"ارتدادات الهوية في شعر نورة النمر"


رجاء البوعلي - السعودية
 
تعكس الشاعرة نورة النمر في مراياها الأولى الرمادمائية وجوها مزدوجة للهوية، كقضية تعتلج روح الشاعرة فتعبر عنها عبر ارتدادات شعرية توزعها على النصوص تارة بإدراك معنوي لغوي مباشر وأخرى على هيئة مُغلفة بحرفٍ آخر لكن قاعه يشير للهوية بصورة أخرى. فتأخذنا عبر ارتدادات متباينة منها:  الانقباض والغياب، الانشراح والانبساط،  الهوية الشعرية، الانتماء للأرض، البحث عن الهوية وأخيرا الهوية الروحية.

في ارتدادها الأول "انقباض وغياب الهوية" المتمثل في قصيدة "لو أن لي" تقول:

أنا لست أدري مالذي سرق الخطى مني
فأربك وجهتي
لأسير في الفوضى
وصمتي في انعطاف

"الخطى"، "أربك وجهتي"، "انعطاف" افتتاحية لنص يميل بشدة من مساره الذاتي، خاضعا لسير مفروض عبر سرقة خطواته عن طريقه المنتخب من الذات نفسها، متوجها لشارع الفوضى بصمت عميق.

لا اسم لا عنوان لي
وجهي هو النقش الذي خلف السنين
تركته في الحزن منفيا
يبعثره الجفاف

هذا المقطع يفيض باعتراف جريء، تعدد فيه الشاعرة عناصر الهوية المعروفة لدى الجميع؛ الاسم والعنوان وصورة لوجه الإنسان، ولكنها عناصر بقيت راقدة في السنين الخلفية للزمن؛ تعتصر بالجفاف.

لو أن لي لغة المكان أو الزمان
فتحت أوردتي ملاذا
للعصافير التي عبرت
إلي من الشغاف إلى الشغاف

هنا، تمني ممزوج بحسرة وأمنية بالحرية تصيغه النمر عبر عنصر رابع للهوية وهو اللغة؛ فلو أنها تمتلك لغة يتسع لها المكان والزمان لشرعت حجراتها ملجأ للمهاجرين والعابرين في طريق الارتحال والهجرة من هوية ضاقت عليهم.
 
لو أن لي لغة البحار
لرحت أختلس اللآلئ
ما تجيد من البريق
ورحت أكتب موجة أخرى
يقسمها الهوى ما بين
قلبي والضفاف

تكرر الشاعرة "لو" في تأكيد لعدم تمكنها من امتلاك لغة البحار، كناية عن العمق والاتساع فلو حدث هذا، لاقتنت أثمن الأشياء والمعارف وعادلت ما بين مركز عاطفتها و حدوده الواصلة بالعوالم الأخرى.

كذلك في نص "تغريدة":
تعبنا من الصمت رغم الكلام
متى يا ترى يختم المشهد
وفي كل أفق ضجيج الحياة
ينادي بنا ..
غردوا ..
غردوا ..
تنقض النمر ضجيج الكلام بتعبير مباشر "تعبنا من الصمت" فكيف يكون هذا؟! الكلام الذي لا يقدم ذاتك للعالم ليس من الكلام بل من الصمت الإجباري المتعب. تتبعه بانتظار ساخن للختام، فقد نفذت أمنية الكلام تحت سجن الصمت وذلك لغياب الحرية في كلام واقع تحت قيود المحاسبة الفكرية و الاجتماعية.

ثم تستعرض مشهدا يغيب الهوية عبر الانقباض والتلاشي، فتكتب:
أتلاشى الآن من الأسماء
من الأوراق المنسية
من عمق خيالات الشعراء
من كل زمان، كل مكان
من آخر حفنة عشق في الوجدان
من أعبق عطر مر بذاكرة الإنسان
 
في هذا المقطع، الاضمحلال يتمدد في ذات الشاعرة فيخفيها من الأسماء؛ أول عنصر في الهوية! تؤكد هذا الغياب بالاختفاء من الأوراق التي تثبت وجود الإنسان، حتى الخيال تلاشت منه تلاشيا صارخا، فخلا منها الزمان والمكان، كله!  انتهت من آخر نبضة في الشعور، و حُذفت من الذاكرة الإنسانية مرة واحدة!

أتلاشى الآن
ستبقى الأحرف والكلمات
تفتش عن باب المعنى
عن شعلة نور

هنا، لا مفر من بقاء هوية الشاعرة عبر صنعتها بحياكة الأحرف والكلمات التي تخلد الأثر، في رحلة بحثية عن ملاذ للمعنى والنور. وهذا هو ما يخلفه الأديب من أثر ومعنى منفصل انفصالا تاما عن حدود الجسد الذي قد يغيب ويرحل في حين ما بينما تبقى حروفه تتجاوز الوقت والمسافة.

أتلاشى الآن ولكني
أفتح نافذة للأعلى
لأمد جسور حكاياتي
وأبوح بغير النهايات

فقدان أمل التواجد على الأرض، يفتح أفقا للولوج إلى السماء فهي الحياة الأبقى في ذهنية الشاعرة ولهذا قصدتها بعد انقطاع أملها من الحياة بهوية ذاتية منتخبة.

أتلاشى الآن وبي ألم
مازال يردد موسيقاه مع الأشجان

تخرج الشاعرة من جو القصيدة بتصريح عن سبب التلاشي الذي تدرجت في سبكه عبر مقاطعها الشعرية باعتراف واضح: "أتلاشى الآن وبي ألم" وهنا لفتة للقارئ لكمية الألم و ثقله الذي أودى بها إلى هذا التشتت الهوياتي و آل بها إلى التلاشي الكلي.

أما قصيدة "في عتمة المجهول"، فيتصاعد فيها الانقباض والغياب لحد السجن للهوية في قاع فكر قديم لم يتقدم مع مرور الوقت، بل بقي يبني الركام فوق الركام من التراث والأعراف والعادات البالية:
أستطيع القول أني لم أزل
في القاع من أدمغة لم تغتسل بعد
بماء الوقت
لم تشرع مراياها لتيار العبور
أستطيع القول أني لم أزل تحت ركام
التصفيات البالية
كتلة أعراف
وأهداف تغني
حسب إيقاع تراثي ممزق
لم أزل
أما عن "انشراح وانبساط" الهوية فتكتب قصيدة "بلا لغة":
أنا في الشوق خارطة
بلا لغة ولا حد
فبعدي سره قربي
وقربي سره بعدي
مضيعة فصولي بين
ماأخفي وما أبدي
مسافاتي مجازات
تحرض أحرفي ضدي
تنبسط الذات بانبساط العاطفة لتتأرجح بين اللانهايات واللا حدود، هكذا تشبه الشاعرة أناها المُشتاقة بخارطة تتجاوز الحدود واللغة، وتتماهى بين الأبعاد المتقابلة قائلة: "فبعدي سره قربي وقربي سره بعدي" ففي هذا المشهد تنفتح لهفة الشوق على ناصيتين تصب عبرهما الشعور سلسبيلا.
وفي موضع آخر، لم تغفل الشاعرة عن "الهوية الشعرية" التي هي جزء لا يتجزأ من الكون المحيط بها، فتقول:
أصغي إلى الكون في أنقى سرائره
                                          كل الجهات كنايات تغني لي
ثم تُعمق الشاعرة روابطها الشعرية بعناصر أصيلة في الجسد الإنساني كـ "الدم، الشريان، الساق" كناية عن الكيان الواحد في سبكة تدمج بين الجسد والشعر، فتقول:
فللقصيد دم، شريانه قلقي
                                             يسري كنهر من الأوجاع مأهول
فالآن أكشف عن ساق المجاز إذا
                                          أطلقت عبر خيالي ألف إزميل
 
ثم تعود الشاعرة إلى هويتها الأصلية عبر ارتداد "الانتماء للأرض" باختيارها لبقعة جغرافية تعكس هويتها الوطنية المُحددة في قصيدة "هجر القلوب":
أركض برجلك إنها الأحساء
                                        الناس هم ينبوعها والماء
ولأنها هجر القلوب وعرشها
                                  فالكل بين ظلالها أمراء
يحتار فيها الحب كيف يقيسها
                                  وبكل ناحية تطل سماء
وهنا استحضار مباشر لملامح الواحة الهجرية "الأحساء" بذكر الينابيع والماء كرمز لاخضرار وخصوبة هذه الأرض، يقابلها ازدهار قلوب أهلها و كرمهم وعزتهم في تصوير مبهر لهطول الحب عبر نواحي السماء وجوانبها.
"البحث عن الهوية" هو ارتداد سريالي يطرقه كثير من الشعراء المعاصرين، تستعرضه الشاعرة في نص "حلم سريالي":
سأحتاج أن أرسم الآن
بابا يؤدي
إلى غير هذا
الزمان
سأجعله مشرعا كالسماء
ومن حوله للمنى شرفتان
وأحتاج جيلا من الدمع
كونا من الشعر
بقعة ضوء من اللامكان
يرافقني التيه
نغدو معا
تتغذى بأحلامنا غيمتان
 
وأخيرا؛ يرتد صدى الهوية الروحية العائدة للموجد الأول، بعد رحلة عناء و يأس من ملجأ أرضي لهذا التيه، إيمانا ويقينا بأن الملجأ الآمن سيكون سماويا في نهاية المطاف. تقول:
أشعلت من وهج الآمال مشكاتي
                                       وسرت نحوك في كل اتجاهاتي
مهما تعثرت في دربي سأسلكه
                                     ففي النهايات باب نحو جناتي
رسمت لي فضاء الوجد خارطة
                                      من الدموع بما شيدت في ذاتي
ورحت أبتكر الأحلام في لغة
                                                                        تبث في الروح أسراب الخيالات
إليك وحدك يا رباه قد سجدت
                                        هوية الحب في أزهى المجرات

باكورة مليئة بالإبداع اللغوي والفن التصويري و المعنى الآسر في كثير من النصوص الشعرية جمعتها الشاعرة نورة النمر في "مرايا الماء والرماد" حيث عكست هذه المرايا ألوان شعرية متعددة بين القصيدة العمودية و التفعيلة و قصيدة النثر وفي كل تجربة تنعكس لفتة جميلة.

 

تعليق عبر الفيس بوك