تغير النظرة إلى الأنا الجمعي الفلسطيني في "وجوه" وليد أبو بكر


أمين درواشة – رام الله - فلسطين


بعد النكسة وهروب السلطة المسيطرة على رام الله، وتركها لقمة سائغة في فم المحتل، يقضي شريف جل وقته في بيته، يعمل جردة حساب للسنوات الماضية. وكما ذكرنا سابقا، فإنه يرجع ما جرى له في حياته إلى شعوره بالخوف منذ الصغير، الشعور الذي سيبقى يلاحقه حتى النهاية.
يقول إن شعوره بالخوف وهو صغير، أضطره للابتعاد عن الأرض والمدرسة وأولاد الجيران، ونتيجة لذلك التصق بحضن أمه، التي أشعرته بأنه خلق للدلال وحده. وهو يتساءل دوما من أين جاء الخوف، ويقول: "في بعض الأوقات كنت أتصور أنني رضعته من حليب أمي ـ ثم أتذكر أن أختي، التي رضعت الحليب ذاته، كانت أكثر جرأة مني، واستطاعت أن تقف في وجهي حين نافستها في الأرض بعد وفاة أبي ـ فلا ذنب لي فيه" (ص69).
ويشعر بأن الجميع تخلوا عنه، ولم يبق له سوى الوحدة والبرد، "لماذا لا يعود إلّي إلا البرد، بكل قسوته، لدرجة أن أسناني أخذت تصطك، فلا أستطيع السيطرة عليها؟ هل أخذت رام الله كل شيء أعطته، ولم تبق لي إلا بردها القاسي؟" (ص18). ويعترف لنفسه بأن زمنه غادر ولن يعود "وبأن زمنا آخر يولد الآن، قد يكون رجال لا أملك أمامهم إلا أن أهرب" (ص88)، تماما كما هرب الذين أشبعونا كلاما عن قوة أثبتت الأيام "أن الوهم هو الذي يزرعها حولهم، وأن هناك من يصّدق الوهم لأنه لم يواجهه؟" (ص88).
أنه يهذي، ويتدفأ بالهذيان ليفر من برد رام الله الذي لا يرحم، فلم يكن سوى واهم أنه يملك القوة، وأستطاع أن يقنع الناس بذلك، حتى أقتنع هو نفسه، ولكنه تعرى "أمام الوجوه والعيون والكلمات القاسية الجريئة، وأخيرا أمام حجر صغير يقذف به طفل صغير" (ص88)، فالبرد لا يأتي فقط من الطقس، بل من الشعور بالوحدة والخذلان والضعف.
إنه يهرب إلى جحره الصغير، وهو غرفة صغيرة، استولى عليها سابقا من شاب اعتقله، لكنه يفشل في الاختباء من نفسه، وبعد أيام يشعر بالمرض ويغمى عليه، فقد نسيّ أن يتناول الطعام منذ أيام. ويقبل الجيران لمساعدته، ويقدمون له الشوربة الدافئة، ويقول عن هذه التجربة "أخذت أحسّ بالدفء، وكان يزداد، كلما قدموا لي عناية صغيرة، فأدرك كم فقدت، حين فقدت دفء الناس" (ص89).
إنه يعرف الآن أن الإنسان لا يحتمل أن يعيش دون حبّ الناس، فالبرد يخلي مكانه للدفء، بفضل يد العجوز الطيبة التي ساعدته، ويعود ليتساءل من جديد: هل تغير؟ وكيف للإنسان أن يتغير عبر موقف واحد؟ وتطلّ عينا نبيلة، لتقول: "كم موقفا واجهت، ولم تتغير؟" (ص91). ثمّ تقبل الابتسامة الواسعة لجميل، قائلة: "ألم يكن وعدك قاطعا، فما الذي فعلته حين جاءتك الفرصة؟" (ص91)، لكنه لا يستطيع قطع وعد، بعد الذي فعله، بل يقول: أنا "لم أعد أثق بنفسي، وقد انقض ما أعد به، إذا جاءت فرصة تغريني بأن أفعل" (ص91).
بعد فترة يعود إلى بيته، لتستقبله زوجته باستهجان واستهزاء: البلاد احتلت كلها، ونبيلة رحلت مع الذين رحلوا، هل عرفت؟
ويجيب بانكسار: عرفت: كلّ شيء باطل، الذين كانوا يوهموننا بالاطمئنان كذبوا، والذين كانوا يوهموننا بالحماية كذبوا، والذين صرخوا والذين هتفوا والذين تظاهروا، والسجن والسجان، كلهم باطل. رام الله محتلة، وما حول رام الله، والذين كانوا لم يعودوا، والحياة لم تعد هي الحياة" (ص94).
ويحس بالاختناق، وتمطره زوجته بالأسئلة القاسية، هل عرفت الآن؟ ويصرخ لنفسه: لست مسؤولا، غيري هو المسؤول، ما أنا سوى عبد مأمور ينفذ ما يؤمر به "هل مهدت لاحتلال رام الله؟ أين كان حامد أبو رسن ومن حوله؟ وأين كل الأصوات التي كانت تهدر فيصدقها الناس؟ وأين الرتب والنياشين التي تستعرض نفسها في الشوارع؟ وأين كل السلاح وكل الاستعدادات وكل الذين حاربوا الشغب والإخلال بالأمن والخيانة والطابور الخامس؟" (ص96). وينظر إلى رام الله بألم، فقد "كان شيء كالموت يظلل هدوء رام الله، لا أحد في الشارع في عزّ النهار، وعزّ صيفها أيضا. وكان هواء رام الله ساكنا، لا يحرّك طرف غصن، وكان هناك ما يضغط على صدر رام الله، ويمنعها من التنفس" (ص95). إنه الاحتلال الذي سيقتل كلّ شيء جميل في رام الله.
وأثناء تلاعب الأفكار به، يقرع باب بيته بقوة، ويدخل الجنود الإسرائيليون، ويخبرونه بضرورة حضوره إلى المركز غدا، فتتبخر كلّ أفكاره، وتقريعه لنفسه، ويسأل: ماذا يريدون مني؟ وهل يكون لي مكان في الزمن الجديد؟

الأنا المشروخة وتماهيها بالآخر العدو
يستدعى شريف ورفاقه إلى المركز المحتل، ويطلب منهم تسليم أسلحتهم، والعودة إلى منازلهم، ويقول عن هذه الحادثة: "عدنا مشيا، لم أتطلع أعلى من حذائي وأنا أتحرك. كنت أشعر بأن شيئا آخر يبدأ، قد لا يكون لي فيه مكان" (ص93). وكان مخطئا، وتمّ استدعاؤه لمقابلة الحاكم العسكري الجديد، فقضى ليلته تؤرّقه الهواجس، ويرهقه الخوف، إلا أن زوجته طمأنته بسخريتها اللاذعة، أن لا خوف عليه، فالاحتلال لن يفرّط بأمثاله، ويشعر براحة داخلية لقولها، ولكن الخوف يعود إليه من جديد، عندما يتذكر نبيلة، ويقول لنفسه: إذا سئلت عنها، سأعلن "براءتي التامة  منها، إذا طلب مني، لأنها خرجت عن طاعتي، وهربت دون أن أدري" (ص97).
أمام الحاكم العسكري الإسرائيلي، وقف شريف خائفا، فنظر إليه الحاكم العسكري نظرة قاسية، وقال: كنت وفيا في عملك السابق، فهل ستكون كذلك معنا؟ فأجابه باندفاع: "تحت أمرك يا سيدي" (ص99). عندها هزّ الحاكم رأسه، فأخبره شريف أنه صادق بكلامه وبإمكانه أن يسأل عنه، فأجاب الضابط الإسرائيلي: "لست بحاجة إلى أن أسأل أحدا، نحن نعرف، ونحن نجرّب، نحن نجزي، هل فهمت ما أعني؟" (ص100). وفهم شريف الرسالة، واستطاع أن يكسب ثقة الحاكم العسكري، الذي سلمه رام الله، فأصبح السيد الأول فيها كما يعتقد، فلا أحد مسؤول عنه سوى الحاكم العسكري، بعد أن هرب العقيد أبو رسن قبل إقفال الحدود، حيث قيل "إنه ارتدى ملابس النساء، فاستطاع أن يفلت" (ص100).
لم يعط شريف إذنا صاغية لزوجته، التي لم تكفّ عن مهاجمته ونصحه، فعندما قالت له: الآن ليس لديك أيّ تبرير، إنك تعمل مع المحتلين المغتصبين لوطنك فهم "ليسوا من ملتك ليرحموك أمام خطأ، ولن ترحمك ملتك وأنت تخون" (ص105)، ليجيب: ملتي، وأين ملتي الآن، إنهم يقدمون لي رام الله على طبق "دون خوف، لأنهم أقوياء، ودون مشاكل، لأن الذين يصنعونها هربوا" (ص105). ولم يجد أحدا من بيته يفهمه سوى ابنه نبيل.
