الخطاب الديني في العالم العربي.. الأزمة والتداعيات


محمد عبد العظيم العجمي – مصر


الخطاب الدينى هو الفهم المستقى من المصادر الأولى (القرآن والسنة) بواسطة أهل العلم ــ فى كل زمان ومكان ــ والراسخون فى العلم من الرعيل الأول الذى شهدوا تنزل الوحى مع الحوادث، ورأوا الآيات رأى العين، وعلموا أسباب النزول ، وسمعوا من النبى صلى الله عليه وسلم الذكر المبيّن، ثم الذين اتبعوهم بإحسان فنهلوا من منابع العلم الأولى، واستهدوا بهديهم فى الفهم والعلم، المبلغون عن الله مراده لخلقه.
إذًا.. ثمة فارق كبير بين الدين كأصل ثابت لا تتغير (نصوصه الثابتة بالكتاب والسنة، أو أحكامه)، وبين الخطاب الدينى، فالأول نص إلهيّ ثابت، والثانى فهم بشريّ (فيما عدا القطعى الثبوت قطعى الدلالة)، وبالتالى فما يموج فى الساحة من لغط وخلط وافتراء على الخطاب الدينى، هو من باب عدم القدرة على التفريق بين الدين وثوابته الإلهية والخطاب الديني كمنتج بشري، بين النص الإلهي والعمل الإنساني، وبهذا فقد احتمل الخطاب الديني أكثر مما يحتمل، ونُسِب إليه – افتراءً – كل ما برز على الساحة العالمية من أحداث وحركات متطرفة متدثرة بدثار الدين شكلا، والرافعة رايته ادِّعاءً، والمتقلدة سيفه خداعًا.
دعاة تغيير الخطاب الدينى:
والمرجفون فى هذا الأمر لا يخرجون عن ثلاثة أصناف، فالصنف الأول: حاقد مفترمستغرب (مدفوع) ، استغل ما حاق بالأمة من ضعف وقد غابت عن أمثاله درة التأديب، فقام ينفث سمومه ويبث حقده، فحمل شعار الحق المراد به الباطل يقلب فى صفحات التاريخ كالذباب لا يقع إلا على الجرح، وهل يخلو تاريخ أمة ـ سيمتها الحتمية البشرية ـ من الأخطاء والآثام، أو يغيب عن فكرها ـ وهو المنتج البشرى كما ذكرنا ـ يغيب عنه الشاذ أو المنحرف الذى لا يؤخذ منه، ولا يؤاخذ به إلا صاحبه، وقد أدى ما عليه فاستفرغ الجهد، واستكمل أدواته ثم أدلى برأيه وترك لنا الحكم عليه بالصواب أو الخطأ وقد نال شرف الاجتهاد وحصل الأجر.
والثاني: جاهل لم يعرف قدرتاريخ أمته، ولم يعلم ولم يسلك طرائق العلم حتى يتعلم فأصبح يتخبط بين إعلام غربي متسلط، ومشهد لا يلبث كل يوم يموج بالقتل والتشريد والتهجير، فعزا كل هذا إلى موروث ديني متخلف متطرف، فاضطربت الأرض من تحت قدميه وزلزل قلبه حتى بلغ منه الحلقوم، ولعبت برأسه الظنون، فقام من رقدة جهله، يرغى ويزبد يصب جام غضبه على الخطاب الديني وما أودى بنا إليه.. ولا عجب: فكل داء له دواء  إلا الحماقة أعيت من يداويها.
ثم هذا الصنف الثالث من أهل العلم المدفوعين بالساسة والسياسة المُوظِّفين للشرع ينتقون منه ما يناسب الحال، يأخذون ببعض الكتاب وينبذون بعضه وراء ظهورهم، كبني إسرائيل "يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا"، وهؤلاء هم أشدهم على الخطاب الديني، إذ هم القائمون على توظيفه وتهذيبه وتوجيه سدنته، فعمدوا إلى آيات الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتى هى أحسن مع اللين والدعة وقبول الآخر مهما كان سوء خطابه، حتى أصبح الخطاب الديني فى حالة من الترهل والتهلهل مايندى له جبين من تأخذه حمية الدين، يضعون الندى فى موضع السيف، والعصا بدلا من الرمح، ويستعيضون عن الخيل بالفرارأو السباق والرهان، يستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير، ورحم الله أبا تمام حين قال:
ووضع الندى فى موضع السيف     مضر كوضع السيف فى موضع الندى
وحين قال فى فتح عمورية :
السيف أصدق أنباء من الكتب         فى حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف    فى متونهن جلاء الشك والريب
التناول البشري للخطاب الديني:
والحق أن الطبع البشري يختلف فى تناوله للخطاب الديني، فالتطرف يبدأ أولا من داخل النفس وسوء الطبع، مما يدفع به إلى سوء التناول والفهم للنص، ولا يخلو زمان ولا شريعة من هذا التنوع البشري فى التعاطي مع النصوص، ولم يفهم هذا الهدي كما فهمه الرعيل الأول غضا نديا، ومع ذلك لم يكن ليمنع أن يخرج علينا فى القرن الهجرى الأول ـ وهو خير القرون ـ من يتقرب إلى الله بقتل علي بن أبى طالب صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج فاطمة وأول من أسلم، ولا تخفى أياديه على الإسلام، ومع ذلك يقتل بيد بن ملجم، حتى يقول شاعرهم عمران بن حطان:
ياضربة من أبى قد أراد بها      يوم القيامة عند الله رجحانا
إنى لأذكره يوما فأحسبه         أوفى البرية عند الله ميزانا
ويرد عليه الشاعر المسلم فيقول :
                       بل ضربة من شقى يتلظى بها     يوم القيامة عند الله نيــرانا
إنى لأذكـره يـوما فـألـعـنه     أيضا وألعن عمران بن حطانا
ولم يمنع كذلك من قتل الخليفة عمر بن الخطاب الذى ملأ الدنيا عدلا وعلما، وتنزل القرآن فى مواضع عديدة يسدد رأيه ويؤمن على حكمه، وتمضى أحداث الزمان وتظهر الفرق بين الحين والآخر، ويبرز الاختلاف فى الأمة (الفكري والمذهبي)، وتشتعل الثورات المذهبيه (الباطنية ، والقرامطة، وصاحب الزنج ، والجهمية والمعتزلة، وفتن كثيرة متلاحقة في إثر بعضها البعض كقطع الليل المظلم...)، وينقل الحجر الأسود من الكعبة أكثر من عشرين عاما.. لكن عظمة المنهج وسموه تجعله يستوعب كل هذا، وتمر الأمة من خلاله فتقف قوية شامخة لا يزيدها المغرضون إلا تمسكا بمنهجها القوي الذى لا يستطيع الباطل أن يتسرب بين آياته مهما علا فهو زاهق.
بين التغيير والتحريف:
وحين أصاب الأمة ما أصابها فقد ظهر الدعاة إلى تغيير الخطاب الديني من الغرب والشرق، ولا شك أن هذه (هيمنة ثقافة المتغلِّب)، فقد أرادوا من خلال ذلك الحياد بالخطاب الدينى عن منهجه المعتدل الذى يجمع اللين مع الشدة، والدعوة بالتى هى أحسن مع عزة الخطاب وعلو النص، والسلم والجهاد، والتعايش مع الآخر فى غير كبر ولا ذلة، والانتصار للنفس فى غير إفراط، ودعوا إلى إغفال أو تغييب الآيات والمناهج التى تتكلم عن الجهاد، والتى تحد الحد بين الكفر والإيمان، وتوعد المؤمنين العاملين بالتمكين، ثم تدعوهى إلى إسلام لا يعرف من كتابه إلا "فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ" (طه: 44)، و "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (الأعراف: 199)" الأعراف، وقوله: " وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ " .
ومع هيمنة هذه الثقافة الغربية، ورضانا بالدنية والاستسلام للتغيير دون أن نستطيع أن نعلن للناس شمولية المنهج، ونعرفهم الفرق بينه وبين المتطفلين على الأخذ به، (إما جهلا وإما افتراء)، فصرنا بين الحين والحين نقف موقف المتهم الذى يحاول جاهدا أن يدفع عن منهجه فلا يملك من الحجة إلا أن يغير فى بعض ويتنازل فى بعض آخر، ثم لا يرضى الآخرون منا حتى يخرجوا لنا باتهام جديد.
منابر الخطاب الديني:
أما إذا أردنا تغيير الخطاب الدينى الذى يعلن الوسطية كما نزلت ويدعو إليها، فلا بد أن نبدأ بتأهيل منابره الأصليه التى تتبناه، والتى لا يعلم كثير منهم عن هذا الخطاب، أكثر مما يعلم عن (الخريطة الجينية، أو النانو) .. إن هؤلاء الدعاة المنوطين بهذه الأمانة، والمعزى إليهم تغيير هذا الخطاب يجب أن نعد لهم من الوسائل والتقنيات والتدريب، وقبلها الفهم الدقيق من الراسخين فى العلم، مع انتقائهم على درجة من الكفاءة العقلية والنفسية ما يجعلهم أهلا لتبعة تكلم عنها القرآن وزكاها "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ" (النساء: 83 )، " وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (براءة: 122)" ، هنالك يقوم للأمر أهله، ويصل الخطاب الدينى الوسطى إلى آفاق الأرض ولا نكون فى حاجة أن نحيا بين أمرين كلاهما صعب "أن نجعل رؤوسنا فى الرمال كالنعام، أو نذعن فى منهجنا بالتغيير والتحريف".

 

 

تعليق عبر الفيس بوك