د. عبدالله باحجاج
كنت شاهد عيان على عملية إعدام مزرعة جديدة في وضح النهار، رأيت بأم عيني الجرافات والآليات تقتلع أشجار النارجيل (جوز الهند) والفافاي والموز والزيتون والحشائش، وتردي بها كجثث هامدة على الأرض، بعضها تحرق في عين المكان، والأخرى تحمل إلى أمكنة المخلفات، محدثة تلوثاً في المكان، لم تلتفت إليه أجهزة الرقابة البيئية، ولم يحرك ساكناً رسمياً أو مجتمعيًا.
هذه المزرعة معروف عنها أنها مثمرة وعالية الجودة وغزيرة وعذبة مياهها، من يمر عليها أو يجلس في (بلكون) مقهى جاليري المجاور لها، تسره مناظر أشجارها، وتغريد طيورها وتدخل في نفسه البهجة والسعادة.. وعندما كنت أشاهد المنشار يقسم أشجار جوز الهند، ويسقط كبريائها من علوه وشموخه إلى الأرض، والجرافات تقتلع أشجار الموز والفافاي، والناقلات تحملها، سيارة تلو الأخرى أمام مرأى الكل، تساءلت هل نكره هذه الأشجار لهذا الحد؟ أهكذا نتعامل مع ثرواتنا التي كانت مصدر رزقنا الوحيد في الأزمات؟ أهكذا نستغني عنها بهذه البساطة، وبتلك الكيفية والسلبية؟ أين المبادئ الأخلاقية الطوعية والإلزامية التي ينبغي أن تجبرنا على احترام هذه الأشجار التي تشكل شخصية جغرافيتنا الإقليمية؟ هل لدينا ضمانات إننا كجيل حالي وجيلنا المقبل لن نحتاج إليها، ولا إلى أراضيها الزراعية؟ لماذا يتم إعدامها بهذه الطريقة المؤلمة؟
إنها القضية نفسها التي فتحناها في مقال سابق بعنوان "هجمة ضد الأراضي الزراعية" وراءها حالة جنوح نحو تحويل الأراضي الزراعية إلى مراكز تجارية، وهذه الأرض الزراعية سيقام عليها مركز تجاري ضخم مؤجر للوافدين، وقد رأيتهم في عين المكان وقت تنفيذ قرار الإعدام بلباس فرنجي رسمي كأنهم يحضرون حفلة عرس، حاولت إقناعهم بالاستفادة من الأشجار في مكان آخر بدلاً من إعدامها.. لكن لا حياة لمن تنادي، مما جعلني اتصل بمصدر مسؤول ورفيع في السلطة المحلية المختصة بهذا الملف، لعلني أنقذ ما تبقى من أشجار النارجيل، وكم كانت المفاجأة الكبرى، فهذا المسؤول بعد أن وعد وتوعد بالإسراع في الإنقاذ، فإذا هو يتصل بي بعد ساعة فقط، ويفيدني بأن قرار تحويل هذه الأرض قد منح مركزيًا، وإن سلطتهم المحلية قد تفاجأت بالخبر، وأنها لا يمكنها فعل أي شيء. وفعلا لم يمض يوم آخر على بداية تنفيذ قرار الإعدام المركزي إلا وقد جُردت الأرض الزراعية من أشجارها ومزروعاتها، وأصبحت أثرا بعد عين، وتدخل المركز في عمل السلطات المحلية واللامركزية، تعدٍ عليها، ويفرغها من محتواها، ويجعلها والعاملين فيها يفقدون الحماس والانضباط والنزاهة.. بل ولا يراهنون على تطبيق القانون.. ما دام سينصاع المركز لكل متنفذ قوي.
شكل تدخل المركز في إصدار قرار الإعدام- للمصدر ولي- صدمة كبرى فوق صدمات مشاهدات إعدام المزرعة، فلم نكن نتوقع أن تحدث حالة إعدام جديدة- وما خفي أعظم- بهذه السرعة، وبتلك الكيفية التي تتجاوز السلطات المحلية، ويستفرد المركز بالقرار لوحده. للأسف، هناك الكثير من شهود العيان في عين المكان، يشهدون عملية الإعدام الجديدة، لكنهم يقفون في حالة اللامبالاة، ولما حاولت اكتشاف البعد السيكولوجي لهذه الحالة، فلم أتفاجأ بموقفهم، فقد قيل لنا حرفيًا "كم ستدر المزرعة الآن من مداخيل؟ خلي الناس يعيشون، لو عندي مزرعة لفعلت مثلهم". هذا جوهر ردود فعل الكثير ممن استطلعنا آراءهم في عين المكان، وهم من المقتدرين الذين كرمتهم الدولة بالأموال والعقارات.. وبالتالي لن يشكل موقفهم مفاجأة، بينما وجدنا المواطن البسيط يتحسر ألما، ويتقطع قلبه حزناً، ونكاد نشاهد دموعه تتساقط كلما سقطت شجرة نارجيل أو فافاي أو موز .. على الأرض .. إلخ.