وتلقى أول أوامر بأن يطرد زملاءه القدامى الذين رفضوا العمل مع المحتلّ إلى خارج الحدود، فأخبره زملاؤه أن عمله الجديد جريمة بحقّ الوطن، وأنهم سيعودون متسلحين بأمل جديد في غياب الاحتلال، لكنه صدّهم ونهرهم.
يغرق شريف في عمله، لكنه يعجز عن النوم، فالأرق يمنعه من ذلك، وفي الصباح يرجع إلى عمله مندفعا. ويعيد علاقته مع القوادة نعيمة، وتخبره بأن أنيسة في انتظاره، ولم يعد شريف يهتم لأمر أحد سوى نفسه، فلا يعير اهتماما لزوجته، ولا حتى لابنه الذي يكتفي بإعطائه ما يطلبه من نقود. أما نبيلة فقد غابت عن العين والقلب. ويغوص في المتعة لكي ينسى، ويخدع نفسه بأنه لا يقوم بعمل مشين. ويمارس عمله في رام الله بشكل آلي، وعندما ينتهي، يعود إلى أنيسة التي شغلته عن كل شيء، يرجع "شوقا مركّزا إلى كلّ لحظة معها" (ص111). وهكذا استطاع هزيمة الأرق والقلق، فهو دون عقل الآن، كما يقول، ويشعر بالرضا والنشوة، عندما يخبره الحاكم العسكري "لو لم أكن أعرفك، لقلت أنك واحد منا" (ص112). ولكن هدوء رام الله لا يستمر طويلا، وتعلن الثورة الفلسطينية عن نفسها، بعمليات فدائية جريئة وموجعة في أنحاء فلسطين.

اهتزاز الآخر العدو تحت ضربات الثورة
ابتدأت صورة الآخر في الرواية قوية، وصارمة، وواثقة، وقادرة على كلّ شيء، وعندما شرعت المقاومة الفلسطينية تذيق الآخر العدو الألم، استدعى الحاكم العسكري الإسرائيلي شريف الزوري، وقد رحلت ابتسامة السخرية عن شفتيه، وحلت محلها تكشيرة، غيّرت ملامح وجهه. يقول شريف إن "هذه التكشيرة، أصبحت طابعا له بعد ذلك، مما جعلني أتساءل إن كان لا يزال يشعر بالتفوق" (ص115).
تحدث الحاكم العسكري عن المخربين، الذين كثر نشاطهم وأصبحوا يهددون حياة الناس ويرعبونهم، وتوقف عن الكلام لحظة وكأنه يراجع نفسه، كما يقول شريف، ثم أكمل: "لا تفهم من هذا أننا نخاف منهم، فنحن أقوياء، لا تخيفنا الجيوش، وذراعنا طويلة تصل إلى حيث نريد" (ص116)، ولكننا لا نريد أن ينتشر الخوف بين الناس، لأننا لا نعرف إلى أين يمكن أن يصل ـ فتذكر شريف قول جميل، أن هؤلاء المحتلون لا يربطهم شيء بأرضنا، وأنهم سيفرون إلى المكان الذي قدموا منه إذا شعروا بالخوف ـ وتابع الضابط حديثه: "لأن الناس عندنا تعوّدوا أن نحميهم، وأن تكون حربنا داخل الحدود الأخرى، بعيدة عنهم، فلا يعرفون إلا النصر الذي نحققه" (ص116)، أما الآن فالأمر أختلف، ويجب أن نجد حلا.
شعر شريف بالخوف مما هو آت، ولكنّه عاد يبرر الخيانة لنفسه، بأنه لا يستطيع التوقف الآن، لأنهم سيقتلونه، وبأن الجسر بات محروسا من الجهتين الآن.
ومارس الاحتلال همجيته الشرسة على الشعب الفلسطيني، وكانوا يعتقلون أي شخص، فالشعب كله مشبوه، وهم يلفقون التهم كيفما اتفق. ولشريف الزوري رأي مثير للانتباه هنا، إذ يرى أن لهم دافعين متصلين أقواهما وأكثرهما وضوحا هو الخوف، "لأنهم كانوا يعبرون عنه في كل تصرف، وكان توتر الخوف الذي لا يهدأ هو الذي يقود حركاتهم في شوارع رام الله، وهو يعبر عن نفسه بالحذر الشديد، والقفز لدى الإحساس بأية حركة، أو سماع أي صوت لا يعرفون مصدره" (ص118). ولاحظ شريف أن معاملة الحاكم العسكري له تغيرت، فلم يعد يعامله بالحماسة نفسها، لقد حلّ محلها شيء آخر، يقول شريف إنه لم يكن الشكّ، بل شيء آخر "أخذت أحسّ به، من خلال وجوههم المرعوبة، وعيونهم التي صارت تحدّق في الفضاء، وهي تستطلع خطرا قادما من حيث لا يعلمون، يحسّون تجاهه بالعجز، فيدركون أنني أكثر منهم عجزا" (ص125).
ويتحدث عن عجز الاحتلال في مطاردة الوجوه التي تشكل خطرا، لأن هذه الوجوه أصبحت تولد بغتة، وتضرب فجأة، وتختفي دون أن يعرف أحد مكانها، فتسبب للاحتلال الغضب والحماقة والجنون "ويصل الأمر حدّ الجنون الذي لا يعرف كيف يتحرك، وأن كان لا بد له أن يتحرك ليلمّ الناس، ويهدم البيوت، ويصرخ ويهدّد، ويزداد جنونا كلما ولدت وجوه جديدة، تضرب وتختفي" (ص125)، فالأمر لم يعد أن يختاروا هم اللحظة ويضربوا ضربتهم بسرعة خاطفة ويحتفلوا بالنصر بعد ذلك، فاللحظة أصبحت كامنة في كل لحظة، "يختارها من لا يعرفون عنهم ما كانوا يعرفون عن غيرهم. صارت كل اللحظات تملك أن تكون في أي مكان، فصار الخوف متصلا، والجنون متصلا، وهم أصحابه" (ص125-126).
واختلفت طريقة حديث الحاكم العسكري مع شريف، فبعد أن كان يثق بنفسه وبجيشه وجهاز أمنه، ويتحدّث بصرامة وأوامر قاطعة، "صارت جمله متقطعة لا يربطها منطق. كان يقول: في البداية، كنا نعرف أنهم يتسللون عبر الحدود، حصّنا حدودنا، وضربناهم في حدودهم، واخترقنا الحدود ـ وكانوا خسروا في كلّ مواجهة ولم يعترفوا ـ لكن الذين يتحركون داخلنا أخطر، علينا أن نبقي أعيننا مفتوحة كل الوقت حتى تتعب، ومع ذلك فإن وجوههم تتسلل وتزداد من وراء عيوننا" (ص126). كان الحاكم العسكري ينهي كلامه بحزن وأسى، ويخطب ودّ شريف ويحمله جزءاً من مسؤولية ما يجري، لكن شريف لم يجرب من قبل ما يجري وهو أعجز عن مواجهته.
وعندما يرحل شريف إلى بيت أنيسة، يجدها تعلم الكثير مما لا يعرف، وتقول له: إن الجميع يعرف، ويظهر أنك يا شريف الوحيد الذي لا تعرف، أو لا يهمّك ما يجري، "إنه احتلال، يخلق مقاومته الذاتية من الداخل، وتكبر وتكبر، حتى لا يستطيع أحد أن يسيطر عليها" (ص126). ويتذكر شريف أن "عصبية الحاكم العسكري كانت تزداد، وثقته بنفسه كانت تهتز" (ص127). وعندما كان يرى عيني الحاكم العسكري تقدحان الشرر، كان يهرب إلى بيت أنيسة التي تضحك، قائلة له: "ألم تسمع عن عملية فدائية كبيرة؟" (ص127). وشريف يسمع باستمرار عن ذلك، ويعود إليه الاسم الذي كرهه، جميل الحيّاني، "ويطل وجهه في عيني، بابتسامته الواسعة وهو يقول: هل صدقت الآن؟" (ص127). ما كان يحدث كان يثير غضبهم، ويزعجهم، "وإن الشوكة كانت تؤلم أكثر، حين تجيء من الداخل، من حيث لا يعلمون، وإن هذه الشوكة كانت تزداد وخزا، يوما بعد يوم، فتوجعهم أكثر" (ص127). ويتساءل: "ماذا يفعلون لو تحوّلت كل الوجوه حولهم إلى أشواك؟" (ص127)، ويحس بالخوف، ويشعر بالخطر "هل يمكن لهذه الأشواك أن تظلّ بعيدة عني؟" (ص127).
لم يعد شريف يصدق هذا التباهي بالقوة والحديث عن الانتصارات السريعة والحاسمة، فهم لا يتحركون من مكاتبهم وآلياتهم المحمية جيدا. وصار يشعر بسعي الاحتلال للتخلص من خوفه، بالتخلص من مصدره، وهو الشعب الفلسطيني، لذلك فعلوا كلّ شيء لإفراغ الأرض من سكانها الأصليين، فكانوا يعتقلون أي شخص ويدينونه بتهم كثيرة ملفقة؟ ويعذبونه ثم يطردونه من وطنه خارج الحدود، وهدفهم من ذلك، زرع العجز في النفوس في جدوى المقاومة.

نظرة الأنا السلبية الجديدة إلى الثورة
يشعر شريف بأن كل شيء حوله ضيق، وأن هنالك شيئا يضغط عليه ويكاد يخنقه. وعندما يسير في شوارع رام الله، يرى الوجوه في الشوارع مرتفعة إلى أعلى، وليس كالسابق تنظر إلى أسفل. وهو يقول عن نفسه، بعد أن أصبح عاجزا وعقيما كما الاحتلال الذي يعمل عنده: "لم يكن توازني كاملا، حاولت أن أشدّ نفسي، قامتي الطويلة ـ التي كنت أعتزّ بها كثيرا ـ انحنت، حتى شعرت بأنني صرت أقصر مما أعرف نفسي" (ص119). ويضيف، بالتأكيد هذا أفضل "حتى لا يعرفني أحد ممن عرفت" (ص119). وعن تجربته الفريدة وهو معتقل لمدة شهر في معسكرات المقاومة، يقول: "عرفت أن لديهم قناعات يضحّون بأنفسهم من أجلها. فهمت لماذا كانوا يصمدون" (ص152). وبعد عودته إلى رام الله من معسكرات المقاومة، يجرّ فشله وعجزه، وسماعه عن العمليات الفدائية للمقاومة، ويتحدث عن أن المقاومة فتحت بابا للأمل من رحم اليأس والقنوط. ويعبر عن اندهاشه لاستمرارها رغم الضربات القاسية التي تلقتها من الاحتلال، فقد كان يظن مع كل ضربة يتلقاها الثوار، أنها ستكون القاضية، لكنه يفاجأ "بأن نهوضهم كان أقوى، وبأن صوتهم في العالم صار أقوى، وبأن تأثيرهم في أعدائهم يزداد" (ص152). ويحمد شريف ربه، بأنه الآن يعيش في بيته ولا أحد يطلب منه شيئا. ويشعر بالخوف كلما سمع أن قوة المقاومة تزداد، رغم الضربات، ويقول: "وكأن هذه القوة كانت تتقصّدني، رغم أنني وقعت بين أيديهم، ولم يفتكوا بي" (ص153 ). وترجع به الذاكرة إلى كلام جميل ونبيلة "أن الناس لا يموتون، والحق بهم لا يموت أيضا" (ص153). وكان يسخر منهم، فإذا كانت الجيوش الضخمة انكسرت، فماذا يستطيعون أن يحققوا هم، ولكن "حين انهار الحلم، ظلوا يحلمون" (ص153)، وبدأ حلمهم ينمو ويزهر.
أقتنع شريف بعد هذه التجارب، وعرف "أنهم كانوا يعرفون ما يفعلون، وإلى من يستندون حتى يحققوا حلمهم. الآن أعرف أنهم كانوا يتطلعون إلى صحوة ما، وأن الصحوة حدثت، وأن أية خطوة إلى الوراء لن تكون، لأنها ستكون الموت، وهم قاوموا الموت، وما زالوا ضده" (ص154). وأخذ يتذكر أنه كان يركز على الأخطاء الواقعة، ورغم أن الأخطاء كانت في بعض الأحيان كبيرة إلا "أن صورة جديدة تشكلّت، خلقت طريقا جديدا، وهوية لن تضيع، هي أكبر من كل الأخطاء، ما دامت أعادت إلى الناس حقهم في أن يطالبوا بحقهم"  (ص154).
شريف عرف هذه الصورة بعد فوات الأوان، حيث كان إلى الجانب الخطأ الذي شوه الصورة الجديدة وحاول وأدها. وهو يتذكر ابنته، حبيبته، ويقول إنها لن تصدق أنني وصلت إلى هذه القناعة لأنني دائما ما انقض قناعتي في أية فرصة تأتيني. ويضيف: لم يقنعني بذلك نبيلة ولا جميل، بل أقنعني كلّ الناس في رام الله، "أقنعني الذين رفضوا أن يتعاونوا معي، وأقنعتني المحبّة والتعاون والتراحم بين الناس" (ص155).
ويستمر شريف في مونولوج داخلي طويل في حديثه مع نفسه أقنعتني: "الزغرودة تودع شهيدا، والبيوت تحتضن جريحا، واللقمة توزّع بالعدل، وأقنعني سيل الحجارة الذي انهال على سيارتي دون خوف فحطّمها، وكاد يحطمني قبل أن أتسلل إلى جحري الذي أختفي فيه الآن" (ص155). لقد عرف شريف أخيرا أن الناس حين يرغبون، يستطيعون أن يفعلوا، وأن الأمر لم يعد شوكة في جسد الاحتلال بل صار الأمر "رفضا كاملا، دون خوف أو تراجع، يستطيع أن يهزّ الاحتلال في قناعاته، وأن يقول له بوضوح شديد: لن نتعايش معك داخل أرضنا، ولن نقبل بأقل من أن ترحل" (ص155).
ورغم وصوله إلى هذه القناعات، إلا أنه يحاول جاهدا أن يبعد الأفكار عن ذهنه، ويعود للبحث عن دوره القذر من جديد، فيتساءل: لماذا رموني، رغم الخدمات الجليلة التي قدمتها لهم، ورغم التفاني والإخلاص في عملي، فإذا لم يثقوا بي، فهل من الممكن أن يثقوا بشخص آخر، لقد رموني ككلب عديم الفائدة.
يخرج من جحره، ليسير في شوارع رام الله، وتقوده خطاه إلى بيت أنيسة، ويرنّ جرس الباب، ولا أحد يجيب، ويجرّ نفسه بصعوبة، ويتساءل عن الشخص الذي ترتمي أنيسة في أحضانه الآن، بعد أن رمتني هي الأخرى.
يبحث شريف عن مكان له في العالم، فلا يجد أحدا مهتما به. وتبدأ رام الله وكلّ فلسطين في الغليان، "رام الله تصل إلى حدود الغضب. رام الله تواجه النار بصدرها. كل المدن والقرى تواجه. كل الناس يقفون معا في وجه النار" (ص181)، ويحس بالبرد من جديد، ويحدث نفسه، أن ما يجري في فلسطين شيء كبير، فما يجري يشارك فيه كل الشعب، فمن يستطيع أن يهزم كل الشعب؟
انطلقت الانتفاضة، واستقال رجال الشرطة الذين كانوا يخدمون مع الاحتلال، إما لأنهم عرفوا الحقيقة أو خوفا من إنذارات قادة الانتفاضة لهم، فلم يجد الاحتلال أحدا يعمل معه غير شريف وأمثاله، الذين فقدوا كل شيء.
يعود شريف للترحيب بالعمل مع الاحتلال، باحثا عن مكان له. يسأله الحاكم الجديد لرام الله إذا كان مستعدا للعمل معهم، فيجيب دون تفكير "كنت مستعدا كل الوقت" (ص184)، ويكلفه الاحتلال بمحاولة إعادة الشرطة العرب الذين استقالوا، ولكنه يفشل فشلا ذريعا، وكان الجواب الذي سمعه من أحد زملائه "أن التسابق إلى الخيانة، كما يراه، لا تغريه فرصته" (ص186).
شريف ما زال يقفل أذنيه، ولم يفهم ويستوعب أن الانتفاضة حدث لا يمكن السيطرة عليه، لأن الشعب كله ثائر لتحقيق حريته، فقال عن زملائه السابقين الذين فهموا: إنهم جبناء وأغبياء، لأنهم لم يفهموا "أن الانتفاضة مسكينة لا تملك أن تفعل شيئا أمام الجبروت" (ص 186). وظّل يلف ويدور في رام الله دون هدف، ثم يعود إلى بيته، ليجد إنذارا يتضمن تهديدا له بضرورة ترك معاونة الاحتلال، فيخاف ويرتجف ويخرج من البيت من جديد، يحسّ بدوران الأرض، وأصوات الناس ترتفع، وترتفع تصيبه بالجنون، ليجد نفسه في خضم المواجهات والأصوات تلاحقه وتحيط به، والحجارة تنهال من كل الاتجاهات، ثم ينطلق الرصاص، ويشارك شريف في إطلاق النار على أبناء شعبه. وفجأة يشعر بالخوف والخطر، ويتذكر أن الاحتلال رماه سابقا، ولم يسأل عنه، فمن الذي سيسأل عنه إذا أصيب، فيتسلل فارا كالفأر كما كان يقول والده.
وصل سيارته، ووجد أنها تهشمت بفعل الحجارة، وكان أحد الأحجار يحمل إنذارا جديدا. إن "الذين يواجهوننا ليسوا من البشر" (ص189)، ويسير في الشوارع المنزوية، لا يعرف إلى أين المسير، ولا نهاية للطريق الذي اختاره، ويتملكه الرعب، ويترك سيارته، ويهرب إلى المقبرة، ويقول: "أحسست بالاطمئنان قليلا، فالموتى لا يفتنون، والأحياء لن يبحثوا عني بين الموتى" (ص190).
أبدع المؤلف هنا، في تصوير حالة شريف الزوري النفسية، فهو يحس بالحياة، ولكنه ليس على ميدان الحياة. يشعر بدنوّ الموت، فيهرب منه إليه، ألقى مسدس الاحتلال بعيدا، ثم عاد ليبحث عنه، وحين وجده، تساءل: "هل سأقدم على قتل نفسي بمسدسهم؟" (ص190). ويقول عن تلك الفكرة التي راودته، إنها "عادلة تماما، ولكني رفضتها" (ص190). وفرّ إلى وكره من جديد، يبحث عن الاختباء كفأر.
في مخبئه، أخذ يحلم بالكثير من أحلام اليقظة التي تشير إلى تدهور حالته النفسية، وتعلقه بخيوط الوهم، ليقنع نفسه، أن كل شيء سيكون على ما يرام، وأنه سيعود أقوى مما كان، فالانتفاضة ستكسر، وسيعنف زوجته الغبية ومن ثم يطردها، ليجلب أنيسة إلى بيته حتى لو بالقوة. ويبذل جهده ليبعد فكرة النهاية عن عقله، فحياته ما زالت في أوجها، وهناك كثير من المهمات في انتظاره. ويقول عن محاولاته إبعاد شبح الموت عنه: "كنت مصرا على أن أبقيه بعيدا عني، لأن أوانه لم يحن، ولأن أمامي مهمات ما زالت، عليّ أن أنجزها، وفاء بما قطعت من وعود" (ص191).
الانتفاضة تقوى يوما بعد يوم، ولم يكن هناك في الأفق ما يدل على أنها سوف تخبو، وقد صارت ملكا لكل الناس. ويتحدث شريف عنها بأنها أصبحت الشغل الشاغل للعالم أجمع "وحفظ العالم أسماء المدن، وأسماء قرى لم يسمع أحد بها من قبل، وصارت الانتفاضة تمتد، من المسجد إلى الشارع، من المدينة إلى المخيم، من المخيم إلى القرية، من الأرض إلى السماء، صارت تمتد وتؤثر، في الداخل والخارج، صارت حديث العالم، صارت همّ العالم، كشفت قوة بلا حدود، كشفت وحشية بلا حدود، صار الحجر شعارا، وصار المقلاع، وصارت الأيدي الصغيرة التي يكسرها العسكر" (ص192). ويعبر عن نفسيته المشوشة والمحطمة بسبب ذلك، أن أمله بالعودة إلى ما كان عليه يخبو، كلما ازداد أمل الذين حاربهم في العودة. تتضارب أفكاره، ولا يستطيع أن يحدد إلى أية جهة سيقف، فالصراع ما زال محتدما، رغم أنه يميل أكثر إلى قدرة الاحتلال على خنق الانتفاضة، لكنه يتفسخ رعبا ويحس بقرب أجله كلما سمع عن عميل قتل، ويهرب إلى طيف نبيلة ابنته وحبيبته يحاوره: "هل ترضين أن يكون لوالدك هذا المصير؟" (ص192). ويتذكر أنها رضيت، فيلتهمه الخوف من جديد.
في وكره سمح له الجيران بزيارتهم شفقة عليه، وطالبوه بالتوبة، وهو كان بحاجة لهم، "وكنت من أجل ذلك أجاملهم، وأتظاهر أمامهم بالندم" (ص193). وتظاهر أيضا بأنه حاول أكثر من مرة أن يثبت حسن نيته، لكن المقاومين رفضوا تصديقه.
في وكره الجديد القديم، لم يخبر أحداً عن التحاقه بخدمة جيش الاحتلال ضدّ الانتفاضة، لأنهم لن يسكتوا،: "فقد كان الماضي، في عرف كل الناس، يمكن أن يغفر، أما أن يقف أحد في وجه الانتفاضة، وأن يتعاون مع الذين يريدون إجهاضها، فتلك هي المصيبة الكبرى، التي لا تمرّ دون حساب" (ص193). واستمرّ في الكذب حول السبب الذي جعل زوجته تتركه، والكذب بالقول إن الاحتلال عاقبه بسبب موقع ابنته. إنه يكذب ويكذب حتى يعيش، فحياته ما زالت عزيزة عليه. وهو والعملاء باتوا يدركون أن الأوضاع تغيرت في الوطن، وأنهم لا يستطيعون تجاهل الإنذارات، و"قدّروا، أن يبادروا إلى تلبيتها، وإظهار الانصياع لما تطلبه منهم" .
وهو يعود بذاكرته إلى ابنته، ويخاطب نفسه بإنها لن تصدق أن شريف الزوري تغير "وبأن أية فرصة تجيء سوف تقلبني من جديد، إلى كلب يشمّ رائحة المصلحة، ويجري وراءها" (ص194).
ويعترف شريف، وهو يعرّي نفسه، أن التوبة ليست خالصة في قلبه، وإلا لأعلنها أمام جيرانه، لكنْ هناك شيء حدث في داخله، جعله يستذكر كلام نبيلة، وهو يرى بعينيه "أن الصدر العاري يقف في وجه الرصاص، وأن قذيفة الحجر، صارت أقوى من قذيفة المدفع" (ص194)، ويتساءل بحيرة: "ألا يشكل هذا تحوّلا جذريا في داخلي، أم أن ما هو مطلوب مني هو أن أولد من جديد، مع كل الذين ولدوا، والذين سيولدون؟" (ص194).
وبالتأكيد، الثورة تنجب أولادها الشرعيين من رحمها، ولا يمكن لمن شكك فيها وتعاون مع المحتل في محاولة وأدها المشاركة فيها، خصوصا وأن شريف رجل مريض نفسيا واجتماعيا، ومرضه مستعص ولا يمكن شفاؤه.
شريف فعل كما أغلب العملاء، حيث احنوا "رؤوسهم وهاماتهم أمام عاصفة الانتفاضة، ربما تمر، على أمل أن تعود مياههم إلى مجاريها القديمة، بعد أن تهدأ الأحداث" . وعلى الرغم من محاولة الكاتب، فتح الطريق أمام شريف الزوري للتوبة، إلا أنه لم يحسم أمره، وسيظل ككل العملاء والخونة، خائفا ومختبئا كالفأر في جحره، آملا أن يستطيع الاحتلال كسر الثورة، أو ينتهي به الحال وحيدا، مطرودا، ونسيا منسيا.

والرواية من روايات البطل السلبي، الذي ينبذه مجتمعه، ويرغب في التخلص منه. وقد نجح الكاتب في رسم شخصية شريف الزوري دون تدخل مباشر منه، وشخصية شريف هدف الكاتب من ورائها إلى تسليط الضوء على ما هو مكروه وبغيض في المجتمع الفلسطيني؛ فالرواية تظهر قيما "موجودة إن أحببناها أو كرهناها مع الكارهين، لأنها تناقش موضوعا انخرط من خلاله جزء من المجتمع" ، سواء بالضغط والتهديد والابتزاز، أو بطموح مجنح مريض في خدمة الاحتلال، فنحن نعيش في مجتمع يتضمن القيم والمبادئ الإيجابية كما يتضمن القيم السيئة والانحراف عن الصواب. وقد استطاع الكاتب، عبر استخدام المونولوج، والصراع النفسي، وتيار الوعي ضمن الشكل الفني للرواية، الوصول إلى الصراع الداخلي للبطل شريف الزوري، وإظهار ما يعتمل في عقله وقلبه من صراع بين الحقيقة والوهم، والطموح والواقع، والرغبات غير السوية.
...........................................
المصادر:
وليد أبو بكر. "الوجوه". رام الله، بيت المقدس للنشر والتوزيع، 2003م، ص 13.
محمد البوجي. "تأملات نقدية في نماذج من الأدب الفلسطيني المعاصر". في: موسى، إبراهيم، وآخرون، "الآفاق المستقبلية للرواية الفلسطينية في ربع القرن القادم"، رام الله: منشورات مركز أوغاريت الثقافي، ط1. 2001م، ص 51.
المرجع السابق. ص 51.
 نادي ساري الديك. "رواية الوجوه للكاتب وليد أبو بكر"، في: أبو أصبع، صالح، وآخرون. "نحو دراسة تأصيلية للرواية الفلسطينية المعاصرة"، رام الله: منشورات مركز أوغاريت الثقافي،  ط1. 2000م، ص 154.
  - محمد صواف. "الانتفاضة في أدب الوطن المحتلّ"، دمشق: منشورات اتحاد الكتاب العرب،  ط1، 1997م، ص 103.
  - محمد الصواف. مرجع سابق. ص 103.
  - نادي الديك. مرجع سابق. ص 143.

 

تعليق عبر الفيس بوك