الاغتراب في ديوان السيد هلال بن بدر البوسعيدي


د. إحسان صادق اللواتي – جامعة السلطان قابوس


 
    يستطيع من يود تتبّع المعنى اللغوي "للاغتراب" أن يلحظ أنَّ هذا المعنى ضيّق الدائرة، فهو لا يتعدى معنى الغربة والبعد عن الوطن. جاء في لسان العرب: "والغربة والغُرب: النزوح عن الوطن والاغتراب؛ قال المتلمّس:
ألا أبلغا أفناء سعد بن مالك
        رسالة من قد صار في الغُرب جانبه

    والاغتراب والتغرّب كذلك؛ تقول منه: تغرّب واغترب وقد غرّبه الدهر، ورجل غُرُب، بضم الغين والراء، وغريب: بعيد عن وطنه، الجمع غرباء والأنثى غريبة" (1).
    لكنَّ الكلمة لم تبقَ ضمن هذه الدائرة الضيقة، فسرعان ما غدت مصطلحًا مستعملاً في حقول معرفية بشرية مختلفة، وتعاورته دلالات متنوعة خلال سير زمني ممتد (2). وقد اعتنت بالمصطلح وشرحته بأبعاده المختلفة كتب ودراسات كثيرة، لعلّ أشهرها كتاب "الاغتراب" لريتشارد شاخت الذي جاء فيه: "إنَّ تعبير الاغتراب عن الذات يستخدم للإشارة إلى انفصال وتباين بين الوضع الفعلي والطبيعة الجوهرية، وهو ما ينتج عن افتقاد وليس مجرد غياب عنصر ما من عناصر الطبيعة الجوهرية في حياة الفرد" (3). وإذا كان هذا التعريف قد أشار إلى ما في مصطلح "الاغتراب" من سعة؛ كونه متناولاً لكل حالات افتقاد أي عنصر جوهري في الحياة، فقد صرّح دارسون آخرون بهذه السعة بكل وضوح، فذهبوا إلى "أنّ الاغتراب ليس مشكلة تولدت بسبب الرأسمالية أو الاقتصاد الماركسي أو التنظيمات الاجتماعية، ولكن هو مشكلة دائمة تواجه كل الناس تقريبًا" (4). ومع ما يمكن للمرء أن لحظه من شيء من المبالغة في التعميم المنقول أخيرًا، فإنَّ الحقيقة التي لا ينبغي الشك فيها متمثلة في كون المصطلح قد غدا مستعملاً في أبعاد كثيرة ومتنوعة جدًا.
لقد اهتمت بالاغتراب وظهوره في الأدب العربي، قديمه وحديثه، بحوث ودراسات كثيرة، تناولت الموضوع من جوانب مختلفة، وأبرزت ما فيه من أبعاد ودلالات متنوعة. وما هذه الدراسة الحالية سوى إضافة متواضعة في هذا المجال، وهي محاولة لمقاربة موضوعة الاغتراب وفق ظهورها في ديوان شاعر عُماني حديث هو السيد هلال بن بدر البوسعيدي (5).
إنَّ اختيار هذا الشاعر للحديث عن هذه الموضوعة في شعره قد يبدو غريبًا؛ نظرًا لأنه كان يوصف بكونه "الشاعر الظريف"، ولأنه كان المنسق الخاص للسلطان سعيد بن تيمور، وهاتان حقيقتان قد تكونان كفيلتين بجعله بعيدًا – ولو نسبيًا – عن أجواء الأسى والضيق والحزن التي تترافق مع مصطلح "الاغتراب". وإذا أضفنا إلى هذه وتلك حقيقة ثالثة هي أنَّ كلمة "الاغتراب" لم ترد في ديوانه كله سوى مرة واحدة فريدة، ازداد اختيار هذا الشاعر غرابةً!
بيد أنَّ هذه الغرابة سرعان ما تتراجع حين يقف القارئ على هذه المرة الوحيدة التي وردت فيها هذه الكلمة في الديوان، فيقرأ قول الشاعر (6):
أنـا لـو كـنـت  مـقيـمـًا        فـفـؤادي فـي اغـتـرابِ
أنـا لـو كـنـت صحـيحـًا        فحيـاتـي فـي اضطـرابِ
    فهنا دلالة صريحة على أنَّ "الاغتراب" لا يتنافى مع الإقامة في الوطن، ومع صحة البدن، أي مع كل مظاهر الراحة والنعيم الظاهريين. وبعبارة أخرى فإنَّ "الاغتراب" – في منظور الشاعر – لا يتعارض مع الظرافة ومع القرب من السلطان، فله في الفؤاد مكانه الخاص على الرغم من كل ما يمكن مشاهدته في الواقع المحيط من مظاهر مخالفة له.
