أجــنــدة إصلاح النـــظام المـــدرســيّ


أ. د. / أسامة محمد عبدالمجيد إبراهيم
أستاذ علم النفس التربوي بجامعة سوهاج – مصر

 

يحتل التعليم قمة الأولويات في جميع الدول المتقدمة وكذلك الدول الطامحة لتحقيق طفرة في مجال التنمية. وما زالت أكثر الدول تقدما تنتقد ممارسات التعليم بها وترى أنه لا يلبي توقعات المجتمع ولا يواكب التغيرات المتسارعة، كما لا تواكب مخرجاته متطلبات سوق العمل. ومع بداية القرن 21، طُرحت العديد من الأسئلة حول كيفية زيادة فعالية التعليم العام، خاصة في المرحلة الأساسية، وكان السؤال دائماً: من أين نبدأ، وعلامَ نركز؟
تشير بيانات "خبرة المخرجات الراكدة" في كل من أمريكا والعديد من دول منظمة التعاون الاقتصادي إلى أنه على الرغم من زيادة الإنفاق على التعليم في الفترة بين (1970 - 2005)، فإن مخرجات التعليم ظلت راكدة؛ بمعنى أن زيادة الإنفاق على التعليم لم يقابلها تحسن في مخرجات التعليم!
وأظهر تحليل البيانات المشتقة من هذه الدول مجموعة من العوامل التي يوصى بالتركيز عليها إذا أردنا إصلاح النظام المدرسي وزيادة فعاليته. وبعض هذه العوامل يتطلب ميزانيات عالية مثل تحديث البنية التحتية للمدارس، وبناء آلاف المدارس الجديدة بما يسمح باستيعاب جميع الطلاب وتقليل كثافتهم في الفصول، وممارسة أساليب تعليم مرتكزة حول الطالب. والبعض الآخر يرتبط بتطوير المعلم والنظم المدرسية ذاتها. وعلى أية حال، سوف نناقش هنا أربعة مباديء برهنت على أهميتها البالغة في بناء نظم تعليمية فاعلة وهي:
المبدأ الأول: جودة النظام التعليمي لا يمكن أن تتخطى  جودة المعلم.
المبدأ الثاني: الطريقة الوحيدة لتحسين المخرجات هي  تحسين التدريس.
المبدأ الثالث: الأداء العالي يستلزم  نجاح جميع المتعلمين.
المبدأ الرابع: القادة الجيدون يصنعون مدارس جيدة.
المبدأ الأول: جودة النظام التعليمي لا يمكن أن تتخطى  جودة المعلم
تشير الوقائع إلى أن جودة المعلم هي أكثر العوامل أهمية لتحسين مخرجات التعلم، وهو العامل الرئيس وراء اختلاف أداء الأطفال خاصة في المرحلة الابتدائية، فقد أظهرت إحصاءات التعليم أن الأطفال الذين يوضعون مع معلمين منخفضي الأداء (خاصة في سنوات النمو الحاسمة) لعدة سنوات متتالية يعانون من ضعف دراسي لا يمكن تعويضه.
وقد وجد أنه عند وضع طفلين متوسطي الأداء في فصلين مختلفين أحدهما يدرسه معلم جيد، وآخر ضعيف، فإن أداء الطفلين يتباعد بما بمقدار 50 درجة مئينية خلال ثلاث سنوات، وهذا التباين يعود بشكل أساسي إلى متغير جودة المعلم (Mckinsey Report, 2006/2007).
من أجل ذلك تحرص الدول ذات الأداء التعليمي المرتفع إلى اجتذاب أفراد متميزين للعمل بمهنية التدريس؛ ففي كوريا، وفنلندا، وسنغافورة وهونج كونج، يلتحق بكليات إعداد المعلم أعلى 5% ، أعلى 10% ، أعلى 30% من الخريجين، على الترتيب. وفي المقابل، في نظم التعليم التقليدية (ومنها البلدان العربية) يلتحق بكليات إعداد المعلمين أدنى 30% من الخريجين!
ولتحسين جودة المعلم، يجب أن تعمل الحكومات والجامعات أولا على اجتذاب أفضل العناصر للالتحاق بمهنة التعليم، بجعل مهنة التدريس تنافسية للغاية وجذابة لخريجي المدارس الثانوية للالتحاق بها، واختبار المرشحين للالتحاق بمهنة التدريس بدقة من أجل الوصول إلى أفضل المتقدمين الذين يمتلكون أفضل المهارات اللازمة لهذه المهنة، وبشكل خاص المهارات الشخصية ومهارات التواصل، والدافعية للتعليم والتعلم، ومهارات حل المشكلات. ويجب تصميم إجراءات اختيار مقنَّنة لاختبار هذه المهارات والصفات، واختيار المتقدمين الذين يمتلكونها، وتطبيق ذلك بفعالية وليس بشكل روتيني كما هو الحال اليوم.
وأخيرا العنصر الأساسي للحصول على الأشخاص المناسبين ليصبحوا معلمين هو توفير أجور جيدة. وخلاصة القول: إن جذب الأشخاص المناسبين له علاقة أكبر بمكانة المعلمين في المجتمع والصورة الذهنية للمعلم. وبمجرد أن يصبح التعليم مهنة رفيعة المستوى، فإن المزيد من الأشخاص الأكفاء سيعملون جاهدين ليصبحوا معلمين، مما يزيد من ارتفاع مستوى المهنة.

