الانبعاث في شعر خليل حاوي.. "نهر الرماد"و"الناي والريح" أُنموذجا (1)


د. إحسان اللواتي – جامعة السلطان قابوس


    ليس من المبالغة أن يقال: إنّ الشاعر العربي الحديث قد استطاع تخطي المسافة بين ما هو خاص وما هو عام من الرؤى الشعرية، فهو لم يتخلّ عن شحن شعره بشحنات من تجاربه الشخصية ورؤاه وأحلامه وآماله؛ وبذا لم يفقد الشعر حرارته الوجدانية ودفقته الإنسانية الشعورية، وفي الوقت نفسه لم يسترسل الشاعر مع همومه الذاتية، ناسيًا كل ما يمتّ بصلة إلى تطلعات مجتمعه أو أمته وهمومهما، بل "تحول الشاعر الحديث إلى شاعر رؤى حضارية، وامتدت مسافة المعاناة والعذاب والتموج الداخلي والحنين ضمن التجربة الشعرية الذاتية الواحدة المتوحدة"(1). والطريف في الأمر أنّ هذا التحوّل لم يكن ارتيادًا لآفاق لم يسبق للشعر أن ارتادها في تاريخ البشرية الطويل، بل كان نكوصًا إلى الوراء، وعودة بالشعر إلى "الدور الذي كان يقوم به في الأطوار الأولى من الحضارة الإنسانية، حين كان الشاعر نبيّ القوم وكاهنهم وساحرهم وقائدهم السياسي والاجتماعي"(2).
    وعندما نكون بسبيل الحديث عن الرؤى الحضارية في شعرنا العربي الحديث، فإنّ ثمة شاعرًا لا يمكن إغفاله في حال من الأحوال، وهو الشاعر اللبناني خليل حاوي (1919 أو 1925 – 1982)؛ ذلك أنّ "غاية الشعر عند خليل حاوي غاية حضارية، بمعنى أنّ القصيدة عنده تلتزم بمواجهة ما في الأعماق من تردٍّ وانكفاء، لتحيلها إلى أعماق دافقة عاصفة، تعيد بعث حضارة إنسانها العربي من خلال اقتناعها برؤيا الانبعاث الذي يحمله الشاعر"(3). ومن هنا، لم
يكن وصفه بأنه "شاعر البعث العربي الأول الذي طرح تجربة البعث على صعيد حضاري مطلق"(4) وصفًا مجانيًا أو قائمًا على أساس واهٍ، فلقد كان حاوي "الأول" فعلًا: الأول فيما وصل إليه من مستوى عمق التناول الحضاري وتميزه، والأول أيضًا من جهة تقدمه الزمني على غيره فيما يقال(5) ، بل ذهب بعض الدارسين إلى أن شعر خليل حاوي مختلف تمامًا عن شعر سواه من الشعراء العرب المعاصرين، نتيجة تميز تناوله للناحية الحضارية(6).
    لقد كانت وراء تميّز التناول الحضاري لخليل حاوي مجموعة من الأسباب، لعل من أهمها كون هذا التناول متصفًا بالأصالة. فعلى الرغم من سعة اطلاع حاوي على النتاجات الفكرية والأدبية والفلسفية في الغرب، إلى جانب اطلاعه على تراثه العربي، فإنه لم يجعل من رؤاه نسخة مطابقة لرؤى أي مفكر أو أديب أو فيلسوف، بل ظلّ كما قال نزار قباني عنه: "لا يغمس قلمه إلا في دواته، ولا يستعير أصابع الآخرين"(7)، وهذا ما منح تناولَه صفة الأصالة وعدم التقليد. إنّ تناول خليل حاوي انطلق من إيمانه ومعتقده، اعتقادًا داخليًا حرًا، غير قائم على تقليد أحد أو مجاراته فضلًا عن إطاعته، حتى لو كان هذا "الأحد" هو حزبه الذي كان قد انضم إليه وهو ما يزال في الخامسة عشرة من عمره، الحزب السوري القومي. فخليل حاوي نفسه يخبرنا بأنّ إيمانه بالانبعاث العربي لم يكن قائمًا على أساس من فكر حزبه هذا الذي انفصل عنه فيما بعد.
فالحزب كان يقتصر، في دعوته إلى الوحدة، على وحدة منطقة الهلال الخصيب باسم سورية والحضارة السورية، لكن حاوي كان يعتقد "أنّ الدعوة إلى مثل هذه الوحدة نفسها يجب أن تكون باسم العروبة؛ لأنها السمة الجوهرية التي يتم بها تراث المنطقة، هذا مع الاعتقاد بإمكان قيام وحدة عربية أشمل"(8). على أنّ فكرة الانبعاث العربي التي آمن بها خليل حاوي لم تكن تتلخص في قضية الوحدة العربية وحدها، فبناء انبعاث حضاري عربي هو – كما قال – "أبعد من الوحدة السياسية العربية، غير أنه يجب أن يكون هناك وحدة ليحس الإنسان العربي بطاقة أمة كبيرة وأنه ينتمي إلى أمة كبيرة"(9) .
    والسبب الآخر لتميّز تناول خليل حاوي الحضاري هو أن تناوله لقضية الانبعاث العربي الحضاري لم يكن يوتوبيًا مغرقًا في الأحلام الوردية، كما لربما يصنع الكثيرون، بل كان تناولًا واعيًا مستندًا إلى أساس من مراعاة الظروف الموضوعية المحيطة بالأمة. ومن هنا، لاحظ الدارسون أنه قد "تقلّب إيمان خليل حاوي بانبعاث الحضارة العربية وانتفاض الإنسان العربي من موته، بين مدّ وجزر"(10)، فقد بدأ موضوع الانبعاث يظهر منذ ديوانه الأول "نهر الرماد" الذي أهداه إلى "الطليعة المقبلة"، لا سيما في نشيديْ "عودة إلى سدوم" و"الجسر"، وقوي هذا الموضوع واشتد في الديوان الثاني "الناي والريح"، ولا سيما بعد الوحدة بين مصر وسورية في العام 1958، إذ كانت هذه الوحدة "من الأسباب المباشرة التي فجرت رؤيا الشاعر، فصورت له انحلال مظاهر الانحطاط وولادة حضارة عربية أصيلة"(11). لكن هذه الوحدة سرعان ما انهارت، وانهارت معها
رؤى خليل حاوي وتطلعاته، وبرز هذا الانهيار بوضوح في ديوانه الثالث "بيادر الجوع"(12)، وهذا ما أوضحه بقوله: "وكان بعض النقاد قد نَعَتَني بـ "شاعر الانبعاث الأول"، فلم يمنعني ذلك من الإخلاص ليقين التجربة والرؤيا وإعلان ما تكشف لي، إنّ ما يدعى بالانبعاث لم يكن سوى تكرار لترسبات عصر الانحطاط، وليست عودة إلى ينابيع الحيوية في الفطرة الأصلية"(13).
      وبعد انهيار الوحدة المصرية السورية عام 1961م، شهد الواقع العربي مجموعة من المآسي المتتابعة: هزيمة حزيران 1967، واشتعال الحرب الأهلية في لبنان 1975، والاجتياح الإسرائيلي الغاشم للبنان 1982. ومع كل هذه المآسي، لم تعد رؤى خليل حاوي تجد لنفسها أي معنى، فتلاشت تمامًا، بل لم يعد خليل يرى لحياته كلها أي معنى، فجعل لها نهاية. "لقد رُبط انتحار خليل حاوي بالغزو الإسرائيلي للبنان، وظل انتحاره يُفسر على أنه احتجاج على هذا الغزو، بكل ما يحمله ويشير إليه من دلالات، وأنه نتيجة حتمية له"(14).
بناءً على ما تقدم، يكون مجانبًا للصواب أن يُفسر احتلال قضية الانبعاث المنزلة الأولى في شعر خليل حاوي بأنه: "كان من قدر الشاعر الحديث أن يكون، رغم النكسات الكثيرة التي ألمّت بأمته، متفائلًا، وأن يستشرف من خلال الواقع المظلم مستقبلًا أنضر، رغم ما تقدمه قصيدة لعازر من شهادة مخالفة"(15)، فقد تقدم أن تفاؤل حاوي بالمستقبل لم يكن تفاؤلًا ساذجًا، أخرقَ، يتغاضى عن الواقع بكل محدداته وتفصيلاته. والدليل على عدم كونه كذلك، عدم استمراريته عندما لم تعد دواعيه موجودة على أرض الواقع في نظره. أما قصيدة "لعازر عام 1962" فهي
إحدى قصائد الديوان الثالث "بيادر الجوع"، وهو الديوان الذي انهارت فيه رؤيا الانبعاث، فلم تعد قائمة. وبعبارة أخرى: القائل يفترض أنّ خليلًا بقي متفائلًا مهما كانت ظروف الأمة، وأنّ قصيدة "لعازر" هي استثناء من هذا، لكنّ الحقّ أنّه لم يبقَ متفائلًا دومًا، وقصيدة لعازر دليل على هذا.
    إنّ هذه القراءة محاولة متواضعة لتتبّع أهم ملامح موضوعة "الانبعاث" في أوان مجدها في شعر خليل حاوي، أي في ديوانيه الأوّلين "نهر الرماد" و"الناي والريح". وعلى الرغم من كثرة ما كُتب عن هذه الموضوعة تحديدًا، إذ لا تكاد تخلو أية دراسة عن حاوي أو شعره من إشارة إليها، فإنّ الدراسة الحالية تطمح إلى أن يكون لها سبيلها الخاص في تلمّس موضوع عنايتها، على ألّا يعني هذا إهمال الدراسات السابقة أو تناسي جهود أصحابها.
    وسنحاول في هذه القراءة، ، أن نستجلي أهم سمات الواقع العربي المتخلف كما يظهر في شعر خليل، لننتقل بعد هذا إلى الحديث عن أهم النقاط المرتبطة بالانبعاث الحضاري كما يظهر في هذا الشعر، في الديوانين الأّولين.

.............
المصادر:
(1)    أمطانيوس ميخائيل: دراسات في الشعر العربي الحديث، ص 38.
(2)    ريتا عوض: أدبنا الحديث بين الرؤيا والتعبير، ص 97.
(3)    عبد الرضا علي: دراسات في الشعر العربي المعاصر، ص 22.
(4)    جورج طرابيشي: "خليل حاوي بين نهر الرماد والناي والريح، من المأساة إلى الملحمة"، الآداب، العدد 9، أيلول 1961، ص 79.
(5)    تقول عفاف بيضون: "كان خليل حاوي أول من وحّد عندنا بإخلاص تام بين مصيره ومصير بلادنا" (عفاف بيضون: "نهر الرماد، رائد الاتجاه الوجودي"، الآداب، العدد 5 للعام 1958، ص 26).
(6)    يقول خليل الموسى: "يختلف شعر الحاوي عن الشعر العربي المعاصر اختلافًا جذريًا، فهو، في مجمله، نسيج وحده في موضوعاته وبناه التي تتلاقى عند نقطة واحدة: الهمّ الحضاري" (خليل الموسى: "الوحدة العضوية الكلية في قصيدة خليل حاوي"، الموقف الأدبي، العددان 149و150 للعام 1983، ص 55). ويقول مطاع صفدي: "ليس في تاريخ الشعر العربي المعاصر تجربة التحمت ببنية الزمن العربي ولحظته الخاصة بالنسبة لمشروعه الثقافي، ولتقاطعه البنيوي مع المشروع الثقافي الغربي، كتجربة حاوي" (مطاع صفدي: "الشعر: الكون والفساد"، الفكر العربي المعاصر، العدد 26 للعام 1983، ص9).
(7)    إيليا حاوي: "قراءة في شعر خليل حاوي"، الفكر العربي المعاصر، العدد 26 للعام 1983، ص29.
(8)      ساسين عساف: "السيرة الناقصة كما أملاها خليل حاوي على ساسين عساف حين كان طالبًا لديه"، الآداب، العدد 6 للعام 1992، ص 102.
(9)    ريتا عوض: "خليل حاوي: الشاعر، الناقد، الفيلسوف"، الآداب، العدد 6 للعام 1992، ص33. والمقالة تتضمن حوارا مع الشاعر.
(10)      ريتا عوض: مقدمة ديوان خليل حاوي، ص 29.
(11)      ريتا عوض: أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث، ص 115.
(12)      محمود شريح: "تجربة المدينة في شعر خليل حاوي"، الفكر العربي المعاصر، العدد 10 للعام 1981، ص 91.
(13)      محيي الدين صبحي: مطارحات في فن القول، ص 67.
(14)      خليل الشيخ: الانتحار في الأدب العربي، ص 98-99. وجدير بالذكر أنّ الدارسين قد اختلفوا في تعليل انتحار خليل حاوي وذكروا في المقام أسبابًا متعددة، راجع للتفاصيل: مي المغايرة: "الزمن في شعر خليل حاوي"، رسالة ماجستير، جامعة اليرموك، 1996، ص14-20.
(15)      إحسان عباس: اتجاهات الشعر العربي المعاصر، ص 131.

 

تعليق عبر الفيس بوك