    تتولى الدراسة الحديث عن الاغتراب في ديوان الشاعر، في المحاور الثلاثة الآتية:
1- التجليات.
2- الموقف.
3- الأساليب الفنية.
المحور الأول: تجليات الاغتراب:
    تبرز في الديوان تجليات مختلفة للاغتراب، أهمها:
1- الاغتراب الوجودي:
وهو ذلك النوع من الاغتراب ذي الطابع الفلسفي المتشائم، الذي يجعل صاحبه تحت وطأة قلق مستمر وحيرة دائمة في مواجهة الأسئلة الكبيرة المرتبطة بالذات والحياة والموت والرزق وما شابه ذلك، وقد يدعو قلقه وحيرته إلى أن ينحو في حياته منحى فيه قدر غير قليل من التأزم والكآبة. بل قد يصل به الأمر إلى أن يغترب عن ذاته، فيكون كما قال كولن ولسون عن "اللامنتمي": "لا يعرف اللامنتمي من هو، فقد وجد (أنا) إلا أنها ليست (أنا) حقيقية، أما هدفه الرئيسي فهو أن يجد طريقًا للعودة إلى نفسه" (7).
    لقد ظهر الاغتراب الوجودي عند شاعرنا في حديثه المتأزم عن الدهر، كما في قوله (8):
كـذا أنا في دهري مساغَي علقـم        وهل ساغ للظمآن ما عاش  علقـم
رقيبـي ودهري والليالي وعُذَّلـي        قـواضـب لا تنبـو ولا تتحطـم
    إن كلمة "دهر" لتوحي بفرط إحساسه بطول الزمان ووطأته، وهو يضيف الكلمة إلى ياء المتكلم ليشير إلى ما في زمانه هو من خصوصية، خصوصية تجعله لا يرى في كل ما يغنمه من دهره هذا سوى العلقم. وهكذا تتأزم نظرته إلى الحياة حتى ليرى في الزمان والبشر من حوله سيوفًا حادة لا يتوقف عملها.
    ويذكّرنا الشاعر بمقولة امرئ القيس المعروفة: "أرانا موضعين لأمر غيب"، حين يقول (9):
خفـي القضاء على بني  الإنسـان        فتصرفـت فيهـم يـد الحدثــان
ولـو استبانوا الغيب عما في غـد        عـدّوا الزمان دقائقـًا وثـوانـي
هـي حكمة للكـون في  أسـراره        والنـاس مجنـي عليـه وجانـي
    فعلاقة البشر مع الغيب والقضاء تتلخص في الخفاء والغموض، وما الإنسان في هذا الوجود سوى لعبة تتصرف بها "يد الحدثان" وتسير به إلى حيث تشاء بينما هو منشغل بجناياته في حق أخيه الإنسان. إنها صورة قاتمة، تسلب الإنسان فاعليته الإيجابية الهادفة في الحياة، وتجعله يتخبط في حياته دونما إرادة أو حكمة مماثلة لحكمة الكون في أسراره.
    وما دام هذا هكذا، فمن الطَّبَعي المتوقع ألاّ تكون الحياة سوى تكرار ورتابة ودوران في حلقة مفرغة لا تنتهي إلى شيء وتكاد تقود المرء إلى الجنون. يقول (10):
مـرّ يومـي بمثل ما مرَّ  أمسـي        بيـن كتبي وبين أسطـر طرسـي
خطـواتـي محـدودة  ومسيـري        في  ذهول أضـاع عقلي وحسـي
    القصيدة هنا فيها "تصويرها لأحزانه، وضيقه بالأيام، ومرورها عليه بطيئة كئيبة حزينة وهو بين كتبه حبيس منزله، فإيحاء الكلمات ونغمها الموسيقي يدل على أن الشاعر يعيش موزَّع النفس بين حسرة وأسف على الماضي القريب، وأسى ولوعة على الحاضر الأليم" (11).
    وهكذا، يراوح الشاعر بين ميل إلى التخصيص أحيانًا باستعمال ضمير المتكلم، وميل إلى التعميم أحيانًا أخرى عندما يتحدث عن الإنسان بصفة مطلقة، ليشترك المنحيان ويتعاضدا في رسم الصورة الكلية للاغتراب الوجودي الذي يعانيه في حياته هذا المخلوق المسمى "الإنسان".
