صور المكان في شعر التّونسي عبد الكريم الخالقي (1)


أمين دراوشة: ناقد وشاعر فلسطيني – رام الله

 

يرتبط المكان بالشّخصيات، ويؤثر فيها وتؤثر فيه، وكما يقول جاستون باشلار: إن العمل الأدبي الّذي يبقى فيه المكان مختفّيا ومفقودا، فإنه "يفقد خصوصيته وبالتّالي أصالته". (1(
فالمكان هو لبّ العمل الأدبي ومعماريّته، وجماليّاته تتناسق وتتكاتف مع جماليّات العمل الأخرى. والإنسان هو الّذي يرسم جماليّات المكان بحركته داخله، فالمكان المهجور دون إنسان، ليس أكثر من "قطعة من الجماد لا حياة ولا روح فيها". (2) فوجدان الإنسان بعواطفه ومشاعره "يأخذ من الطّبيعة وطقوسها وفصولها ما يساعد مشاعره وعواطفه على رسم المكان". (3(
ومن هنا نستنتج أنّ المكان يجب أن يكون فاعلا ومؤثرا في العمل الأدبي وإلاّ أصبح يعاني من هشاشة وضعف. ونرى في الدّيوان أنّ المكان لا يرتبط بالمواطنة والمحليّة، بل هو مكان مشاع يستطيع فيه الشّاعر التّنقل بين الأمكنة المختلفة، ويتّسع المكان لديه ليشمل كافة الوطن العربي الكبير.
ولا يقدر الشّاعر أن يكون مبدعا وخلاّقا، "إلاّ إذا تماهى مع تجربته الذّاتية فهي في تجسيدها الذّاتي، تصوّر مسيرة الرّوح العامّة للكلّ الإجتماعي الّذي ينتمي إليه، أما الإبداع من الذّاكرة، يجعل من الأدب تكرارا، وتبعيّه لقضايا وموضوعات سبق تناولها، فيدرج النّصّ الحاضر في إطار النّصّ الغائب الّذي يمثّل إطارا مرجعيّا له". (4(
ولا ريب أنّ الزّمان والمكان يشكّلان التّجربة الذّاتية للشّاعر، فالمكان يمثّل "جسد المبدع الّذي ينتمي إلى جسد طبيعيّ وكونيّ خاصّ، يخلق علاقة عضويّة معه، وحركة الجسد في المكان هي تجسيد لعمر المبدع، وهي زمانه الخاص، مثلما تصنع حركة الشّمس مع الأرض زماننا الموضوعي، الّذي يتموضع في ظلال الكائنات، والخيال هو وحده القادر على إقامة تلك العلاقة بين المكان العام/ البيئة، والمكان الخاص/ الجسد، وبين الزّمان العام/ التّاريخ، والزّمان الخاص/ عمر المبدع الّذي تصقله خبرة النّصوص، خصوصيّة الجسد الّتي تظهر في بصمة الأصابع". (5) وتتضح هذه العلاقة النّشيطة في الحواريّة بين الشّاعر وبين المكان الّذي يحيا فيه، وتنشّق هوائه وذاق فيه العذوبة أو المرارة. فهذه العلاقة لها خصوصيّتها في بناء ذات الشّاعر، والشّعر الّذي يتناول المكان يبدع أشياء جديدة، فالمكان حيّ في خبراته الوفيرة، المختزنة في وجدان الشّاعر. لذا رأينا في الدّيوان تداخل وتجادل الفرديّ مع الكليّ، بين الشّاعر وتاريخه.
يدرس العمل الشّعري في مستويين: الأوّل هو ما يتضمّن النّصوص داخل الدّيوان، كدراسة اللّغة والصّور والإستعارات... والثّاني يدرس ما هو خارج النّصوص، ونقصد هنا النّصّ الموازي، وعرَّفه النّاقد جينيت بأنّه "نمط من أنماط المتعاليّات النّصّيّة، والشّعريّة العامّة...فالنّصّ في الواقع لا يمكن معرفته وتسميّته إلّا بمناصه، فنادرا ما يظهر النّصّ عاريّا من عتبات لفظيّة أو بصريّة، مثل: اسم الكاتب والعنوان والعنوان الفرعي والإهداء والاستهلال وصفحة الغلاف والتّصدير والملاحظات والحواشي...". (6(
ويعتبر جينيت العتبات محوريّة في فهم النّصّ الأدبيّ، فالإنسان لا يسطيع دخول بيته دون المرور من عتبته.
إذن يمثل العنوان العتبة الأساسيّة للدّخول إلى قلب الدّيوان، وحلحلة شفراته المقفلة على القارىء، فمن خلاله تشرع ذاكرة القارىء في البحث عن مدلولات يتمكن عبرها من نزع القناع عن النّص جزئيّا على الأقل. فمن خلال العنوان وتفريعاته يتشكّل نسق بنائيّ واضح المعالم يهب النّصّ معانيَه المختلفة، وتضيىء الشّمعة المركزيّة في عقل القارىء ليحلّق في فضاء النّصّ ذي المدلولات المتعدّدة.
إنّ العنوان الّذي بين أيدينا " للحبّ ألوان أخرى " يتكون من ثلاث كلمات بسيطة تحمل الكثير من الدّلالة والمعنى.
فكلمة (للحبّ) توحي للقارئ بمعنى الألفة والمشاعر النبيلة والسّامية وتقوده إلى نبع الصّفاء والنّقاء، وجاءت كلمة (ألوان) لتضيف الشّعور بالفرح والمرح، وتحيل إلى قوس قزح رمز التّفاؤل والإنشراح. أما كلمة (أخرى...) فهي تؤول إلى أنّ الحبّ له أشكال وطرق شتّى وتزيل اللّثام عن معنى الحبّ المتعارف عليه بين الرّجل والمرأة وحسب.
أما لوحة الغلاف فتضمّنت صورة لطفلة غاية في الجمال متدثرة بالأبيض وهو رمز السّلام والإطمئنان، تحمل ريشة وترسم، بتركيز عميق! فهي ولا شكّ ترسم المستقبل الآتي الّذي يحمل بذرة الأمل. وخلفيّة الغلاف احتوت قصيدة قصيرة تشي بما يتضمّنه الدّيوان، تقول:
"ألوان..
لَمْ أَتَبيَّنْ أَلوَانَ اللَّيْلِ
وَرْدِيٌّ يَلبـسُ وَردِ يًّا
ويُخْفِي..عَنِّي البَاقِي..
قَلبِي يَقُولُ أسْوِدُ لَيْلٍ
وَأبيَضُ..فِي أَحدَاقِي
يَا جَنّةَ شَامٍ فِي الأعْلَى
وَأَعلَى الأَعْلَى ...عِرَاقِيّ". (7)
فالحبّ إذن له أشكال أخرى، فالحبّ هنا تمدّد ليشمل الوطن العربيّ الكبير، هذا الحبّ المغلّف بالخوف على وطننا العربيّ من غدر اللّيالي الّتي لا ترحم، ولكن رغم كل شيء فهو قادر على النّهوض من الكبوات، والتّدثر بالورود والطّيران إلى أعالي المجد.
أمّا الإهداء فجاء ليجلي أيّ غموض، ويوضّح أنّ ما في داخل الدّيوان هو الحبّ الكبير الّذي يكنّه الشّاعر لوالدته فيصفها بأنّها قلبه، وهل هناك أغلى من القلب؟ يقول:
"إلى قلب ..
عبد الكريم
الّذي..
سمّيته مجازا:
"عارم"
أمّي...بل...أُمَّهْ...".
ويستدرك عبر التّلاعب بالألفاظ بأنّه يقصد عن سابق إصرار وتصميم أمّه البيولوجية وأمّه الرّوحية والّتي هي الوطن الشّاسع من المحيط إلى الخليج، ثم جاء التّصدير ليعبّر عن أناه الفرديّة والجمعيّة، ويحدث التّوازن الدّقيق بين حبّه الحقيقيّ الذّاتيّ، وحبّه الكبير، فقلبه
"عارم" يتّسع للجميع.
"خذي الورد.. من وردي..
أنا في الأنا ..جمع..
لكن..في الهوى وحدي..
سأهديهم ... مزاياي...
وأهديكِ...
سليم العطر والشّهد...".
ومن القصائد المليئة بالمشاعر الجيّاشة قصيدة "يَـا خُـمْسِتْـهَا..." والّتي يبثّ فيها الشّاعر ما يعتمل بداخله من حزن لفراق أمّه، ويتذكّر حنانها الّذي لا ينضب، ويلجأ الشّاعر إلى الميثيولوجيا في القصيدة من خلال عنوانها المسبوق بحرف نداء وكأنّه ينادي بكل قوّة ولا مجيب، فالعنوان يعني في العقليّة الشّعبيّة التّونسيّة أداة مصنوعة من الفضّة أو الذّهب تستعمل للتّخميس والّتي يبدو أنّ الكلمة مأخوذة من أصابع اليد الخمسة، وتستخدم للوقاية من الحسد وطرد السّحر، يقول:
"رُدِّي عـليْ لَذَى يَا خُـمْسِتْـهَا
مُـشْـتَاقْ لِحْـوَالِـيهَا
لِـخْلاَلْـهَا ووْشْـمِتْـهَا
مُشْتَـاقْ
لْـنُـومْتِي فِي حْجِـرْهَا
وْرِيحة حَـنَانْ
نَـابْـتَهْ فِي صْدرْهَا
مُشْـتَاقْ
لِكْـلاَمْهَا وغْـنَـاهَا
وسَهْـرَاتِي لِـيلْ الشتَـاءْ بَـحْـذَاهَا
وْكِـلْمَاتْـهَا وْتْـوَصِّي
ذِي رِيحْـتِكْ إيَّاكْ لَوْ تَـنْـسَاهَا
مُشْـتَاقْـلِـكْ يَا يُـمَّهْ
وْمُـشْـتَاقْ
لْـتَحْـلِـيقْـنَا وِاللَّـمَّهْ
وِلْـفَـرْحْتـِي كِي نْـقُـولْ
نَـا وِلْـدْ أمَّهْ
مُـشْـتَـاقْ
لْـمَـلْـيتِـكْ وخْـلاَلِكْ
لصُوتِـكْ فِـي وِذْنِـي
لْـمَـشْـيتِـكْ وخْـيَـالِكْ".
وتتكرر لفظة "يمّه" وتحدث قشعريرة في جسد المتلقي لما للكلمة من معاني ومدلولات، فالبيت الآمن قد تعرّض لهزّة عنيفة وهو الّذي يحوي الطّمأنية والفرح، والتّلذّذ بسماع صوت الأمّ في البيت الّذي يدلّ على الحنان والدّفء، ويضيف:
"فِـي غِـيـبتِـكْ يَـا يـمَّهْ
طَاحْ الـوَتَـدْ مِ البِيـتْ
وْلاَ عَـادْ فيها لمة
ولا عاد فَـمَّهْ
رِيحـةْ بْـخُـورْ يْـفُـوحْ
لاَ وِلْـدْ امَّهْ
وكُـنْـتِ نْـرَوَّحْ
نَـلْـقَى الفَـرَحْ فِي الـدَّارْ
عِـطْرُو يْـفَـوَّحْ
وتَـوْ بَـعْـدِ غْـيَـابِـكْ
لَا صُوتْ فِـيـهَـا
وْ لا سمْح خيالكْ
ولاَ ضَوْ يْـضَوِّي
وْزَادْ الفراغْ كِي هَـبْ
صَـكِّـرْ بَـابِـكْ".