كنت أتوقع بعد مقالي السابق أن تتحرك الجهات الحكومية لإنقاذ ما تبقى من أرض زراعية، فهذه الأراضي منحت من الدولة لأفراد للاستخدام الزراعي، بمعنى أن تظل حقاً ينفع العامة من خلال الملكية الخاصة، ويعني أنها أراضٍ لا يحق للسلطات الإدارية المركزية واللامركزية ولا ماليكها تغير استخداماتها، لأننا بذلك نبدد حقوق الأجيال المقبلة، واستمرار إصدار أحكام الإعدام، يعني كذلك أن أراضينا الزراعية لا تتوافر لها أية حماية فردية ولا جماعية ولا مؤسساتية، بل هذه الأخيرة، ينبغي مساءلتها عن موافقتها على تغيير استخدامات الأراضي الزراعية، عبر فتح ملفاتها، لربما نجد وراءها خلفيات وأبعادا قد تقودنا لمعرفة ما وراء الموافقات الكثيرة لإعدام الأراضي الزراعية في صلالة، خاصة وأنه لا تتوافر في الأراضي الزراعية المحولة للأغراض التجارية والتي نكشف هنا ملفاتها، شروط التحويل القانونية، التي أهمها أن تكون نسبة ملوحة مياهها أكثر من ملوحة مياه البحر ومحاطة بتجمعات سكنية.
هنا ندق ناقوس الحذر وربما الخطر على مستقبل الاستثمارات التجارية في صلالة، فالأراضي الزراعية المحولة تجارياً، قريبة من بعضها البعض، مما قد يُحدث منافسة تجارية غير شريفة، وقد تؤدي الى إغلاق بعضها في الآجال المتوسطة، كيف؟ لو تأملنا في الأراضي الزراعية التي سمح على أنقاضها بإقامة مراكز تجارية كبيرة، سنجدها إما متقابلة أو متلاصقة أو متجاورة وفي محيط جغرافي لا يتجاوز الثلاثة كيلومترات، فهي قد أقيمت عليها مراكز تجارية أو على وشك الانتهاء منها أو في بدايتها- كحالتنا- فسيكون هناك ستة مراكز تجارية كبيرة داخل هذا المحيط الترابي، وبعضها لا يفصلها سوى ثلاثة امتار فقط، لأنها كانت في الأصل أرضا زراعية واحدة، قسمت ووزعت على المتنفذين لدواعي الزراعة فقط، والآن حولوها إلى تجارية، وبنشاط تجاري واحد، فمن سيصمد أمام المنافسة المقبلة؟ والقائمة حتى الآن في وضع سيئ جدا، بعضها، العاملين فيها لم يستلموا مرتباتهم منذ ستة أشهر في ظل الأوضاع الراهنة، فكيف لو احتدمت المنافسة في ظل تأزم الأوضاع المالية للمجتمع من جراء الضرائب والرسوم المقبلة؟
غياب التخطيط، وتعطيل عمل السلطات المحلية ومؤسسات اللامركزية، وإقحام المركز نفسه في عملها، يؤدي بنا إلى هذه الفوضى، كما لا يساعد المجتمع على الانتقال من ثقافة الدولة الرعائية إلى الدولة الجبائية، ويجعل توجهات الدولة في واد والمجتمع في واد آخر، وأخيرا، يظل التساؤل قائماً وبقوة كذلك، من سينقذ ما تبقى لنا من أراضٍ زراعية للأيام المقبلة؟ ومتى سنصدر مدونة سلوك للأشجار- مثل النارجيل والفافاي والموز- تقديرا منا لدورها، وحاجتنا لها مستقبلا؟ أين المجلس البلدي من هذه القضية؟