2- الاغتراب الاجتماعي:
    يتفق الباحثون في مجال الاغتراب على أنَّ لغياب العلاقات الاجتماعية السليمة أثرًا كبيرًا في إحساس الأفراد به، بل إنَّ من الباحثين من يظهر من كلامه حصره مصطلح "الاغتراب" في المجال الاجتماعي وحده، فيذهب إلى أن "الاغتراب هو الشعور بافتقاد العلاقات ذات المعنى مع الآخرين، والإحساس بالتعاسة بسبب هذا الافتقاد" (12). ومع ما في هذا الحصر من مغالاة في تقدير أهمية الناحية الاجتماعية في موضوعة الاغتراب، فإنَّه كاشف عن مدى تميز هذه الأهمية وخطورتها.
    لقد تحدث شاعرنا عن غياب الأحباب وابتعادهم في غير موضع من ديوانه، كما في قوله مثلاً (13):
مــن لـقـلــب مـزَّقـتــه        سـاعــة الـبـيـن بـنــابِ
ذهـب الأحـبـــاب قـلـبـي        أفــهــل آن ذهـــابـــي
    إنه هنا يبرز – مستعينًا باستعارة مكنية – ساعة الفراق في صورة وحش مفترس قد مزّق بأنيابه قلب الشاعر، ثم إنه يخاطب هذا القلب سائلاً إياه ما إذا كان ذهاب الأحباب معناه ذهابه هو أي فناؤه.
    وليس بمستغرب أن يقوده ذهاب الأحباب إلى نهايته؛ فابتعادهم عنه له أثر وخيم جدًا في داخله. وقد تحدّث الشاعر عن شدة هذا الأثر في مواضع مختلفة من الديوان، منها مثلاً (14):
تزيد تباريـح الجوى عند ذكرهـم        كأنـي لأدواء الغــرام مخالـف
إذا اعتجرت نفسـي بآلام  بُعدهـم        دوَّت بين طيات الضلوع  عواصف
    الصورة هنا زاخرة بمفردات مختلفة تعود في أساسها إلى حقلين دلاليين، كلاهما ينتسب إلى عالم الشاعر الداخلي، فأما الحقل الأول فهو الحزن والرقة (تباريح، الجوى، أدواء الغرام)، وأما الحقل الآخر فهو الألم والشدة (آلام، دوَّت، عواصف). وحين تتضافر مفردات هذين الحقلين فيما بينها، يتبدى ما في داخل الشاعر من حزن عميق وألم عظيم يكادان يذهبان به.
    ومع غياب الأحبة، يجيل الشاعر طرفه في هذه الحياة الدنيا، فيبصر الظلم مسيطراً على كل شيء فيها، وليس بين عقـلاء الناس إلا من هـو خاضع للظلـم والظالمين. يقول (15):
تكاثر فيها الجـور والظلم والخنـا        ولم أرَ فيها يــردع الظلمَ عاقـلُ
لقد كثـرت فيها جرائـم أهـلهـا        فَهَموْتُ، منهـا كاد ينهاض كاهـل
    ولئن كانت للظلم مظاهر كثيرة في الحياة، يراها البشر جميعًا في حياتهم، فإنَّ أبرز هذه المظاهر – في نظر الشاعر – هو ظلم القِيَم نفسها، فما من قيمة حاكمة مؤثرة في حياة الناس إلا قيمة المال وحده، فله تمتد الأعناق ولأجله تعفر الجباه. أما ما سواه من شعر أو خطابة أو نَسَب فمما نسيه الناس وتغافلوا عن قيمته وأهميته؛ لذا يكون الفقر داعيًا إلى الاستهانة بالفقير مهما بلغ من الشرف شأوًا عظيمًا (16):
أنت إن كنت شاعـرًا تملك  القـو        ل جريئًا  كمثل عـروة  عـبـسِ
أو خـطيبـًا مفوهـًا ذا اقتــدار        تسحر  العقـل في فصاحـة قـس
أو تـرى نسبـة لبيتـك  يـعلـو        في ذرى هاشـم وفي عبد شمـس
ثـروةٌ تـلك لو تـزودتَ مـنهـا        مـتَّ جوعـًا على فراش دمقـس
إنما الفقـر علـة المـرء  فانشـد        أثر  المال حيـن تغـدو وتمسـي
وإذا احتجـت للرجـال استهانـوا        بك  لو كنـتَ في حظيـرة قـدس
    وحين تضيع القيم، وهذا ما يسمى في الاتجاه التحليلي من علم الاجتماع "اللامعيارية" ويعدّ من مظاهر الاغتراب (17)، تفقد الصداقة قيمتها، وتصبح أمرًا منفّرًا يدعو للاشمئزاز، ويكون العدو أدعى للاطمئنان من الصديق؛ ذلك أن عداوته ظاهرة معروفة، بينما صداقة الصديق مشوبة بقدر غير قليل من اللبس: (18)
إنَّ نفسي  من الصديـق اشمـأزَّت        وتـرى في عدوهـا بعض أنـس
فعـدوي هـو الـعـدو ولـكـن        أين ذاك الصديـق  من غير لبس؟
    ولا يكتفـي الشاعر بهذا الذي ذكره عن الصديق حتى يحذّر من مؤاخاة الناس جميعاً (19):
آخِ يا ذا مَن شئتَ حتى من الجن ولكن حذارِ من كل إنسِ
    وإنَّ هذا التحذير الشديد لكاشف واضح عن مدى عمق الاغتراب الاجتماعي الذي يتبدى في شعر شاعرنا.
3- الاغتراب السياسي:
    اشتمل ديوان شاعرنا على حديث عن الأوضاع السياسية العامة للعرب عمومًا، وعن أوضاع بلدان معينة من الدول العربية والإسلامية كفلسطين، والعراق، ومصر، والكويت،وباكستان، إضافةً إلى عُمان.
    وإذا كان "يُفهم الاغتراب السياسي بأكثر الصور دقة باعتباره رد فعل إزاء عدم القدرة النسبي المدرك على التأثير أو التحكم في مصير الفرد الاجتماعي" (20)، فإنَّ الاغتراب السياسي في ديوان الشاعر يبدو رد فعل إزاء مجموعة من الظاهرات التي تكشف سوء الحال التي وصل إليها العرب والمسلمون، وأهمها:
أ- التفرق والتشتت، وهذا يظهر بوضوح في قول الشاعر: (21)
عـصـفـت بهـم أهـواؤهــم        فتـفـرقـوا فـي الـنـائـبـات
فـانـدك صـرحـهـم  المتيـن        وكـان فــوق الـكـائـنــات
رقـصـت عـلـى أنـقـاضـه        صـهيـون رقـص  الغـانيـات
    لا يغرّ هذه الأمة، إذن، ما هي عليه من "صرح متين"، فهذا الصرح من شأنه أن يندكّ ويهوي من عليائه، لتتحول أنقاضه إلى مرقص يرقص فيه الصهاينة جذلين فرحين بما حلَّ بالأمة، وما هذا كله إلا بسبب التفرق البغيض.
ب- كثرة القول وقلة العمل:
وهي الآفة العربية المعروفة التي طالما آذت الأمة وكادت تعصف بكيانها وتودي به، وفيها يقول الشاعر (22):
أكثرتَ في القول بل أكثرت في الخُطَب        أقلل – فديتك – واعمل أخا العرب
جرّدت  سيفـًا ولكـن لا مضـاءَ لـه        كأنما السيـف منسوب إلى الخشب
    وإذا كان البيت الأول هنا لا يعدو أن يكون كلامًا تقريريًا ووعظيًا مباشرًا، فإنَّ البيت الآخر يشتمل على صورة بيانية طريفة تفيض تهكمًا وسخرية من هذا العربي الذي يتشبه بالأبطال قولاً وادعاءً فقط، دونما فعل يزكي هذا الادعاء أو عمل يعضد ذلك القول.
    وحين يكون الحديث عن عُمان، نجد الشاعر يرفض حالة الاستنامة إلى القول دون الفعل رفضًا شديدًا، ويعدّها منافية "للعادات": (23)
هُبّي  عمـانُ فليـس من عاداتنـا        تسعى الشعـوب ونحن في غفلاتنا
نأبى الفعال ونكثر الأقوالا
جـ- التخبط وسوء التصرف، كما في قوله مثلاً (24):
وسِرْتمو وبنـود النصـر تقدمكـم        فكان فعلكـم أدعـى إلى العجـب
قد انثنيتـم وقد خارت  عزائمكـم        وعمَّ جمعكـم ضرب من الشغـب
وكلمـا  رمتـم أمـرًا تثبَّطـكـم        عـن  المضـي به آراء ذي إرب
    إنه هنا يتناول جانبًا من المآسي العربية في التعامل مع القضية التي من المفترض أن تكون قضيتهم الأولى، وهي قضية فلسطين. لقد كان النصر قريب التحقق (وبنود النصر تقدمكم)، لكن العرب أضاعوا كل شيء وأفسدوه بسوء فعلهم وقلة حكمتهم واستجابتهم لدسائس ذوي القلوب المريضة، والأهداف الشيطانية المبيّتة.