لا ريب أنّ البيت يشغل الحيّز الأهمّ في حياة الإنسان، فهو المكان الوديع والّذي يشعر فيه بالرّاحة والرّضا، وهو يحيل إلى الذكريات الأساسيّة في حياة الشّخص، ذكريات الطّفولة، حنان الأمّ، مثاليّة الأبّ، شقاوة الأخوة. والمكان الأليف " هو البيت الّذي ولدنا فيه، أي بيت الطّفولة. إنّه المكان الّذي مارسنا فيه أحلام اليقظة وتشكّل فيه خيالنا. فالمكانية في الأدب هي الصّورة الفتيّة الّتي تذكرنا أو تبعث فينا ذكريات بيت الطّفولة. ومكانيّة الأدب العظيم تدور حول هذا المحور". (8(
غير أنّ حالة الشّاعر بعد فقدانه أمّه، جعلت من البيت مكانا معاديّا، فوتد البيت نزع، ولم تعد الأسرة تجتمع كلها كما كانت، وأختفت رائحة الطّيب والبخور منه، ولم يعد فيه سوى الظّلمة والفراغ. فالمكان له تأثيره الّذي لا يخفى من النّاحية النّفسيّة على الشّخصيات، "فتأثيره في النّفس غالبا ما يكون أعمق من التّأثير في الجسد، وذلك لما تمتاز به النّفس الإنسانية من إحساس مرهف، فأكثر الأمور بساطة تطبع في النّفس علامة يصعب محوها حتّى مع مرور الزّمن". (9) وهذا الأمر يظهر على الشّخصية في قصائد الشّاعرعبد الكريم الخالقي
الّذي يبدو تائها، لا يعرف أين المسير؟ فخسارته عظيمة ولا تعوّض، ففقدان الوالدين يؤدّي بالشّخص إلى التلوّي من الألم، والإحساس بالضّياع، وأن العالم لم يعد يعنيه، يقول في قصيدة "مفترقات..":
إِلَى أَيْنَ تَمْضِي..؟"
لِمَنْ سَتَعُودُ..؟
لَا أُمكَ بِانْتِظَارِ.. مَجِيئِكَ..
وَلاَ دَارُ أَهلِكَ..
مُشرّعٌ بَابُهَا..
لَكَ أَنْ تُرَاوِحَ.. بَينَ قَبْرَينِ..
بَيْنَ شَجِيِّ السُّؤَال..
عَنْ وَالدٍ..صَمتُهُ أَزَلِيّ..
وَوَالِدَةٍ..
يَضُمُّ ..هَوَاكَ ثَرَاهَا..
تُمَرِّغُ إِذَا مَا اسْتَبدَّ..
بِكَ فِي البعاد..
هَوَاهَا..
عَلَى قَبرَهَا..
أَوْ فِي تُرَابٍ حَوَاهَا..".
يطالب الفيلسوف هيدجر بأن يتقبّل الإنسان فكرة الموت بسرور لأنّ ذلك يرهف وعيه بالحياة، وهذا بحدّ ذاته خلود كما يقول سارتر يقاوم الفناء الّذي شوّه عالم الوجوديين.
وكان الفيلسوف الكندي قد آمن بخلود النّفس بعد الجسد الفاني، فعلاقة الرّوح بالجسد عارضة، تسافر بعد تحلّله إلى الأعالي حيث النّور لتندمج فيه.
يضيف الشّاعر:
"عساك..
تُذَوِّبُ مِلْحَ اشْتِيَاقَكَ..
في قبلة ..لم تمت..
أو...
فِي نَدًى مِن نَدَاهَا..
وَامْضِ...
إلَى أَمْسِكَ..كَيْ تَعِيشَ..
وَانْثُرْ...
حُرُوفُ الصَّبَا فِي مَدَاهَا..".
إذن فالشّاعر ما زال يتعامل مع حادثة الموت كحادثة عابرة، وأنّ روح والدته خالدة تمدّه بالقبلات والنّدى ليكمل مشواره في الحياة، حتّى تحين اللّحظة الّتي تلتحم فيها روحه مع روحها في حياة أبديّة لا ألم فيها ولا قلق. وهذا نجده في قصيدة "أشلاء الأمس وصمت الآن.." حيث يقول في مقطع منها :
"ورد يطلّ من سور الحدائق
بقايا أتربة عالقة بأسفل القدمين
امرأة تسكب ماء الصّبح
وتعدّ على مهل
قبلة للنّهار الجديد..".
وتظهر الأمكنة بائسة في القصائد، تعبّر عن الضّياع والسوداويّة، فالوطن يعجّ بالمصاعب، والشّعراء توقّفوا عن قول الشّعر، وعندما يختفي الشّعر، فأن ما يحدث هو:
"صَمَتَ الْجَمِيعُ..
الأَرْضُ تُقْفِرُ..
حِينَ لاَ شِعْرَ عَلَى شَفَةِ المُغَنِّي
وَلاَ لَحْنَ عَلَى أَوْتَارِ عَازِفْ
حَمَلَتْهُ الرِّيحُ حَيْثُ لاَ غِنَاءْ".

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك