قصة قصيرة: العبــــور


لميس الزين – سوريا


كان على العروسين أن ينطلقا مُبكِّراً بحسب نصائح من سبقَهم بتجربةِ عبورِ المعبر. ففي الضُّحى لا يسلمُ العابرون من اشتباكات قد تنشبُ فجأة. دفعَ كريمٌ أجرةَ الفندق، وعادَ سريعاً للغرفة. نظرَ في ساعته ثمَّ عاجلَها بقبلةٍ سريعة قائلاً: "لن نفوّتَ الوجبة الفاخرة، ما رأيُك؟". ضحكت قائلة: "حتى في الأوقات الحرجة لا تنسى نهمك للطعام". جذبَها من يدها باتّجاه الباب وهو يهمسُ: " أوليس ذلك أسلمَ من أن أجوعَ على الطريق وألتهمُك". كانت تشعرُ أنّه يخفي خلفَ تلك الدُّعابات مخاوفَه ممّا قد يحصلُ على الطريق فقد أجرى عدّة اتّصالات خلالَ نهار الأمس، يسألُ الأصدقاءَ والمعارف، ويطالعُ صفحاتِ التّواصل للتّأكُّد من سلامة الطّريق.
كانَت البوفيه تحوي كلّ ما قد يطرأُ بالبال لمائدة الإفطار، ما جعلَ اختصار أيّ جزءٍ منها أمراً يصعبُ على أَكولٍ مثله. عادا إلى الغرفة لترتديَ حجاباً وعباءةً سوداءَ أحضرَتها خصيصا، فالمرأة السافرة لن يُسمَح لها بالعبور.
استقلا سيارةَ أجرةٍ من إنطاكية إلى الريحانيّة وأخرى إلى الحدود، ختما الجوازات من الجانب التركي،وانحشرا في سيارة "فان"، انطلقت ببطء مروراً بخيامٍ للاجئين على الحدود، ثمَّ بدأت رحلة التوقّفات المتكرّرة عند كلّ حاجز. بدَت لها أشكالَ الرجال غريبة بأغطية الرّأس السوداء التي زادَت من شعورِها بالتوتُّر. سألَها بشيء من ارتياب عن صلة القرابة بينَهما، أخرجت من حقيبة يدِها صكّ الزّواج وبطاقتها الشَّخصية. طلبَ منها التنحّي جانباً، إلى أن عادَ وناولهما الأوراق مُشيراً إليهما بإمكانية الذهاب. تكرر الأمر عند كل حاجز. الطريقُ التي كانَ من المُفترَض أن تأخذَ ساعةَ مسيرٍ بالسيارة استغرقَت أربعَ ساعاتٍ محبوسة الأنفاس. ما إن توقّفت حتّى أسرعَ إليهما شابٌ يافعٌ يدفعُ عربةً حديدية بعجلتَين لحملِ الحقائب، السبب أن هناك مسيرة نصف ساعةٍ للوصولِ للمعبر، ولا يمكنُ لسيارةٍ التوغُّل أكثر بسبب الحواجز الترابية. كانَ الشابُّ مرحاً. بدا مُرتاحاً رغم التوتُّر المُخيف الذي يخيمُ على الشوارع الفارغة إلا من أصواتِ إطلاقِ رصاصاتٍ قريبةٍ، فهي منطقة مكشوفة للقناص. أخبرَهم أن عليهم أن يهرولوا سريعاً لدى اجتيازهم المعبر لأن ذلك يقلّل من احتمال قنصهم. ابتسمت في سرّها ساخرةً من سِتارةٍ قماشيّةٍ نُصِبَت على عرض الشّارع المفتوح من جهة القنص مُتسائِلة هل سترُدُّ القماشة الرقيقة الرصاص. وكأن الصبيّ أدركَ ما دارَ في خلدِها للتو، فقال:" هي لإخفاء العابرين عن عيون القناص". لم تسأل من هو القناص ولا لأيّ جهة ينتمي، اكتفت برسمِ صورة له في مخيّلتها ككائن بدائي يختفي بين أغصان الأشجار يسلّي نفسه بقتل المارين. لاحَت منها التفاتة لوجهِ كريم وهي تسرع المسير خلفَ فتى العربة. كانَ شديدَ الشحوب، لأوّل مرّة ترى هذا الجانبَ الهشَّ من شخصيّته. همسَت مُداعِبةً من غير ابتسام: "خوّاف". ردَّ بصوتٍ خافتٍ: "الرصاص ما معه مزح".
وصلا إلى المعبر أخيراً، وانضمّا لطابور عرباتِ الحقائب. على البعد مُسلّحان بملابسَ وعماماتٍ سوداءَ يفتّشان الأمتعة والبطاقات. لم تعبر بضعَ عرباتٍ حتّى انطلقَ زخٌ من رصاصٍ قريب. رُدَّ عليه بزخ أكثف من الجهة المُقابلة، فصاحَ الرجلان بالناس أنّ المعبرَ أُغلِق. " ماذا يعني ذلك؟ ". قال الفتى وهو يدورُ بالعربة عائداً:" يعني راحَت لصباح الغد".. " وأينَ نبيتُ ؟" همَّت بالتوجُّه للرَّجلين للتوسُّل إليهما بالسّماح بالعبور لكنَّ كريما منعها قائلا: "لا يمكننا العبور الآن، ألا تسمعين صوت الاشتباك" . . تلفّتت حولَها بيأسٍ .. أين يذهبان، و كيف سيقضيان الليلة الباردة في الشارع الموحش وصوت الرصاص المرعب. سألَ الفتى بشيءٍ من اللامُبالاة التي لم تتناسَب وقلقهما: "إلى أين؟". كرّرتْ وراءَه: "إلى أين. وهل ندري نحن إلى أين؟".
" ألا تعرفان أحدا هنا ؟" بدا السّؤال صعباً رغمَ بساطتِه. نعم هما يعرفان أناساً هنا لكنَّ أسباباً أعقدُ من أن يشرحاها له جعلَت كلا منهما يلوذُ بالصّمت. أخيراً تكلّمَ الفتى:" إن أردتما، هناك ورشةٌ مهجورة قريبة، تبيتان فيها، خير من البقاء في الشّارع، فالليلة صقيع". بدا الاقتراح خياراً منقذاً. سارا خلفَه في حواري ضيقة إلى أن وصلا مَدخلاً ضيقاً لبناء قديم. فتحَ البابَ وولجا مستنيرين بضوءِ الولّاعة. قالَ:" سأحضرُ لكما بعض الماء، لأنَّ المياه مقطوعة. وعليكما أن تؤمّنا ما ستحتاجانه من طعام قبل الغروب، فمع حلول الظلام يصبحُ التنقّل خطراً جدّاً". اشتريا بعض الفطائر وزجاجتي عصير، وجلسا لتناولها على مقعدٍ مكسورٍ في حديقةٍ مُهمَلة. خلال لحظاتٍ تجمَّع حولَهما أكثرَ من عشرِ أولادٍ ينظرون إلى الطعام بعيونٍ مُحملِقة، لم تدع لهما المجالَ لعدم التنازُل عنه وتوزيعِه عليهم.
بدَت المنطقةَ بأسرها شديدةَ الغرابة، فعلى الرغم من أنَّ تلك المناطق هي بالأساس أحياءً شعبية، لكنّها لم تكن بتلك الهيئة الموحشة يوماً. أكوامُ القمامة بالتوازي مع تلال التّراب والأبنية المُتهدّمة والمباني المُدمَّرة أشعرتهما بتغيّرٍ مكانيّ وسكانيّ وكأنّك في دولةٍ أخرى وليسَ في جهةٍ من مدينتك نفسها.
حلَّ الظلامُ سريعاً في ذلك النّهار الشتويّ، وصمتَت الأصوات، واضمحلَّ البشرُ من الشوارع، أسرعا الخطى إلى الورشة المهجورة؛ النزل المُفترَض. وحشةٌ مُرعِبةٌ بدأت تلفُّ المكانَ إلى أن شارفا على الوصول، ودلفا ملجأهما الهزيل. النوافذُ مكسورةٌ، والبردُ لاسعٌ، وليس ثمة ما يصلحُ ليكونَ فراشا. كُرسيّان من البلاستيك، وقصاصات صغيرة من الأقمشة، هي كل ما حوته الصالة الخاوية.
بدا الوقت بطيئاً ثقيلاً، لا شيءَ يفعل في ساعاتٍ ستطولُ برداً ومللاً في غيابِ كلّ مؤهّلات المعيشة والحياة المدنية، بما فيها شبكة الاتّصال المعدومة. بعدَ ساعاتٍ، حتّى الكلام أصبحَ مهمَّة شاقّة.
شعرت مرام أنَّ قدماها تورَّمتا بعدَ نهارٍ من السّفر والتنقل والجلوس إلى الكرسي. أفرغَت ملابسَ الحقيبة، فرشتها أرضاً، وتمدّدت فوقَها مُتوسِّدةً كنزةً صوفيّة. برودة البلاط تسرَّبَت لقلبها سريعاً حتّى باتَت تحسُّ قشعريرة. تمنَّت لو أنَّ كريماً كانَ بقربِها لتلمَّسَت الدفءَ بمعانقتِه لظهرها كما يفعلُ عادةً. لكنّه غفا على الكرسي البلاستيكيّ واضعاً قدمَيه على الكرسيّ الآخر مكسورِ الظّهر.
البرد أعمل آلتهُ في السّخرية من حاجتِها لإغفاءَة تخيلت أنها في سجن، ابتسمَت لفكرةٍ دغدغت تفكيرَها، لماذا لايوجدُ سجونُ قطاعٍ خاص.
ما إن انبلج الضَّوء حتّى أيقظَت كريما، وبدأت بإعادةِ حزمِ الملابس.
في السّابعة كانَ صبيُّ العربة يطرقُ البابَ. حملوا الحقائبَ على العربة، وتوجَّهوا إلى المعبر، الوصولُ باكراً وفَّرَ عليهم عناءَ الازدحام. كانَت أمامَهم سيدةٌ تتوسَّلهم للسَّماح لها بإدخال تنكة صغيرة من الزّيتون تُقسِمُ أنَّها لأمِّها وهو يقولُ لها:" كذَّابة رايحة تبيعيه هناك". أعادَت التوسُّل فسفحَ الزَّيتون أرضاً.
جاءَ دورُهم، ففتحت الحقائبَ ونُبِشَت قطعةً قطعة. رأى علبةَ شوكولا قالَ:" ممنوع إخراج الغذاء من هنا". قالت مرام :" هي ليست من هنا" وأضافت باستخفاف: "وهل يوجد هنا شوكولا سويسرية ؟". تدخَّلَ آخر سائلاً بنبرة مستفزة: "من أين جئتم؟". خشي كريم أن عبارة شهر العسل قد تعتبَر تشبُّهاً بالكفَّار وتجعلُهم في خبرِ كانَ، فسارعَ للقول:" زوجتي قادمة من حرم الرَّسول كانت بالعمرة". ناولَهم الهويات وانطلقا إلى حاجز الجيش. ابتسمَ الفتى بخبثٍ قائلا: "لقد وصلتما. لا داعي لمزيد من الخوف" . فكَّرَ كريم: كيفَ أشرحُ لهذا الغرّ أنَّ الخوفَ هو العملة الوحيدة المتوفِّرة للجميع في زمن الحرب. لذلك آثرَ الصَّمتَ حين سألهم:" من أي جهة أنتم؟".
انتهى العبور بسلام. دفع كريم للفتى أجراً مُجزِياً ثم همسَ في أذنه: "نحن من جهة الوطن".

 

تعليق عبر الفيس بوك