د- تناسي المصالح الوطنية اغترارًا بالمال. يقول في هذا المعنى (25):
يا  عبيـد النضـار تبـًا وسحقـًا        لنفـوس أعيـت بهـا  النصحـاء
بـعتـم  عزكـم بقبضـة تـبـر        صـفـقـة لا أقـرهـا نـكـراء
بعتم  مجـدكـم بخسـران دهـر        أين  منكـم بنـي عُمـان الإبـاء
وشـريتـم ذل الحيــاة بـمـال        يـا سراة  الرجـال بئس الشـراء
أنعيمـًا بـه طلبتـم فـإن  كــا        ن فـلا كـان بئسـت الـنعمـاء
أو يـرعـاكـم الـعـدو إذا مـا        ملكتـكـم يــداه كيـف  تشـاء
فعلـى العــز بعـد ذاك  سـلام        وعلى المـذهـب القويـم العفـاء
    إنَّ الانجذاب إلى ذهب هذه الدنيا ومالها إلى درجة "يبيع" معها المرء عزته ومجده ويقبل أن يعيش ذليلاً لهو بئس المصير والقرار، فما له من عاقبة سوى الضياع الأبدي والوقوع في ذل الانقياد للعدو.
المحور الثاني: الموقف من الاغتراب:
    يلحظ قارئ الديوان أنَّ موقف الشاعر من الاغتراب ليس موقفاً واحدًا متّسقًا واضح المعالم، فثمة ملامح كثيرة يمكن أن تدرج ضمن هذا الموقف، وهي تتقارب فيما بينها وتتباعد، حتى إنها قد تتعارض وتتناقض أحياناً. بيد أنَّ هذه الملامح الكثيرة تنتظم بأجمعها في بُعدين رئيسين: انهزامي وفاعل.
    فأما البُعد الأول (الانهزامي) فهو الذي يظهر فيه الشاعر ضعيفًا منهارًا، ضائع الآمال تحت وطأة الواقع وشدة قسوته (26):
لكنَّ دهري وقد أخنى على  بصري        أخنـى على كل آمالـي ومُطلّبـي
    ومن الملامح البارزة لهذا البُعد، كثرة التأوه والتشكي (27):
آه يـا لـيــل هـنــائـــي        هــل تـعــدنـي  بـإيــاب
آه يـا صـبــح  ســـروري        عـد  بـأحبــابـي الـطـراب
آه مـا أعـظــم خـطـبــي        آه قـد جــلَّ  مـصـابـــي
    ويظهر من هذه الأبيات أنَّ ثقل الواقع على وجدان الشاعر بلغ درجة عظيمة صرفته عن الانتباه والتوجه لما يقتضيه الفن الشعري الرفيع، فإذا أبياته هذه نواح مفجوع لا يهتدي إلى الأداء الفني الرائق سبيلاً، وما هذا كان منتظرًا من شاعر كشاعرنا، له مكانته الشعرية الرفيعة المعروفة.
