علي بن سالم كفيتان
المساء في السكن الداخلي يُوحي بوحشة غريبة حتى يكاد ينغلق الأفق أمامك ولا ترى شيئاً غير الغربة الممزوجة بالأمل فمُعظمنا أتى من بقايا الحرب والعودة للدار تعني المكوث إلى جانب الصفر والمجازفة هنا تعد صراعاً عميقاً مع النفس لإثبات الذات والخروج من دوامة المجهول إلى عالم آخر أكثر إشراقاً. تمر الأيام ونحن على شرفات ذلك المبنى نشعر بطعم المرارة التي تسربت من رداء الزمن رغم أنَّ الجميع يحاول ابتكار الحيل والأفكار المرحة ليبقى الأمل في أنفسنا ونذهب بعيداً بطموحاتنا.
هناك زملاء مجيدون وآخرون مهرجون وبينهما كنت أنا ومن في شاكلتي فتارة نخلط الليل بالنهار على الكتب والدفاتر لنواكب الطامحين وإذا تعبنا تجدنا على أرصفة السكن نسامر من يجيد النكتة ويحلق بنا بعيداً إلى عالم المرح كانت الأفكار تتجاذبنا كأمواج الخريف العاتية، وأمام آلة الانضباط الصارمة التي يقودها الأستاذ المصري الششتاوي مشرف السكن كانت الطبيعة تفرض نفسها أحياناً في التمرد على سلطاته لكنه بحق كان رجلا صارما بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى واستطاع إخضاع كل حركات التمرد على النظام في السكن فالنوم يكون مبكراً والوجبات في موعدها والمصلى يعج بالمصلين والزيارات محددة بوقت ولا مجال للانفكاك من ذلك النظام ومن خرج فلن يجد طريقاً للعودة فالفرصة هنا ينتظرها الكثيرون ولا عجب في حال غياب الواحد لعدة أيام أن يجد طالبا مستجدا من أحد أصقاع الريف أو البادية يرقد على سريره ولا مجال إلا لأخذ أمتعتك والرحيل.
لتمكين سلطاته قام الأستاذ الششتاوي بالتأثير على طالب شاطر ومجتهد والكل يتوقع أن يكون ضمن قائمة الأوائل على مستوى السلطنة فطلب منه المساعدة في الإدارة ولم يصدق صاحبنا فقد وافق الأستاذ وأصبح الرجل هو الآمر الناهي وتنمر حتى فاق أستاذه. الجميع يتذكره يقف على باب المطعم ويخطف التفاح من أيدي الطلبة كما ابتكر طريقة لإجبارنا على النوم وهي بفصل الكهرباء من مجمع السكن عن جميع الغرف بينما هو يجلس على وزار في البلكونة يذاكر على شمعة، في تلك الظروف نعم الأستاذ الششتاوي بمساعد لم يكن يحلم به فوافقه على جميع إجراءاته التعسفية واستحدث أخونا ميزة جديدة ينعم فيها الأستاذ بجميع وجباته الغذائية الدسمة في شقته بعد أن أقنع شركة الطاؤوس التي توفر التغذية للسكن وهنا أصبحنا لا نرى المشرف مطلقاً وأمسك صاحبنا بزمام السلطة وصرنا نترحم على القيادة المتزنة للششتاوي حيث كان هناك هامشا للزيارات والخروج بينما انعدم كل ذلك في زمن صاحبنا.
كان لا بد من حراك فالأمر لم يعد يُطاق فقاد الفكر التنويري طلبة من وسط البلد جبلوا على الحلم والأناة منذ نعومة أظفارهم فحشدوا الرأي العام الطلابي في السكن للانتفاض على الإجراءات التعسفية لهذا الطالب المتنمر والمشرف الذي باتت تنمو كرشه على حساب بقية أعضائه من فرط الراحة في شقته منعماً بعيداً عن السكن وصداع الرأس الذي تولاه أخينا، طرحت الكثير من الأفكار فطلبة المناطق البعيدة في الغرب والشرق والبادية يرون الأخذ بالحق عبر الضرب المبرح لصاحبنا وكانوا متحمسين لفكرتهم لدرجة أنهم انتدبوا عددا منهم لتنفيذها ووصلوا إلى قناعة بأن هذا المتسلط إذا لم يشعر بالألم والخوف فلن يرتدع مطلقاً بينما كهنة الوسط جالسين في تفكير عميق علهم يهتدون لحل أقل تكلفة وأكثر فعالية.
في اليوم التالي جمعنا العقلاء وأشاروا بأنّ العنف سيُولد مشكلة أكبر ونحن على أعتاب الثانوية فقد نخسر السكن وربما الفصل من الدراسة وغيرها من الأمور غير محسوبة العواقب، وهداهم الشور بأن يستجيب الجميع لسلطة صاحبنا ولكن بشكل مفرط فيه بحيث لا يأكل ولا يشرب ولا يذهب لدورة المياه أي طالب في السكن إلا بعد أخذ الإذن الشفهي أو الكتابي من صاحبنا ومهما يكن الوقت وبعدها إنهالت الطرقات على غرفة صاحبنا في الصباح الباكر وفي آخر الليل ووسطه وفي كل وقت تجد صفا طويلا منا أمام غرفته الأول يطلب الإذن للذهاب لدورة المياه والثاني يستأذن لكي ينام والآخر لكي يصحو.... إلخ واستمر الحال هكذا ليل نهار لمدة أسبوع حتى أصيب الرجل بإجهاد نفسي عميق ولم نراه لاحقاً ولا أعتقد أنه حصل على الشهادة الثانوية.