المبدأ الثاني: الطريقة الوحيدة لتحسين المخرجات هي  تحسين التدريس
تؤكد تجارب النظم المدرسية ذات الأداء المرتفع أن الطريقة الوحيدة لتحسين المخرجات هي تحسين التدريس. يحدث التعلم عندما يتفاعل الطلاب والمعلمون، وبالتالي فإن تحسين التعلم يعني تحسين جودة هذا التفاعل. ويتحقق ذلك من خلال التركيز على التنمية المهنية المستمرة للمعلمين، والتدريب العملي الجيد (نقل تدريب المعلمين من قاعات التدريب التقليدية إلى الفصول الدراسية)، وتمكين المعلمين من التعلم من بعضهم البعض.
وتتطلب عملية التدريب عملا احترافيا يقوم على أفضل الممارسات، ويبتعد بالمعلمين عن أساليب التعليم والتعلم التقليدية التي تتمركز حول المعلم. ويجب أن يكون لدينا القدرة على انتقاد فلسفة التدريب وممارساته الحالية سواء التي تتم داخل كليات التربية أو تلك المرتبطة بالترقيات، والعمل على تصويبها. ويجب أن تُرصَد ميزانية مناسبة للتدريب، ومن قبل ذلك إعداد برامج جيد، ونهج لمتابعة جودة مخرجات التدريب حتى لا يصبح التدريب مجرد إهدار للوقت والجهد والمال.
المبدأ الثالث: الأداء العالي يستلزم  نجاح جميع المتعلمين
تقوم الأنظمة المدرسية عالية الأداء بإنشاء تدخلات فعالة على مستوى المدرسة، وتحديد المدارس التي لا تقدم أداءً مرضيًا، والمشاركة في رفع معايير الأداء. تتدخل أفضل الأنظمة بشكل أكبر على مستوى الطالب، وتطور العمليات والهياكل داخل المدارس القادرة على تحديد متى يبدأ مستوى الطالب في التراجع ، ثم تعمل على تحسين أدائه. ولضمان حصول كل طفل على أفضل تعليم ممكن، يوصى المعلمون بالمحافظة على أعلى مستوى من المشاركة مع طلابهم. وبالتأكيد هذا يحتاج إلى توظيف التكنولوجيا على نحو فاعل، وتكوين قاعدة بيانات جيدة حول أداء الطلاب والمدارس.
وعلى المنوال نفسه، من الضروري أن تضمن أنظمة مدارسنا حصول كل طفل على تعليم عالي الجودة من خلال ضمان قيام المدارس بتعويض الأطفال عن القصور الذي قد ينجم عن ضعف البيئة المنزلية للطفل، خاصة بالنسبة للأطفال المنحدرين بين البيئات المحرومة اقتصاديا واجتماعيا. وللتأكد من حدوث ذلك، نحتاج إلى وضع معايير وتوقعات واضحة وعالية لما يجب على طلابنا أن يعرفوه ويفهموه ويؤدوه. في حين أن عملية اختيار المناهج والمعايير غالباً ما تكون طويلة وصعبة ومثيرة للجدل، فإن بعض القواسم المشتركة واضحة عند النظر إلى الأنظمة عالية التأثير في العالم ومناهجها: التركيز على تعلم الحساب، ومعرفة القراءة والكتابة أمر بالغ الأهمية في السنوات الأولى. يجب أن تكون المقاييس والتقييم والإرشادات متوافقة بشكل وثيق مع المناهج؛ ويجب تعيين توقعات واضحة وعالية لأداء جميع الطلاب.
إن مفتاح نجاح الأنظمة المدرسية هو اعتماد مزيج من المراقبة والتدخل الفعال - على مستوى المدرسة والفرد - لضمان تقديم التعليم الجيد بشكل متسق عبر النظام. في حين أن هذه ليست مهمة سهلة، إلا أن التغيير يمكن بالتأكيد، والتعامل معه إذا كنا نريد أن نتنافس مع الدول الأخرى وأن نحس من مستوى ترتيبنا على مؤشر التنافسية العالمي.
المبدأ الرابع: القادة الجيدون يصنعون مدارس جيدة:
إن التغيير الهيكلي وزيادة جودة المعلم لن يوصلنا إلى نتائج كبيرة بدون قيادة مدرسية جيدة. بالتأكيد لا يمكن تصور إحداث تغيير حقيقي بدون وجود قيادة جيدة تقود التغيير في المدارس. في عام 2011م، في واشنطن ونيو أورليانز ارتفع معدل التخرج في المدارس الحكومية في شيكاغو ما يقرب من أربعة أضعاف المتوسط الوطني. وكان السبب الرئيس وراء ذلك هو تركيز إدارة تعليم مرحلة الطفولة المبكرة في شيكاغو بشكل خاص على شيء واحد هو "قادة المدارس".
في جامعة تورنتو، قام باحثون من جامعة مينيسوتا بدراسة 180 مدرسة في تسع ولايات أمريكية، وخلصوا إلى القول: "لم نعثر على حالة واحدة في مدرسة تعمل على تحسين سجل إنجاز الطلاب في غياب قيادة موهوبة".
ماذا يفعل المدراء القادة؟ إنهم يبنون ثقافة المؤسسة. درس باحثون من ماكينزي عشرات الاختبارات من نصف مليون طالب في 72 دولة، ووجدا أن طريقة تفكير الطلاب كان لها القدرة على التنبؤ بدرجات الطلاب بمقدار ضعف قدرة المتغيرات البيئة المنزلية والديموغرافية. كيف يشعر الطلاب حيال دراستهم؟ كيف يفهمون الدافعية، وهل لديهم عقلية نمائية لفهم طبيعة نموهم؟
هذه التوجهات الفكرية تتأثر بقوة بجودة وثقافة المدرسة من خلال الممارسات اليومية المعتادة في المدرسة: طقوس الترحيب بالأعضاء في المجتمع؛ طريقة تزيين الجدران لعرض قيم المدرسة؛ توزيع القيادة عبر مجتمع المدرسة؛ الاحتفاء بالإنجاز، وجودة ونوعية علاقات الثقة.
حيث يحدد مدراء المدارس الثقافة من خلال سلوكهم القيادي- ودائما تكون الرسالة هي (الإنسان).
وتشير الأبحاث إلى أن الأمر يستغرق من 5 إلى 7 سنوات لكي يكون للمدير تأثير كامل على المدرسة، ولكن معظم المديرين يغادرون أماكنهم في غضون أربع سنوات. كان لدى شيكاغو واحدة من أعلى معدلات الاحتفاظ الرئيسية لأي نظام حضري كبير تقريبا 85%. إذا كان المدير يدير المدرسة على نحو جيد لبضع سنوات متتالية كان يتم إعطاؤه الدعم والتدريب والاستقلالية.
هؤلاء المدراء هم الطاقة الإيجابية التي تنتشر باستمرار عبر بيئات الدراسة بالمدرسة، وتقدم التغذية المرتدة ، وتضع المعايير ، وتصنع التآلف الاجتماعي، وترفع التوقعات وتغير معايير الإنجاز.
وأخيرا، حتى تكون عمليات إصلاح نظام التعليم ناجحة نوصي أن تشتمل على العناصر والآليات التالية:
معايير النظام والمساءلة:
•    معايير واضحة لأداء الطلاب والمدارس.
•     تقويم وطني منتظم للأداء.
•     وظائف تنظيمية تعمل باستقلالية لضمان الموضوعية.
دعم المسئولية للمديرين والمعلمين:
•    استثمار طويل الأمد في تدريب المعلمين للتدريس بطريفة متمايزة.
•    استثمار قوي في تطوير قادرة المدارس.
•    زيادة المسئولية لكل الأفراد (المعلمين والمديرين).
•    إيجاد قنوات مختلفة لمكافأة الجهد والتحسين.
إدارة أداء المدارس:
•    معالجة هادفة لدعم المدارس ذات الأداء المنخفض وتحميلهم المسئولية لتحسين أدائهم.
•    جعل المدارس قادرة على التعلم من الممارسات الناجحة لبعضها البعض.
•    رفع جودة وزارة التعليم ودعم الخدمات المقدمة للمدارس.
•    تقديم مزيد من الموارد للمدارس الأكثر احتياجاً.
•    الإدارة المتميزة لمشروعات الإصلاح.
•    الاستخدام المتزايد للبيانات للإعلام عن السياسات والقرارات الإجرائية.

 

تعليق عبر الفيس بوك