    وأيًّا ما كان الأمر، فإنَّ الانهزام يجعل الشاعر لا يجد أمامه سوى طريقين عليه أن يختار أحدهما: فإما أن يساير الناس بمثل طريقتهم، فيخادعهم مثلما يخادعونه (28):
خـادع الكـلَّ إذا أردت نجـاحـًا        فـي حيـاة تعسـًا لها أي  تعـس
    وإمّا أن يدع الدنيا وما فيها ومن فيها (29):
فـعـلـى الـدنـيــا  عـفـاء        بـعـــد أيــام الـعـــذاب
    وقد مرّ بنا قريبًا – في الحديث عن الاغتراب الاجتماعي – قوله:
آخِ يا ذا من شئت حتى من الجن ولكن حذارِ من كل إنس
    هذا كله فيما يرتبط بالبُعد الأول (الانهزامي). وأما البُعد الآخر (البعد الفاعل)، فقد يبدو أكثر حضورًا من ناحية الكثافة الكمية، بيد أنَّ هذا لا يعني بالضرورة غلبته على البعد الأول في مدى قوة التأثير في وجدان الشاعر. ولهذا البعد أيضاً ملامحه الواضحة، فمنها بقاء الأمل، أمل الخير والسعادة، مهما قسا الزمن أو تعاقبت نوائبه وطالت (30):
مُنْيتـي أنـتِ لو تعـذر  وَصْـلٌ        وتمـادى وطـال جـور زمانـي
    ومن ملامحه أيضاً التحكم في نوازع النفس والسيطرة عليها، مهما كان أثر ذلك سلبيًا وخطيرًا (31):
أكبت النفس أن تثور وفي الكبت قضاء على بقية نفسي
    ويقول معبّرًا عن صبره وجَلَده (32):
ولكـنَّ مثلـي لا تـليـن  قناتـه        وحسبك  منـي الصابـر المتكتـم
    ومن ملامح هذا البعد كذلك، البحث عن الفعل الحقيقي وترك روح التواكل والانهزام (33):
وطنـي والخطـوب فيـك  توالت        هـل على مثـل ما أتانـا بـقـاء
قدعجـزنـا عن الفعـال فقـلنـا        قـدر ساقـه لـنـا  والـقضـاء
    وانطلاقًا من هذا المنطلق، يتولى الشاعر تحريك أبناء العروبة نحو ما فيه مجدهم واستعادة مكارمهم ومكانتهم، فيقول (34):
قـم يا فتـى الـعـرب  الأبــاة        فـقـد ورثـت الـمـكـرمـاتِ
وانـهـض فمجـدك لـم  يـقـم        إلا عـلـى حــد  الـظـبـاتِ
طـهّـر بــلادك واغـتـنــم        عـز  الحـيـاة مـن الـممـات
    إنَّ هذا التحريك ليس دعوة سطحية يطلقها الشاعر لتكون شهادة له على موقفه، وإنما هو تحريك حقيقي تدعمه نظرة متعمقة، تعي مدى أهمية أن يقتدي اللاحقون بأسلافهم الذين حققوا الإنجازات الكبرى (35):
أيـن تـاريخـكـم وما دوَّنـتـه        قـادة الـهـدى سـادة عـلمـاء
أين منكـم أئمـة خيـرة  الخلـق        هـــداة أعـــزة  فـضـلاء
وملـوك شـادوا دعـائـم ملـك        وبـأفـريقيّـا تعـالـى الـبنـاء
    وهذا كله ليس أمامه من سبيل للتحقق إلا بعمل جاد وتطهير الصدور والرؤوس من كل ما يزري بها؛ لذا قال الشاعر على لسان عُمان (36):
بنيَّ انبذوا غلّ الصدور  وحطّمـوا        قيـودًا من الأوهـام  والهذيــانِ
ألا نزّهوا هذي العمائم أن  تكـون        مصايد أغـراض وسوء  وبهتـان
ألا نزّهـوهـا أن تتـوج  هامـة        لغير  زعيم أو لحـامـل عرفـان
    إننا هنا إذن بإزاء بُعدين ينضويان في ذات واحدة، ذات الشاعر، وهما البعدان الانهزامي والفاعل. وهذان البعدان يكشفان في الحقيقة عن التشظي الداخلي الذي يكمن في هذه الذات بين نوازع النفس ودواعي العقل، فالنفس تضعف أمام كل المظاهر التي يجدها الشاعر من حوله داعية إياه إلى السقوط والانهزام، لكنَّ عقله يدعوه إلى التحكم في هذه النفس وعدم الانصياع لتسويلاتها وضعفها والبحث عن الغد المشرق الآتي لا محالة. وفي هذا التشظي تكمن "الرؤيا" الحقيقية للشاعر، الرؤيا التي ترمي إلى التوفيق – أو الجمع في أقل تقدير -  بين ما تميل إليه نفسه من استسلام وانهزام، وما ينادي به العقل من قوة وثبات. ففي هذا الجمع خلاص الشاعر من معاناته التي يكتوي بنارها ويئنّ تحت وطأتها. وليس هذا الجمع بين البعدين – مهما بديا متنافيين – بمتعذر في عالم الرؤيا، فهو عالم حلمي في الأساس، وبوسعه ربط أية رؤية جزئية بأخرى مثلها على الرغم من كل البون الذي قد يظهر بينهما، "فالإدراك المعرفي الرؤياوي يحاور كل الموجودات بمنطق الحلم الذي يتخطى كل الفواصل والحواجز بكشوفاته التي يهتدي إليها، بما نسميه عادة الإدراك الشاعري للكون" (37)

 

تعليق عبر الفيس بوك