت تتخيل نفسها أميرة ومن حولها الناس معجبون، وحدثت نفسها: "ماذا لو كانا خطّين رفيعين، كم سأبدو سيدة جميلة بحاجبين رائعين، ولكن ماذا أفعل بهما عند عودتي إلى عمّان؟ هل أنقطع عن الجماعة إلى أن يطولا؟". (ص93) فحياتها الشخصية ليست ملكها، والآخر ممثل برفاقتها في المحاضرات الدينية يلعب دورا كابحا كي تنطلق، وتشعر بحريتها في القيام بأبسط الأشياء التي تقوم بها أي فتاة.
بعد إجراء التعديلات على الحاجبين وإزالة الشعر، ووضع القليل من أحمر الشفاه، ومن الكحل، ظهرت كامرأة غاية في الجمال والحسن، واندهشت أختها والقريبات من هذا الجمال المتواري.
حضرت الحفلة وغنت أغنيتها المفضلة "هذه ليلتي وحلم حياتي"، وعندما اختلت إلى نفسها، نظرت في المرآة، وقالت: "لا أدري، ولا أعرف، سوى أنني أكتشف أنني أريد أن أكون حقيقية. أنا الآن أنا...لماذا لم أتعرف إلى نفسي إلا الآن فقط؟...كيف سأواجه من هُم هناك؟ تلك الجماعة والجيران بشكلي الجديد". (ص94)
وتنتصر على مخاوفها وأوهامها، فهي جميلة هكذا وتريد أن تبقى بشكلها الجديد الباهر، وعند عودتها إلى عمّان لم تنس أن تحتفظ بالفستان الوردي هدية خالتها، مصممة على ارتدائه هناك، فهذا قرار لا رجعة عنه. فالشخصية هنا ظهرت هشة وضعيفة أما صديقاتها ومرشدتها، وكانت حياتها منحصرة بين البيت وحضور المحاضرات الدينية، وفي أول فرصة استطاعت بطلتنا التخلص من خوفها وجبنها والانطلاق إلى عالم أرحب، عالم غير معقد يمكن فيه تحقيق الأحلام البسيطة دون أن نضع حواجز بأنفسنا في طريقنا.
إن قصص المجموعة وسيلة الكاتبة في تحطيم أصنام صنعها الإنسان وشرع في عبادتها، ولكن تبقى الحياة معقدة ومتشابكة، فإذا كانت رسالة إبسن "كن نفسك". فإن الدوس هكسلي يجيب عليها: "إني أحاول مخلصا ان أكون نفسي، أي أنني أحاول مخلصا أن أكون ذلك العديد من الناس الذين يقيمون داخل اهابي، وكل منهم يأخذ دوره في أن يكون سيد مصيري". (روبرت مورس لوفت. الأدب والإيمان في الحياة. في: الأديب وصناعته. إشراف روي كاودن. ترجمة جبرا إبراهيم جبرا. بيروت: منشورات مكتبة منيمنه بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر- نيوزيورك. ط1. 1962. ص 24)
امتلكت الكاتبة لغتها الخاصة، المفعمة بالحزن والحسرة، والتصاوير العذبة دون إفراط، ومارست النقد البنّاء، ونتسأل هنا مع غوتيه: "ما الذي انبرى المؤلف إلى القيام به؟ وهل كانت خطته معقولة ومفهومة، وإلى أي مدى نجح في تحقيقها؟". (رينيه ويليك. النقد الأدبي نظرة تاريخية. في: ما هو النقد. اعداد وتقديم بول هيرنادي. ترجمة سلافة حجاوي. بغداد: منشورات دار الشؤون الثقافية العامة. ط1. 1989. ص 292)
اظهرت الكاتبة مقدرة فذة على النفاذ إلى نفوس شخصياتها، وأبانت ما يعتمل فيها من اضطراب وقلق، وأماني وأحلام يسعون إلى تحقيقها بكل مل يملكون من قوة. وتوغلت الكاتبة في اللاوعي في الشخصيات، وتلك مهمة شاقة، وعرّف لورنس اللاوعي بأنه: "الطبيعة الجوهرية الفذة لكل مخلوق فرد، تلك التي يستحيل - بطبيعتها- تحليلها أو تعريفها أو استيعابها. ليس استيعابها ممكنا وإنما: تستطاع تجربتها في كل حالة على حدة". (روبرت مورس. مرجع السابق. ص 24)
لمنال حمدي موهبة لا تخفى على القارىء الحصيف، والناقد البنّاء، وهي تكتب عن واقع بائس معاش، ومحسوس ومحاولات البشر تخطي العقبات.
 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك