العدالة في شعر سعيد الصقلاوي


أ.د/ ناريمان عساف – بيروت – لبنان


قبل التطرق أكثر إلى المعالجات والأطر التطبيقية على مفهوم العدالة في النتاج الإبداعي لدى الشاعر العماني سعيد الصقلاوي وتحديدا في مدونته الشعرية والتي تطرقنا في حلقات سابقة إليها نأمل أن نعيد القاريء إلى ميدان وأدبيات مفهوم العدالة كمصطلح قديم قِدم نشأة الموجة الأولى من الحضارة الإنسانية وفي الفلسفات واللغات والأديان.
 
معنى العدالة لغويا وفلسفياً ودينياً
أـ معنى العدالة لغوياً:
  العدالة مصدر للفعل عدَلَ وعدَلَ يعني " ما قام في النفوس أنه مستقيم، وهو ضد الجور ـ عدَلَ الحاكم في الحكم يعدل عدْلاً وهو عادلٌ من قوم عدولٍ وعدْل. وفي أسماء الله سبحانه: العَدْلُ. هو الذي لا يميل له الهوى، فيجور في الحكم(1)... والعدَالة والعُدولة والمَعْدلة والمُعْدَلة، كلّه؛ العَدْل. وتعديل الشهود: أن نقول إنهم عُدُلٌ. وعَدَّلَ الحُكمَ: أقامه. وعدّلَ الرجلَ: زكّاه. والعَدَلة والعُدَلةُ: المزكّون، الأخيرة عن أبي الأعرابي(2)
قال الله عز وجل: وإن حكمتَ، فاحكُمْ بينهم بالعَدْل.
ـ وإذا قلْتم فاعْدِلوا.
ـ ولا يُقبل منها عُدلٌ.
ـ ولن تستطيعوا أن تَعدِلوا بين النساء ولو حرصْتمْ؛
ـ خلقك فسوّاكَ فعَدَلك، بالتحقيق(3)
عدل السهُم وغيره يعدِله عُدْلاً.
    وعَدَل القاضيِ والواليِ عَدْلاً، وعَدالةَ وعُدُلة ومَعْدلَه – بفتح الدال، ومَعْدِلة بكسرها، وأنصف ضدُّ جارَ. يقال: عَدل عليه في القضية، ويقال: وهو يقضي بالحقّ، ويعدِل، فهو عادل وعدْلٌ، وعدِل يعدَل عَدَلاً: جار وظلم، وعدُل يعدُل عَدَالةً: ضدّ جارَ جورا. وفي القاموس عدَل من باب ضرب- عدّل  الشيء والحكم إقامة، وفلاناً زكاه. والشاهد قال إنه عدلٌ. والميزانَ سوّاه. وشرب حتى عدَّل. أي صار بطنه كالعِدْل. وعادلةٌ
   معادلةٌ، وعِدالاً وازنه. وفي المحمل ركب معه. والشيء أعوجَّ . وبين الشيئين سوّى. ويقال فلانٌ يعادل هذا الأمر، إذا ارتبك فيه ولم يمضهِ. وقال ابن الرقّاع:

فإن يدكُ في مناسمها  رجآءٌ        فقد لقَيْت مناسمُها العِدَالا  
   ويقال عادلَ بين أمرين عِدالاً، إذا عُرض أمران، لا يدري لأيّهما يصير، فهو يتروّى من  ذلك. وأعدَل الشيء أقامه وسوّاه. وانعدَل عن  الطريق: حاد.. واعتدل السيءِ؛ توسط بين حالين في كم أو كيف وتناسبَ. وعدَّله، فاعتدل: أي قوَّمه فاستقام. العادل: اسم فاعل. ج عُدُول، كشاهد وشهود...
العدالة، مصدراً و شرعا، عبارة عن الاستقامه عن طريق الحق بالاجتناب عمّا هو محظور(4)
   العدل تسوية العِدْلَين -  امرأه عَدْلة أي عادلة والعُدَلةَ المزكّون للشهود، أو العُدَلَه – بضم، ففتح للواحد والعَدَلة بالتحريك للجميع،  العَدولّى الشجره العظيمة الطويلة. العَدَوْليّ الملاّح.  العَدْيل المِثلُ، والنظرَ جمع عُدلاء، وعديلك الذي يعادلك في الوزن والقدر(5)
ب ـ العدالة في الفلسفة والسياسة والدين
1ـ العدالة في الفلسفة
(1)    ــ العدالة في الفكر المصري القديم
    الفكر المصري القديم تناول مفهوم العدالة، وقد عنى فيه المساواة بين الأفراد، وقد ظهر هذا في التعاملات اليومية والدينية عند قدمائهم..
وقد كان  إتيان الخير والحق يتوافق إلى حد كبير مع السلوك الطيب، و كان ذلك يلقن للشباب من خلال فرع خاص في الأدب هو أدب التعاليم ـ وهو عبارة عن مجموعة من الحكم، النصائح التي تشكل الحكمة العملية، أو بالأحرى الذكاء في تناول الحياة.
الإنسان مسؤول عن أفعاله، والقدر فعل خارجي، ويمكن للإنسان النضال، ومواجهته، وقد "استخدم المصريون كلمة " نفر  Nufer" للدلالة على الطيب، والجميل، فهم يتحدثون على سبيل المثال عن شخصية طيبة، وعن (6)  شيء، أو شخص بأنه من الجميل النظر إليه كما أن " نفر" يرتبط أيضاً مع البهجة، والحظ الطيب، والكلمتان المضادتان، لذلك تعني باللغة المصرية القديمة "دجو dijow" الردئ وغير سار، أو غير محظوظ أو حزين)، بينما كلمة "بوين boin" تعني (ردئ في علاقته) مع  "عدم الجدوى، والكارثة والمصيبة" وهذه الكلمات لها على ذلك معنى "جمال (اسقاطي)، وأخلاقي" معا، بينما كلمة "ماع ma" التي تعني الحق، الصدق، العدالة" فتنتمي- على النقيض من ذلك فقط- إلى المجال الأخلاقي(7)

(2) ــ العدالة في الفلسلفة اليونانية
     أول من تناول مفهوم العدالة  في الفكر اليوناني السفسطا ئيون، فقد رأوا أنها تتمثل في مصلحة الأقوى، وقد كانت بالنسبة إليهم قيمة نسبية متغيره، لأن من يصنع معايير العدالة بالنسبة لهم هو النظام الحاكم في المجتمع، إذن هي في مصلحته، ومن ضمن منظومة دكتاتورية الأنظمة.
  وأفلاطون في كتابه الجمهورية، حلّل الحكومات على أساس ظروف حاضرها ومستقبلها، فالعدل داخلي، والإنسان هو العادل، والتماثل الذي شيد على أساسه العالم، يوجد في مجموع متوافق من أجزاء النفس الثلاثة، والظلم هو الانشقاق، وعدم الانسجام لعدم الاعتدال والجبن والجهل، وحيث إن المدينة ببنيانها تعتبر صورة مكبرة وواضحة لبنية النفس البشرية، إذ تَعتبرُ وجه الحكومة الأكثر حكمة بقياداتها هي العادلة، والديمقراطية تنشأ عندما يقسّم الفقراء مناصب الحكم بعد انتصارهم "، لكن إذا كان هذا النظام من أجمل النظم، على حد قول أفلاطون : فهو  مثل الثوب المزركش بكل أنواع النقوش، حيث توجد جنبا إلى جنب جميع الحريات حرية القول، لإمكان تحقيق كل رغبة، فهذا لايمنع أن هذا النوع من المساواة ليس هو العدالة، وأن الفوضى تنشأ بالعكس من السهولة التي يجدها الإنسان- في سبيل إشباع كل أهوائه- في الجزء غير المعتدل من النفس- وهو  في الواقع الذي يتحكم فيه- فتحلّ السفاهة محل الأدب والفوضى محل الحرية والوقاحة محل الشجاع(8)
    يقول بعضهم: "إنك إذا تحوّلت من فلسفة أفلاطون إلى فلسفة أرسطو، كنت كمن هبط من ذروة جبل إلى أرض ذات مزارع وبساتين، وتعهدت زرعها وأشجارها يدٌ ماهرة، وأحيطت بسياج حصين (9) فالحكم العادل بالنسبة لأرسطو هو "حكم منصف، ومن المستحسن له دائماً وجود طبقة متوسطة من شأنها أن تجسّد المثل العلى لوسط عادل.
   ويمكن الاعتقاد أن أرسطو أراد أن يميز الجمهورية على أساس أنها أفضل حكم، على الرغم من أنها الوسطى باعتبار أنها الوسط العادل، ويمكن لهذا أن يحمل على الاعتقاد بأن الجمهورية حيث الأغلبية التي تودع السلطة في يدها، والتي تكون مؤلفة من مجموعة من المواطنين لاهم بالاغنياء كثيراً، ولاهم بالفقراء كثيراً، ممن يجدون روح الإنصاف تمثّل في نظرة شكل الحكومة دوماً، ويمكن أن يكون لهؤلاء المواطنين، وهم متكتلون شعور عادل"(10)
    إن أرسطو وجد أن العدالة تتحقق عندما تتوزع الثروات بين الشعب على شتى أنواعها(11)
فالاتجاه الفلسفي اليوناني المستجد هدف إلى فصل الفرد عن الدولة، وإلغاء تعاليم أفلاطون وأرسطو، وكان من نتائج ذلك شعور الفرد أنه ليس مقيداً بحدود مدينته، فجاءت ردة الفعل العكسية التي برزت في فكرة العالمية.

(4) ــ العدالة في الفلسفة "العالمية" – بعد أرسطو.
بعد أرسطو اصطبع الفكر السياسي الإغريقي بطابعين جديدين هما الفردية والعالمية.
- معنى العالمية
   فكرة العالمية كانت تعتبر أن الإنسان مواطن عالمي، وجميع الناس على اختلاف ألوانهم وأديانهم وجنسياتهم يشتركون في صفة واحدة وطبيعة متشابهة، أي أنهم مواطنون عالميون. يحق لهم الانتقال بحرية من دولة إلى أخرى، لكي يتعرفوا إلى إخوانهم من بني البشر، وفكرة العالمية أدت إلى إلغاء القوانين المحلية، لكي تحلّ محل القانون الطبيعي، وكذلك أدت إلى إلغاء التمييز بين الإغريق، وغيرهم من الشعوب، ودعت للمساواة بين جميع البشر، وهذا أدى إلى القضاء على فكرة التمييز بين العبيد، والأحرار(12) والعدالة بالنسبة لأبيقورس (13) تكمن في معرفة الإنسان أن يكفي ذاته بذاته، لأن الحكمة هي أعظم الخيرات، إنها تعلّم الذي يريد أن يكون سعيداً أنه يجب أن يكون حكيماً وشريفاً وعادلاً، وتعلمنا كذلك أنه يستحيل على الإنسان أن يكون حكيماً وشريفاً وعادلاً، وألا يعرف في الوقت ذاته السعادة(14)

(5) العدالة في الفلسفة الحديثة
    وفي القرن التاسع عشر وجد العمال مدافعاً عن قضيتهم تمثّل في روبرت أوين Robert owen الذي أدخل في مصانعه أسساً جديدة لمعاملة العمال، وهو الذي "أعلن أن الاستغلال غير الإنساني للعمال الذي كان سائداً عندئذ خطأ؛ وقد أثبتت ممارساته أنه من الممكن إدارة عمل اقتصادي بربح، مع دفع أجور مجزية للعمال؛ ومن دون أن يشتغلوا ساعات زائدة على الحد... وفي عام 1827 اصبح أتباع أوين يسمون للمرة الأولى بالاشتراكيين، ولم تعجب أفكار أوين الراديكاليين، إلا أنها أدت إلى ظهور النظام التعاوني، ودعم الحركة النقابية في عهدها الأول.
  أما في الفلسفة التوماوية فإن  الفضيلة الكبرى هي فضيلة الحكمة العملية (Prudence)، وهي تقوم في توجه الذكاء نحو تكوين حكم عملي، صحيح بشأن مسألة متعينة من مسائل السلوك، وهنا نجد أنفسنا أمام وجه مميز للنزعة العقلية التوماوية. إلا ان الحكمة العملية لا يمكن أن تعمل على وجه صحيح  مع تهذيب الإرادة وتنظيمها هي الأخرى، تحت قيادة القوة والاعتدال.
    ويقوم مذهب القانون الاخلاقي، هو الآخر، بدور هام في النظام الأخلاقي التوماوي. إن الوعي هو الذي يحدد على وجه مباشر السلوك الإنساني. ولكن هذا الوعي ماهو إلا تعبير عن القانون الطبيعي، أي عن قوانين أخلاقية مباطنة للطبيعة البشرية ذاتها(15)
    ويقوم المذهب الاجتماعي، كذلك، بدور هام في الأخلاق التوماوية، إن الإنسان الفرد هو أعلى مراتب الوجود في العالم، لذلك ينبغي الى سائر الموجودات الأخرى أن تكون في خدمته، ولكن المجتمع ليس أمرا مصطنعاً، وهو أكثر من مجموع البشر فيه، لأنه يحتوي، من بعد البشر، على علاقات حقيقية. كذلك، فإن الإنسان، بطبيعته، كائن إجتماعي، ويقوم الخير المشترك بدور حاسم في السلوك، وذلك في إطار نظام الفضائل، وهكذا، فإن العدل الاجتماعي، في نهاية الأمر، هو الذي يقتضي إنماء الفضائل "الشخصية" الخالصة، ومنها الاعتدال على سبيل المثال، وذلك لأن قيمة الإنسان تمثل قيمةً بالنسبة للمجتمع (16).
    وقد ارتبط معنى العدالة لدى الفيلسوف إمانويل كانط I.Kant  بثلاثة معايير أخلاقية هي: الحرية، الكرامة، والواجب.
  وقد شك الفيلسوف نيتشه Nietzshe,Friedrich (17)في إمكانية تحقيق العدالة لأنه كان يؤمن بالقوة، فيكون تحقيقها للضعيف في فلسفة أخذ حقه، وهو الذي يعلن أولوية الاندفاع الحيوي على العقل، ويطالب بمراجعة كل القيم، وينادي بعبادة الرجل العظيم(18)، وإذا استطلعنا التطور الفكري الذي أدى إلى نهاية المطاف إلى ظهور الشيوعية، فقد تجنب المحامي الإنكليزي البارز توماس مور (في كتابه "يوتوبيا عام 1516)، والفيلسوف الإيطالي توماسو كامبانيللا (في كتابه "مدينة الشمس" عام 1601) الكلام عن عالم مثالي تسود فيه العدالة والمساواة.
    بعد ذلك تأثر المنظرون الشيوعيون في القرن التاسع عشر وبشكل متحيّز بالكاتب الفرنسي السياسي الشهير جان جاك روسو(19)  Jean Jaque  Roussauالذي عاش في القرن الثامن عشر حيث كتب عن تطور الإنسان الأول، وظهور المجتمعات الأولى لاحقاً التي خلقت توزيع الأعمال وعدم المساواة،  وكارل ماركس karl marx (20)هو أكثر الشخصيات المؤثرة في تاريخ الفكر البشري الحديث، فنظرياته الإجتماعية والسياسية، تدرس في جميع الجامعات الغربية... وقد أسس مدرسة فكرية في المفهوم الشيوعي تسمى الماركسية، وقد تأثر ماركس بالنظرية الجدلية للفيلسوف الألماني الشهير "جورج هيغلHeegel" (21)؛ والماركسية هي الأشهر بين المدارس الشيوعية وتهدف إلى تاسيس مجتمع عديم الطبقات، وعديم الانتماء إلى أي وطن، أو قومية، وعلى أساس الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج، وأغلبية الممتلكات.
    إن مضمون الوعي الإنساني لدى الماركسيين يحدده المجتمع، ويتعدّل حسب التطور الاقتصادي، وهذا الوعي دائماً يخضع الاقتصاد لإرساء العدالة الإجتماعية، فالضروريات يجب أن تؤمن لكل الطبقات الإجتماعية.
  وحسب نظرية القيم يذهب مذهب المادية التاريخية إلى أن كل محتوى الوعي، يعتمد على الاحتياجات الاقتصادية، وهذه الاحتياجات الاقتصادية بدورها في تغير وتقلب دائمين،  وينطبق هذا خاصة على الأخلاق والإستيطيقا والدين(22)
  وفيما يخص الأخلاق، فإن المادية التاريخية لا تعتبر بوجود أية قوانين خالدة دائمة، أبدية على الإطلاق، إنما لكل طبقة إجتماعية نظامها الأخلاقي الخاص بها. والبروليتاريا، أو الطبقة العاملة، وهي الطبقة التي ترى الماركسية أنها تحمل لواء التقدم، وأنها الأقدر على تحقيقه، هذه الطبقة تضع لنفسها قاعدة أخلاقية عليا، تقول: إن الذي يؤدي إلى تحطيم عالم البرجوازية هو وحده خير أخلاقي، وذلك في سبيل العدالة الإجتماعية.
2: العدالة في السياسة، وأعمدتها
(1)    العدالة لدى حمورابي
   من القوانين التي نصت، والتي أبرزت دور العدالة في إنشاء مجتمع سليم هو قانون حمورابي(23)، ويعتبر هذا القانون الدولة العادلة هي من  تضع لنفسها قاعدة أخلاقية عليا، وتقول: إن الذي يؤدي إلى تحطيم عالم البرجوازية هو وحده خير أخلاقي، وذلك في سبيل العدالة الإجتماعية.
   وأقدم القوانين، هو برغم قدمه أبعد من أن يكون شريعة بدائية، إذ ينمّ عن تطور طويل للفكر القانوني، ويصور لنا الناحية القانونية للعبقرية البشرية، التي لا يمكن الاستغناء عنها في بناء أية حضارة.
   ويحتوي القانون على 282 مادة، تسبقها مقدمة يوضح فيها الملك  عظمته وأهدافه السامية، ويقول فيها أنه قنن القوانين الموجودة "ليجعل العدل سائداً في البلاد، ولكي يُبيد أهل الشر والفساد، حتى لا يطغى القوي على الضعيف، ولكي يشرق العدل فوق ذوي الرؤوس السود، ولينشر النور في البلاد". لذلك يضيف حمورابي: "يجب أن أقود الناس، وأن أدير شؤون البلاد، لهذا أَصدرت القانون والعدل في لغة البلاد، متوخياً بذلك رعاية مصالح الناس(24)، وفي مقدمة شريعته يقول: "إن الآلهة أرسلته ليوطد العدل في الأرض، ولينهي إستعباد القوي للضعيف.
(2) العدالة في جمهورية ارسطو (النظام الدستوري)
  أعتبر أرسطو أن النظام الجمهوري (الدستوري) هو النظام الأمثل للحكم، ويبدو واضحاً، أنه ترك لكل مجتمع حرية اختيار نظام الحكم الذي يعتقد أنه يتفق أكثر من غيره من الأنظمة مع بيئته، أما الأسس التي تقوم عليها الدولة المثالية، فهي التالية:
1ـ الحكم يقوم على أساس مبدأ القانون، وليس بمقتضى الإرادة الفردية.
2ـ الهدف الأساسي عند الحكم هو تحقيق الخير العام للجميع، وليس مصلحة فرد معين، أو أي طبقة من طبقات المجتمع.
3ـ النظام يجب أن يقوم على أساس رضاء المحكومين
   وحيث إن العدالة بالنسبة له تحمل لصاحبها على توخي صنع ما هو حق، والتصرف على الوجه الصحيح، وطلب ما هو حق دوماً. ولها صلة بالالتزام بما هو مشروع، فجميع الأفعال المشروعة عادلة والعكس، بالعكس، والعدالة هي عبارة عن الفضيلة الشاملة في مجتمع بشري منظم، وهذه العدالة ثلاثة أقسام هي:
- العدالة التوزيعية، أي التوزيع العادل للمناصب والمال في الدولة كل حسب كفاءته.
- العدالة التصحيحية، أي إعطاء كل ذي حق حقه في المعاملات الإختيارية كالبيع والشراء والاستدانة، وغير الاختيارية كالسرقة والزنى والاغتيال وشهادة الزور وغيرها، وهذا النوع من العدالة عبارة عن إنصاف صاحب الحق المغتصب، ورد حقه إليه.
- العدالة السياسية، وهي التي تستند إلى إناس أحرار متساوين، يشتركون في حياة الدولة الواحدة. ويخضعون للقوانين. وهذه العدالة قسمان؛ طبيعية ووضعية.
    والعدالة الطبيعية واحدة في جميع أنحاء الدنيا " لا تتوقف على اعتقاد الناس هذا أو ذاك". بل هي ملزمة في كل مكان، بينما العدالة الوضعية تختلف باختلاف البلدان والأعراف، كالكفالة التي تُحدّد مثلاً لإطلاق السجين، والمراسم في استقبال السفراء وغيرها من العادات(25)
   وإذا نظرنا إلى دستور روما، فنجد أنه كان ينشأ من عملية المزج بين الدساتير، والأنظمة المعتدلة والأرستقراطية والديموقراطية، إذ توجد في روما مجالس تشبه سلطات الملكية المعتدلة، ثم يوجد شيوخ عبارة عن الأرستقراطية، وأخيراً يوجد الشعب الذي يتمتع بجميع الحقوق3.
  3: العدالة في الدولة
(1) العدالة في الدولة المسيحية  
     اعتقد المسيحيون بأن الغرض من قيام الحكومة، وفرض القوانين هو إقامة العدل بين الناس، والفلاسفة الأقدمون كانوا ينادون بنفس هذه الفكرة، وآمن المسيحيون بوجود مساواة بين البشر.
    وقد وضعت المسيحية حداً للتقاليد  القديمة التي كانت تمزج الدين والدولة، فحددت مفهوم الدولة التي تمثل السلطة الزمنية، والكنيسة التي  تمثل السلطة الروحية، قال السيد المسيح عليه السلام "اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، وبذلك يكون قد وضع الحجر الأساسي لبناء الكنيسة المسيحية وإرساء دين سماوي يهدف إلى هداية  الناس جميعاً، ولا يهتم بشؤون الحكم والدولة. واعتقدت المسيحية بأن مرحلة هذا العالم الذي نعيش فيه هي مرحلة تسبق العالم الدائم والأبدي، وهو عالم السماء، إذ قال يسوع المسيح: "مملكتي ليست من هذا العالم"
(2)    ــ الفكر السياسي الإسلامي، والعدالة.
   الإسلام خاتم الرسالات السماوية خرج إلى النور بعد سبعة قرون من قيام المسيحية.
 هذا وإن القرآن لم يضع نظاماً معيناً لشكل الحكومة (ملكية أو جمهورية)، ولم يشر إلى مبدأ فصل السلطات، ولم يرسم قاعدة معينة لاختيار الحاكم (طريقة الانتخاب أو الوصاية أو الوراثة)، وإنما كان القرآن الكريم دستوراً للمسلمين يتضمن المبادئ التي يعتمد عليها، وهذا الدستور يقوم على دعائم ثلاث هي:
ـ العدل: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل".
ـ الشورى: "وشاورهم في الأمر، وأمرهم شورى بينهم".
ـ المساواة: "وإنما المؤمنون إخوة"(26)
   والناس في الإسلام سواسية كأسنان المشط، ولا فرق بين أعجمي وعربي إلا بالتقوى (على حد قول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم).
والقرآن الكريم أوضح هذا المفهوم بقوله سبحانه وتعالى:
 ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيم ٌ خَبَيٌر﴾ (27).
   والعدالة في الدين الإسلامي تتجلى في توزيع الثروات: "فالماء والكلأ والنار ملك للجميع"، ليس هذا فحسب، بل إن العدالة لكي تتحقق بين البشر، على البشر أن يحسنوا نواياهم نحو بعضهم، "فلا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه".
  ومن أركان الإسلام الزكاة، فعلى الأغنياء توزيع اثنين ونصف بالمائة من ثرواتهم على الفقراء، أو الخمس من الغنائم.
  والعدالة في الإسلام تعني إعطاء كل فرد ما يستحق حسب جهده في العمل:"أعط الأجير حقه قبل أن يجف عرقه".
مما تقدم نستنتج أن العدالة في المجتمعات كي تتحقق يجب أن يتوفر وجود أولياء أمور وحكام عادلين.
   وقد أثبتت النزاعات التي عمت الشرق الأوسط في العقد الحادي والعشرين أن شكل نظام الحكم سواء كان ملكياً أو إقطاعياً أو جمهورياً... إلخ، لا يرتبط بتحقيق العدالة، لأن هذه المسالة تتعلق بضمير ووجدان الحكام.
المراجع والمصادر:
(1)     الإمام العلامة ابي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الافريقي المصري، دار بيروت للطباعة والنشر، مج11، بيروت 138/1968 ، ص، 430
(2)     م،ن، ص،ن.
(3)     م،ن، ص، 432.
(4)     المعلم بطرس البستاني، محيط المحيط، قاموس مطول للغة العربية- مكتبة لبنان- ط 1977. ص 58
(5)     المعلم بطرس البستاني، قطر المحيط، مكتبة لبنان، ناشرون، ط 2 1995 ص369
(6)     يتروسلاف تشرني، د. أحمد قدري، الديانة المصرية القديمة، القاهرة دار الشروق، ط 1996ـ ص103-104   
(7)     جان بيير ديمون ،تر، ديمتري سعاده، الفلسفة القديمة، المنشورات العربية ، د. ت.ص، 105
(8)     د. محمد كريم ، تطور الفكر الفلسفي والسياسي من مصر القديمة حتى الإسلام، المكتبة العصرية صيدا ، بيروت، د.ت.ص، 136
(9)      الفلسفة القديمة ماذا أعرف، ص 105
(10)    تطور الفكر الفلسفي والسياسي من مصر القديمة حتى الإسلام، ص 136
(11)    جان بيير ديمون ،تر، ديمتري سعاده، الفلسفة القديمة، المنشورات العربية ، د. ت.ص، 105
(12)    د. محمد كريم ، تطور الفكر الفلسفي والسياسي من مصر القديمة حتى الإسلام، المكتبة
         العصرية صيدا ، بيروت، د.ت.ص، 136
(13)    الفلسفة القديمة ماذا أعرف، ص 105
(14)    تطور الفكر الفلسفي والسياسي من مصر القديمة حتى الإسلام، ص 136
(15)    جان جاك روسو: كاتب فرنسي (1712- 1778)
(16)    http.www.alquds.co.ak/?p.Dec11,2015
(17)    كارل ماركس: فيلسوف من بروسيا (1818- 188
(18)    جورج هيجل: (1770- 1831) فيلسوف الماني
(19)    هي فلسفة الفن أو فلسفة الجمال.
(20)    الفلسفة المعاصرة في أوروبا، ص 116.
(21)    حمورابي ملك بابلي تولى الحكم خلال المده (1750- 1792).
(22)    جمال مولود ذبيان، تطور فكرة العدل في القوانين العراقية القديمة، دراسة  قانونية مقارنة،
         بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 2001- ص122
(23)    تطور الفكر الفلسفي والسياسي في مصر القديمة، ص .125
(24)    تطور الفكر الفلسفي والسياسي في مصر القديمة، ص 177
(25)    القرآن الكريم، سورة الحجرات ﴿13﴾

 

تعليق عبر الفيس بوك