عبيدلي العبيدلي
لو قدر لمؤسسة علمية أن تُحصي مفردات مداخل القاموس السياسي العربي التي استخدمت في خطط الإصلاح التي يتبناها أي نظام سياسي جديد، فربما تتبوأ كلمة "الفساد"، أو بالأحرى "محاربة الفساد"، قائمة المفردات التي ترد في خطابات نسبة عالية من القادة، سياسيون كانوا أولئك القادة، أم رؤساء شركات. فليس هناك من لا يدعو لمُحاربة آفة الفساد، وقطع دابره، والتصدي لأسباب تفشيه في مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني على حد سواء. ولهذا نجد أنَّ الحديث عن محاربة الفساد يأتي في أعلى درجات سلم برامج محاربة الأمراض الاجتماعية والسياسية والإدارية التي تتبناها الكثير من المنظمات الدولية والإقليمية، تتقدمها الأمم المتحدة، فهناك، على سبيل المثال لا الحصر، "اتفاقية الأمم المُتحدة لمكافحة الفساد التي اعتمدتها الجمعية العامة في 31 أكتوبر من عام 2003، ودخلت حيز التنفيذ في ديسمبر من عام 2005".
وقد جرمت اتفاقية الأمم المُتحدة لمكافحة الفساد لسنة 2003، مظاهر الفساد، على الرغم من عدم تعريفها للفساد بشكل محدد، لكنها بالمقابل، وكما تنقل العديد من المصادر، جرمت حالات الفساد التي حددتها في مجموعة من الحالات من أبرزها:
• رشوة الموظفين العموميين الوطنيين.
• اختلاس الممتلكات أو تبديدها أو تسريبها بشكل آخر من طرف موظف عمومي.
• المتاجرة بالنفوذ.
• إساءة استغلال الوظائف.
• الإثراء غير المشروع.
• الرشوة في القطاع الخاص.
• اختلاس الممتلكات في القطاع الخاص.
• غسل العائدات الإجرامية.
ورغم ذلك لم تنجو هذه المنظمة الدولية من تلك الآفة. ولعل في كتاب "(الأمم المتحدة: تاريخ الفساد)، للصحافي والكاتب إيريك فراتيني"، الكثير من الفضائح التي رصدها الكاتب بالبحث، بما فيها قضايا الغش، الفساد، المحسوبية، الاحتيال، الاعتداءات الجنسية، العنف، التعذيب، الرشوة، سوء التدبير، الإدارة الكارثية وغيرها من القضايا الكبيرة التي تورطت فيها المنظمة وأمناؤها العامون والمسؤولون الكبار فيها."
وكما تتحدث بعض التقارير فإنَّ "أكثر من 70 مليار شخص في العالم يعيشون ضمن الدول الأكثر فساداً. وفي الواقع إن عدد الدول التي تتخبط في مستنقع الفساد يتفوق بشكل كبير على تلك التي تتخذ خطوات جدية لمُحاربته".
ولا يقتصر أمر الفساد، على المنظمات الدولية، ولا تقف حدوده عند البلدان النامية، بل يتعدى كل هذه القائمة، كي يحط رحاله فوق أراضي دول مُتقدمة مثل الولايات المتحدة، التي لم تنجو هي الأخرى من هذه الظاهرة التي يعود تاريخها في تلك البلاد إلى ما يعرف باسم "حلقة الويسكي ففي العام 1871، عندما حاول البعض التهرب، من ضريبة الـ 70 سنتاً للغالون على الخمر، وذلك من خلال تزوير تقارير مبيعات الويسكي، ما أتاح لهم جني المزيد من الأرباح... وقدر الربح في العام 1871 من هذا المخطط بنحو 1.5 مليون دولار، وكان هذا الرقم آنذاك مبلغا ضخما للغاية، وانكشفت "حلقة الويسكي" بعد تعيين، بنجامين بريستو، وزيرًا للمالية في العام 1874".
وفي الولايات المتحدة أيضاً هناك ما يعرف باسم فضيحة كریدي موبیلیه، والتي "بدأت بشركة وھمیة تدعى (كریدي موبیلیه)، التي أسسها توماس دورانت المسؤول التنفيذي في شركة سكك حديدية آنذاك، بغرض إخفاء أموال جمعها بطرق غیر مشروعة. وكان دورانت یسند لنفسه مھاماً على أن تدفع (كریدي موبیلیه)، ثمن ھذه المھام. ولإبقاء الأعين بعيدة قدم دورانت رشى لأعضاء بمجلس النواب في الكونغرس الأمريكي. لكن بعدما نشرت صحيفة (نيويورك صن) القضية في العام 1872 أجرى مجلس النواب تحقيقًا كشف الفساد في تلك الشركة الوهمية".
وفي وقتنا الحاضر، وعلى الصعيد العربي، تحذر معظم التقارير الدولية، مثل تلك الصادرة عن منظمة الشفافية الدولية من "أن أغلب الدول العربية تراجعت في مجال مكافحة الفساد في 2016 ... (مضيفة) أن 90 في المئة من هذه الدول حققت أقل من درجة 50 (على مؤشر يبدأ من صفر حيث الأكثر فسادا إلى 100) ... (مشيرا إلى) أن ستا من أكثر عشر دول فسادا في العالم عربية، وهي سوريا والعراق والصومال والسودان واليمن وليبيا، وذلك بسبب انعدام الاستقرار السياسي والنزاعات الداخلية والحروب وتحديات الإرهاب."
وكسواها من الظواهر السياسية أو الاجتماعية، تكمن وراء انتشار ظاهرة مثل الفساد مجموعة من الأسباب المباشرة وغير المباشرة. البعض منها تعود جذروه إلى أسباب سياسيّة يفرزها "ضعف مؤسسّات المجتمع المدنيّ وفسادها، (الذي يقود) إلى ضعف تطبيق الأنظمة، وقلّة الشفافيّة، والتّضليل بحقوق الأفراد وواجباتهم".
وكما تشير العديد من المصادر فقد نتج الفساد عن جُملة من العوامل تختلف تبعاً لاختلاف دوافع الشخص الفاسد، علماً بأنّها تحدث في كافّة المجالات الحياتية، بما في ذلك المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وكذلك في الميدان المهني، ولهذه الممارسات تأثير سلبي على سير العمل وعلى المصلحة العامة، كل ذلك لا يعني استحالة محاربة الفساد، فهناك الكثير من الطرق الفعالة والأساليب المجدية، التي من شأنها الحد من تفشي ظاهرة الفساد، لإن لم يكن في الإمكان القضاء عليها كلية. وإذا ما تجاوزنا الوازع الديني، والواجب الوطني، والالتزام الأخلاقي، فبوسعنا رصد الطرق التالية، كما يتبناها العديد من المؤسسات ذات العلاقة، وفي مُقدمتها، "سنّ الأنظمة والتشريعات الشّفافة في الأنظمة المضادّة للفساد وتوضيحها، وإنزال أقصى العقوبات على مُخالفيها. التوعية المجتمعيّة لهذه الظّاهرة الخطيرة، ومدى تأثيرها على المجتمع والأفراد، وتنمية دورهم في مُكافحتها والقضاء عليها. تخصيص مكافأة ماليّة لمن يقوم بالتّبليغ عن حالات الفساد في الدوائر الحكوميّة. وضع عقوبات رادعة تناسب كلّ فساد، وذلك لعدم تكراره".
لكن رغم كل تلك الأساليب، يبقى الفساد محافظاً على مركزه المتقدم كأشرس الآفات التي تنخر قوى المجتمع، وتستنزف موارده، وتفشل برامج تنميته، وتحرف مسار خطط إصلاحه، وهو ما يحث على تضافر جهود العالم من أجل وضع حد لأسباب انتشاره وقطع دابره.