متلازمة "شراء حضارة" !

 

عاطفة بنت علي السهلانية

لقد كان لعائلة "جوخ" السويسرية ولدٌ من صُلب السيد "جوخ" يُدعى "دت"، وعندما بلغ الثالثة والعشرين، قرر أن ينفصل عن والديه ويبني حياته لوحده، فمنحه والده مبلغًا من المال لا يتجاوز 500 دولار أسترالي، به تمكن "دت" من شراء مواد خام لصنع سيارات صغيرة الحجم جدًا للعب الأطفال، حازت على إعجاب مصنع ألعاب مرموق، فاشتهر "دت" بصفته صانع سيارات الألعاب وهبت عليه عواصف المال حتى غدا أثرى الأثرياء في أستراليا.

ولكن، كان "دت" يُعاني من عُقدة وهي أن أساس ثروته (500) دولار أسترالي التي صنع منها ما صنع، ترجع إلى والده، فتاريخ نجاحه غير منفصل عن أموال أبيه، بل لا تاريخ مالي له إلا ذاك الذي وهبه له أبوه يوماً.

ظن "دت" أنَّ ثروته ستساعده على شراء "تاريخ" مالي مُستقل له عن والده، فسعى إلى البحث عن وسيلة تقطع صلته بمال أبيه نهائيًا، إلا أنَّ البحث أعياه، إذ لم تتمكن أرصدته المالية الهائلة أن تمد يد العون له، ذلك ببساطة، لأنه لا يوجد متجر في العالم يبيع التاريخ لأحد إلا إن كان مزورًا!

لكن عقدة "دت" كانت أعقد بكثير مما تصور حتى هو نفسه! فلقد دفعته إلى "سرقة تاريخ ليس له وفي وضح النهار"! لقد قادته إلى "نهب" تاريخ والده، فلقد ادعى أنه عندما كان طفلاً، أبدع اختراعا جنى منه والده مبالغ كبيرة، فالخمسمائة الأسترالية، زعم "دت" أنها أساسا أمواله التي أهداها لوالده عند بيعه لذلك الاختراع المزعوم!

ولم يخجل "دت" أو يستحي عندما طولب بتقديم ما يثبت أنه صنع اختراعاً وباعه، لم يخجل أو يستحي أن يقول: "لا أملك دليلا" بل لم يجد أدنى حرج في أن يضيف على دعواه "بأنَّ الدلائل للعجزة فهم معنيون بتقديمها وليس أمثاله"!

ولم تمضِ أيام حتى صدق "دت" أن تلك الخمسمائة فعلا كانت هدية منه لوالده جناها من اختراع له باعه وهو صغير! صدق "دت" الكذبة التي أطلقها، وسعى لتحويلها إلى "صدق" بشهادات صنع مزورة!

يشبه حال "دت" حال بعض البلدان "الصغيرة" التي كانت تقبع على ساحل لبلد رابض بجذوره في عمق التاريخ الغائر، ثم استقلت عنه، ولما وجدت أنها بلا هوية تاريخية وحضارية، إلا إذا أرجعت نفسها إلى ذلك البلد الذي كانت جزءا منه وقبلت أنه لا تاريخ ولا حضارة لها إلا تاريخ وحضارة ذلك البلد، وإذا بها تمارس "نهباً" مكشوفاً، لتاريخ وأصالة وحضارة ذلك البلد فتدعي دون خجل أو حياء، وبشهادات تفوح منها روائح التزوير العفن، أنّها ذات تاريخ وحضارة مستقلة كليًا عن أصلها.

إنها عُقدة "دت" أو لنقل، "متلازمة شراء حضارة"، بأي ثمن كان، والتي اجتاحت تلك البلدان الصغيرة، فباتت وليس لها هم إلا هذا الهم! متلازمة تدعو إلى السرقة في ضوء الشمس المشرقة، دون إبداء أدنى اعتبار لذهول وحيرة وتعجب، بل وضحك واستهزاء العالم من حولها.

وإذا بنا نشهد سرقة "شخصيات تاريخية" ينتمون أصالة لهذه الأرض التليدة، هذا بعدما شهدنا نهبا مستمرا لفلكلورات التراث الحضاري لوطننا، ولباسه الرسمي، بل بلغت الجرأة بالمصابين بمتلازمة "شراء حضارة" أن يقوموا برسم خريطة لأرض السلطنة وقد أفقدوها بعض مواقعها التاريخية، وكأن خارطة السلطنة تقبل أن تتمدد خطوطها أو تضيق كيفما شاءوا!

قد يُقال: هل من جدوى للتصدي لهذه السرقات العلنية المفضوحة والتي تتم أمام مرأى ومسمع العالم؟ ماذا عساها أن تُحقق غير تشويه سمعة السُراق؟

المشكلة هي أننا نعيش زمنا، تتحول فيه الأكاذيب إلى حقائق مع مرور الزمن بتكرارها، وللسلطة الرابعة دور كبير في تعتيم الحقيقة وبالمقابل إضاءة الخرافة وجعلها محل الحقيقة. فقبل سنوات قليلة فقط، تمكنوا من الكذب على العالم لإقناعه بوجود أسلحة نووية في حوزة العراق، حتى يسهل اجتياحها!

أيضًا، اخترعوا مصطلح "المجتمع الدولي" والذي لم يكن ليعبر إلا عن بلدين أو ثلاثة فقط من الذين أرادت حكوماتهم تحقيق مآربها وأطماعها في خيرات البلدان الضعيفة، ولكنهم جعلوه يبدو للناس وكأنه يعبر عن إرادة أغلب بلدان العالم! قبل أيام قصفوا "دوما" بكذبة! والأمر لا ينحصر في الوقائع السياسية، وإنما يتجاوزها إلى العلوم والاكتشافات وغير ذلك، فكم من فرضية تم ترويجها وتدشينها كنظرية علمية أثبتت واقعيتها بالتجارب المتكررة!

ما يُدرينا، وبانشغال أجيالنا عما يُحكاك لتاريخنا من مؤامرات النهب، أن يأتي زمن تبدو فيه الثروات التاريخية المنهوبة ممتلكات مرضى متلازمة "شراء حضارة"؟! هذا، إن لم نخطو خطوة جادة لردعها، ونقول لأصحابها: "لقد طالت اللعبة وتجاوزت حدودها"؟!  

 

تعليق عبر الفيس بوك