تحويل القبلة في الصلاة.. الغايات والمآلات

محمد عبد العظيم العجمي – مصر


نحتاج فقط لقليل من التأمل والفضول، لنعلم أن السياق القرآنى لا يكاد ينفصل فى كثير من الموضوعات حتى يجتمع، وإن تعددت الحوادث التى يتناولها، والقصص التى يفصِّلها، والأغراض والدلالات التي يرمي إليها؛  فإنه يظل هذا الربط الظاهر فى مواضع ـ والجوهرى فى آخرـ لأن أحادية المنهج وأحدية التنزيل تقتضى ألا يعتريه شيء من شطحات البشر ولا غفلاتهم (ما فرطنا فى الكتاب من شيء)، ثم لنُعمل بعد ذلك فيه عقولنا من التدبروالتفكرلنفهم الظواهر ونستوضح الكوامن، ونستفتح المغاليق، ونسأل عما جهلنا، ونطلب المدد فيما توقفت فيه عقولنا وأفهامنا..
وعلى نسق ما تناولناه من أمر الإسراء والمعراج نقف بالروية عند حادث تحويل القبلة،  تكاد المواقف أن تتشابه والنفوس كذلك (المذعنة والمعرضة)، ولكن يظل " لكل حادث حديث".
التمهيد الإلهي لتحويل القبلة:
فى سورة البقرة يتناول القرآن قبل (تحويل القبلة) قصة إبراهيم عليه السلام وذريته من الأنبياء بشيئ من التفصيل المنهجى، يشرح فيه قصة بناء البيت (مع اسماعيل) عليه السلام، وهذه الدعوة المباركة لمكة وأهلها بالرزق والبركة، وأن ينعم عليهم برسول من أنفسهم "يتلو عليهم آيتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم". (سورة البقرة)، ثم يقول إن هذه الملة الواحدة التى ارتضاها ربنا للبشرية وأرسل بمقتضاها الرسل إليهم، لا يرغب عنها بعد ذلك إلا سفيه، يضطر فى الآخرة إلى عذاب النار وبئس المصير، ويؤكد هذه الملة على لسان إبراهيم (عليه السلام)، "ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك". (سورة البقرة)، وذلك حتى لا ينبري دعيٌّ بعد ذلك ـ وقد حدث ـ فيفتري على الله الكذب ويقول "إن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا".
ثم يؤكد إبراهيم (عليه السلام) على وصية ربِّه له ويؤديها لبنيه قبل موته كما أمر بتبليغها، وكذلك يفعل أبناؤه من الأنبياء " وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) ". (سورة البقرة).
وهكذا يؤصل القرآن للعقيدة التى لا تتعدد ولا تتغير ولا تتبدل، وإن تغيرت مناهج الشرائع فإن العقيدة والمنبع لا يتغيران، فإذا كان إبراهيم هو الوصي الأول الذى وصّى بهذا الأمر ثم وصى بها بنيه من بعده، ثم جاء محمد (صلى الله عليه وسلم) من ذريته، استجابة من الله لدعوة أبيه إبراهيم، وامتدادا للمنهج الرباني، ولم يخرج النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - عن سنة أبيه ولا الأنبياء من بعده وقد آمن بمثل ما آمنوا به، فلا تقوم حجة لأحد أن ينكر رسالته بعدما جاء به، وقد سبق لهم به الخبر جميعا، فلا يعقل إلا أن يكون رسولا من عند الله، وقد أتى بسنة من قبله بيضاء نقية، ولا يكون لبشر بعد ذلك إلا التصديق له والإيمان بما جاء به من الشرع وإن اختلف بعضه عما سلفه.
حادث تحويل القبلة:
مكث رسولنا محمد يصلي (صلى الله عليه وسلم) ستة عشرشهرا أوسبعة عشرـ على اختلاف الرواياتـ ، ثم يأتى له الأمر من ربه استجابة لتقلب وجهه فى السماء ، بالتحول من بيت المقدس إلى (الكعبة)، وهنا تكون الفارقة ..
أولا: الفئة المؤمنة: وهم الذين أقروا لله بالواحدانية ولرسوله بالرسالة، وأخبتت قلوبهم، فما كان منهم إلا كما أثنى عليهم القرآن أن قالوا "سمعنا وأطعنا"، فصلى بعضهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الكعبة بعد نزول الآية امتثالا للأمر دون جدال، وبلّغ الشاهد منهم البعض الآخرالذى كان يصلي فى مسجد قباء، بأن القبلة قد حُوِّلت إلى الكعبة فتحولوا بوجوههم شطرها، امتثالا للأمر أيضا، وما تخلف منهم أحد وأصبح مسجد (القبلتين) شاهدا على إيمانهم.
ثانيا: الفئة الكافرة: وهم الذين أتتهم الآيات البينات تترى، كلما جاءتهم آية كذبوا بها، وأقاموا على أنفسهم الحجة، من أهل الكتاب والمشركين، أما أهل الكتاب: " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) "، وهل هناك حجة على الإنسان أقوى من هذه الحجة الدامغة التى تعرفه الحق من داخله مثل مايعرف ابنه ومع ذلك فهو منكرله وجاحد، وإذا كان جنبات قلبه قد أقرت بالحق وأذعنت له نفسه رغما عنها، ثم أنكره، فأى آية من خارجه يمكن أن تغنى عنه بعد ذلك ؟! ومع نعت القرآن لهم بالسفه والتقديم لقولهم قبل أن يقع، ومع امتلاكهم تبرئة أنفسهم من هذا الوصم (السفه)، فيعرضوا عن القول به، إلا أنهم يؤكدون بفعلهم صدق القرآن عليهم وتحق عليهم السفاهة ويأخذون فى الترديد والطعن والإرجاف، وعلى نمط "الإسراء والمعراج" يتولى الحق الرد عليهم بعد هذا التنطع، فالقبلة الأولى والآخرة لم يتولها محمد (صلى الله عليه وسلم) ولكن ولّاه الله لها، فقال: (فلنولينك)، وقال: (فول وجهك)، وقال: "وما جعلنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول". (البقرة)، والنص واضح لا يحتمل الوجوه، وهو أن استقبال بيت المقدس، ثم التحوّل عنه بعد زمن لم يكن بإرادة محمد (صلى الله عليه وسلم) بدليل أن الله قال له (قد نرى تقلب وجهك فى السماء)، فلو أن الأمركان له لما احتاج أن يقلب وجهه فى السماء ولا أن يدعو ربه "سبعة عشر شهرا" ، ولاستدار إلى الكعبة مباشرة فاستقبلها، إنما هو مأمور.
ويرد الحق على المرجفين فى زعم آخر وهو ما سلف من صلاة المسلمين إلى بيت المقدس.. كيف حكمه؟ هل  ضاع أجره أو بطل؟!، وما كان الله ليضيع عمل عامل وهو مؤمن يمتثل لأمرالله، كيف وهو بعباده الرؤوف الرحيم.
الدروس من الحدث:
إن هذه النفوس التى لا يألو القرآن فى كشفها ، ودحض حججها ، لا تفارق أفعالها ولا صفاتها إلا بمفارقة الحياة ، ولايخلو منها زمان ولا مكان حتى قيام الساعة، ثم تأتى فتقول: "ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين"، إنهم علموا بما جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم) أنه لم يكن بدعا من الرسل، وقد خبرهم عن آباءهم من الأنبياء الذين تولوا هذه القبلة من قبله، وقبلها قد جاءوا بمثل ما جاء به، واستفتحوا على الكفار فى الجاهلية بقدومه واتباعه "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين" البقرة، ولكن ..
قد تنكرالعين ضوء الشمس من رمد      وينكر الفم طعم الماء من سقم
وما انتفاع أخى الدنيا بناظره              إذا استوت عنده الأنوار والظلم
وقد كان للقرآن أن يجعل كلام هؤلاء وسفههم خلفه فلا يلتفت إليه، ولكنه يعلمنا أن الحق لابد أن يكون له "أدلة دامغة" تفند أباطيل المدعين والمبطلين، وأن ينبري أهل العلم "ليذودوا عن حياضه، ويذبُّوا عن رسالته فتبقى ناصعة جلية ، أما أن يلبس الحق بالباطل، فيترك الحق بلا مدافع حتى تغيب معالمه فى غياهب الباطل فهذا حجة على أهل الحق وإضعافا لحقهم القوى الذى قال الله عنه " بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18). الأنبياء" ، وقال " وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81). الإسراء"، فالباطل مهما علا وانتفش فهو إلى زوال، ولكن على شرط قيام أهل الحق بواجبهم، وقد أثنى النبى صلى الله عليه وسلم على :(النابغة الجعدى ) حين قال :
فلا خير فى حق إذا لم تكن له بوادر تحمى صفوه أن يتكدرا، فقال له النبى "لا فضَّ الله فاك" .
ويعلمنا القرآن أن سنة المبطلين والمعاندين لا تنفك عن الأرض والكون حتى تقوم الساعة ، وإذا كان أهل الباطل فى مراء وجلد، فالأولى بأهل الحق أن يكونوا أكثر منهم، وأشد قوة وتمسكا بالحق والوقوف له، حتى نزايد عليهم فى كل أمر ولا نكون فقط مثلهم، فقال فى التمسك بالتوحيد " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله. البقرة "، وقال فى الصبر والجلد فى الجهاد " إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140). آل عمران "، ولكن ليس هذا فقط إن الله قد جعل للحق من لدنه سلطانا نصيرا، وجعل تأييده لعباده المؤمنين ، فأنى يؤفك أهل الباطل " وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا" (104). النساء" .   
أن التمحيص سنة من سنن الله فى الكون، ليميز بها الخبيث من الطيب، " وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141). آل عمران " ، فقال فى تحويل القبلة " وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143) . البقرة" ، وليقيم الله الحجة على أهل الكفر بما يسوق لهم من الآيات البينات ، ويذهب خبث النفوس المؤمنة كما تذهب النار خبث الحديد والذهب والفضة .
ولا يغيب عن خاطرنا ما يحاط بأمتنا ويحاق بها ، وما تتداعى عليها به الأمم ، ولكن لا شك أنه تمحيص للمؤمنين، واستخلاص الله لهم من ركام المنافقين المهرولين نحو الغرب يسارعون فيهم خشية أن تصيبهم دائرة ، فإذا جاء وعد الله سيبقى كل فى مكانه، فلا يدخل الإيمان ولا يخرج الكفر، وستثبت القلوب المؤمنة، ويخيب ظن المرجفين، وتصير أفئدتهم هواء، يقول القائل منهم " يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا " .

تعليق عبر الفيس بوك