نظرية المؤامرة!

 

أحمد الرحبي

إن تحميل المسؤولية على الآخر، والارتياب والتوجس الدائم منه، هو مزاج نفسي يسيطر على الكثير من الشعوب في العالم، حيث تستسلم بسهولة لهذا المزاج، الذي تجد فيه تفسيرا لأزماتها، ومخرجا يوفرا بابا مواربا للهروب من مواجهة الذات القومية أو الوطنية، ومن تحميلها المسؤولية عن الأزمات وحالة الفشل التي تعيشها.

ولا يعد العرب هم الوحيدون الذين يأخذ ما يعرف بنظرية المؤامرة حيزا واسعا في تفكيرهم الجمعي، والذين بالرغم من أنهم يكاد يحملون الغرب أو الآخر المسؤولية، عن كل كبيرة وصغيرة من الأزمات الحضارية والاقتصادية والاجتماعية المتراكمة التي يعاني منها العالم العربي، والتي يبدو إنه لا يتوفر مخرج في المدى القريب منها، ففي الجوار الإقليمي كما في أفغانستان وإيران، وكردستان العراق على سبيل المثال، نجد أن نظرية المؤامرة لها حضور طاغي في الذهنية الشعبية، حيث تعتبر أكثر أهمية وشعبية وتأثيرا على الناس في تفسير الوضع السياسي والاجتماعي الداخلي المأزوم، ففي أفغانستان استقر في العقلية الأفغانية أن البريطانيين كانوا مازالوا يقبعون خلف الظل، يتجسسون ويتآمرون عليهم، وأنهم مازالوا يعملون على التدخل في شؤونهم لتصبح أسوأ، وهناك إيمان راسخ على المستوى الشعبي بحكايات عن عملاء سريين يتخفون في صورة أئمة يضللون المتدينين، وآخرون يتظاهرون أنهم عرافون ويعرفون كنوزا مخبأة في الأضرحة ويحرسها رجال يتظاهرون بأنهم متسولون، وفي كردستان العراق لم يكن الهاجس الوطني حول نظريات المؤامرة أمرا أقل تجذرا في الوعي الشعبي. فكما يوضح أحد مراسلي هيئة الإذاعة البريطانية BBC متناولا هذه الظاهرة: أخبرني صديق كردي أن والدته ستتهم البريطانيين إذا سقط جدار في حيهم نتيجة هطول الأمطار الغزيرة، مضيفا في نفس السياق، وكان لدى الإيرانيين شخصية في إحدى المسلسلات الطويلة، كانت مصابة دائما بجنون الارتياب في أن البريطانيين كانوا يدبرون شيئا ما.

وإذا اتجهنا أبعد بكثير من جوارنا الإقليمي، في امريكا مثلا، حيث نجد في بداية الخمسينيات إن السناتور جوزيف مكارثي، نجح في أن يقنع عددا كبيرا من الامريكيين بوسواسه المناهض للشيوعية، والذي دفعه إلى أن يرى في كل شيء، مؤامرة شيوعية على الشعب الامريكي.

ورغم أن هذه النظرية تعتمد على بعض الدلائل التي لا يمكن نفيها أو دحضها بسهولة كما في حالة القوة المسيطرة للغرب في العالم والهيمنة الناتجة عنها، مضاف إلى ذلك الإرث الاستعماري للغرب، والذي قد يؤثر أو يحكم بدرجات متفاوتة، تعامله السياسي والاستراتيجي مع دول العالم، لكن الميل إلى إعطاء كل حدث مأساوي طابعا تآمريا تم تحضيره في سرية من قبل فرد أو مجموعة من الأفراد المهمين - فكل ما يقع هو نتيجة لإرادة خفية، فلا شيء يحدث مصادفة، حيث كل شيء مترابط، لكن بشكل غامض وسري - هو ما تطرحه دائما العقليات التي تؤمن بالمؤامرة، والتي يأخذونها على إنها واقعة حقيقية، يجمعون ويحشدون لها الأدلة بهدف دعمها ومساندتها، وبرغم أن هناك مؤامرات حقيقية، لكن ما يجب فهمه في هذه الحال هو لماذا لا يرى اصحاب نظرية المؤامرة التاريخ إلا بهذا الشكل، مستبعدين أي دور للمصادفة، أو للخطأ البشري في الأحداث، أو لحقيقة الوقائع؟

إن أحد التفسيرات لفهم عقلية المؤامرة يقول: إن نظرية المؤامرة مفيدة لأنها تحمي من القلق، ففي عالم يعج بوسائل الإعلام المعقدة، ويخضع للا يقين، فإن عالم المؤامرة يتسم بالبساطة، كما أن الدوافع وراء ذلك يكمن في الغالب، في الغواية التي تمارسها نظرية المؤامرة، مع رؤية تبسيطية للعالم تتميز بتناسقها وانسجامها، تقوم على تقسيم العالم مابين الخير والشر، مما يؤدي إلى وقوع المتآمر نفسه ضحية معتقداته، حيث ذهنيا يفسد قدرته على الحكم الصائب.

ولتفسير التمسك بنظرية المؤامرة والإيمان القوي بها، من الجانب النفسي، يمكن الجزم إن التقارب بين المصابين بالهذيان والذين يؤمنون بالمؤامرة ، في رأي بعض الباحثين في علم النفس الاجتماعي، فهناك من وجهة نظرهم الوسواس نفسه، والعناد نفسه في تقديم الأدلة، والعمى نفسه تجاه الوقائع والرفض نفسه في الاعتراف بالخطأ في استدلالاتهم.

الهروب من مواجهة الواقع وتحميل المسؤولية للآخر بشأن المآلات الصادمة التي استقر عليها واقعنا، والإيمان بخرافة أن هناك من يحيك الدسائس ضدنا ويتآمر علينا، هي المرتكزات التي ترتكز عليها نظرية المؤامرة، ففي التسعينيات من القرن العشرين كان أكثر كتاب انتشارا في العالم العربي والإسلامي هو كتاب بروتوكولات حكماء صهيون، الذي انتشر بعد ترجمته كانتشار النار في الهشيم، والذي يصف مؤامرة صممها حكماء يهود من أجل أن يهيمنوا على العالم، برغم أنه تم في العام 1921 الكشف عن أن الشرطة القيصرية الروسية هي من طلبت من أحد المزورين وضع هذا الكتاب والذي شكل أطول مؤامرة خرافية مع حلول القرن العشرين، وهو مازال للأسف هناك من يعتبره بمثابة النموذج الحقيقي للمؤامرة، في إطار استمرار الرواج الواسع لقصص المؤامرة في العالم على شكل كتب وأفلام جاسوسية تسهم في تشكيك المواطنين في حكوماتهم، مضاف إليها رواج لنوع آخر من المؤامرات يجتاح العالم، تلك المتعلقة بالكائنات الفضائية، التي اتخذت صورا إنسانية وتعيش بيننا، بتواطؤ إنساني!