سُليمان العيسى حلمٌ عربيٌّ نازِفٌ


أ.د/ يوسف حطيني – أديب وناقد فلسطيني – بجامعة الإمارات


يروي الشاعر سليمان العيسى في تقديمه لديوان الأطفال واقعةً تتحدث عن طفل كان يقفز على الرصيف، وهو يضرب أوراق الخريف المتناثرة برجله الصغيرة منشداً مقطعاً من قصيدة الخريف:
"ورقات تطفرُ في الدربِ
والغيمة شقراءُ الهدبِ
والريحُ أناشيدُ
والنهرُ تجاعيدُ
يا غيمةُ يا أمَّ المطرِ
الأرضُ اشتاقت فانهمري
والفصلُ خريفْ".
وقد عبّر سليمان العيسى عن سعادته الغامرة من مشهد ذلك الطفل الذي يلعب بأوراق الرصيف والقصيدة معاً، بينما تستعجله أمّه ليلحق بها، معتبراً تلك السيمفونية أجمل هدية يتلقاها شاعر في حياته.
ترى كيف استطاعت قصائد هذا الشاعر وأناشيده أن تتسرّب إلى أعماق هذا الطفل، وتصبح جزءاً من ألعابه؟ وكيف استطاعت تلك القصائد والأناشيد أن تتحول إلى أيقونات تحملها قلوب ملايين العرب الذين رددوا في أيام طفولتهم: "فلسطين داري ودرب انتصاري" و"ماما ماما يا أنغاما" فتسرّبت إلى وجدانهم مع الشاعر نفسه، إذ صار اسم الشاعر ملتصقاً بخاتمة القصيدة كأنه جزء لا يتجزّأ منها.
وإذا كان الشاعر يعتمد في انتشار شعره الموجه للأطفال على مجموعة من السمات التي تحقّق ما أسماه في مقدمة ديوان الأطفال المعادلة الشعرية الجميلة، كاستخدام اللفظة الرشيقة الموحية، والصورة الشعرية الجميلة، والفكرة النبيلة الخيّرة، والوزن الموسيقي الخفيف الرشيق، فإنّ ثمة سمة أخرى أسهمت في تحقيق تلك المعادلة، وهي المواءمة الفذّة بين قلب الشاعر وقلمه، تلك المواءمة التي ضمنت استمراراً حقّق إيقاعاً سائداً عبر مسيرته الشعرية، يؤكد على الوحدة العربية طريقاً لتحقيق طموحات الإنسان العربي في الحق والخير والجمال، بالإضافة إلى ثيمات برزت في شعره كالطهر والبراءة والوفاء والصداقة والتعاون والمحبة والعمل وجمال الطبيعة، ذلك أن الروح القومي الذي يحرّك نبضه كان يتجلّى في قصائده للأطفال والكبار على حدّ سواء، ويرافقه من قصيدة إلى قصيدة، ومن بلد إلى بلد.
لقد حمل سليمان العيسى جرح العروبة على مدى سنوات عمره المديد، منذ أن كان في قرية النعيرية في لواء الاسنكدرون المغتصب، ثم مع انطلاقه لإكمال دراسته الثانوية في حماة واللاذقية ودمشق، فكتب قصائده الأولى التي تتحدث عن هموم الفلاحين وبؤسهم، وتحدى الاستعمار الفرنسي لسورية منذ بداياته حتى جلائه، وعانق جدران السجون، أكثر من مرة في حياته، ليسافر من ثم في مسيرته الطويلة إلى معظم الدول العربية وبعض الدول الأجنبية، وليقيم في حبيبته اليمن سنوات متعددة، وليصدر في تلك المسيرة نحو خمسين كتاباً، تمجّد المقاومة وتدعو إلى الوحدة العربية منها: "شاعر بين الجدران" وثائر من غفار" و"قصائد عربية" و"كلمات مقاتلة" و"ديوان الأطفال" و"نشيد الحجارة" وغيرها.
لقد غنى سليمان العيسى أناشيد الكفاح للصغّار، وتردد صدى روحه القومي لدى الكبار، فرفض اليأس، وزرع الأمل في نفوس الجميع، فإذا بدأنا مع الصغار وجدنا الشاعر يصنع لهم أبجدية خاصة، تجعل حروف العرب للعرب، وأبجديتهم جزء من نشيد الوطن، مازجاً بين الفكر التربوي والقضية الوطنية والقومية:
آخر حرفٍ.. يُدعى الياءُ
قولي معنا.. يا علياءُ
يحيا الوطنُ.. نحنُ الوطنُ
إنه الوطن العربي الكبير الذي عاش الشاعر حلم ربيعه البكر إبان فترة النهوض القومي، متحدّثاً للأطفال عن قطار عربي يتجول في بلاد الشام والخليج ومصر والمغرب العربي، دون أن يجد حدوداًَ مصطعنة، كل ذلك في لغة موسيقية مدهشة تجعل الحلم أنشودة عذبة يرددها الصغار. يقول سليمان العيسى في قصيدة "قطاري":
داري داري.. أرض العربِ
زار قطاري.. وطنَ العربِ
من تطوان إلى بغدادْ
سار قطاري يا أولادْ
من أجل ذلك الروح الصافي كان نشيده الحرّ، وكان انتماؤه الذي لم يتزعزع بهذا الوطن الممتد من بغداد إلى تطوان، فكل حبة رمل في شرق الوطن العربي ومغربه تعادل الذهب، وهي تستحق من الأطفال العمل عندما يكبرون، من أجل تحقيق الوحدة العربية المنشودة:
ترابنا ذهبْ وعزمنا لهبْ
نبني به البلادْ
نواصل الجهادْ
لوحدة العربْ  لأمة العربْ
وفي قلب ذلك النشيد القومي الذي كتبه الشاعر على مدى سيرته النضالية كانت نقيم فلسطين، في أنفة الجرح، وفي نزفه المستمر الذي يدعو الأطفال إلى فهم المعادلة السياسية الصحيحة: فلسطين أرض محتلة، اغتصبها الصهاينة، وسيأتي يوم يعود الحق إلى نصابه، هذه المعادلة التي سيحفظها طلاب المدارس منذ  الصف الأول الابتدائي:
وجوهٌ غريبة.. بأرضي السليبة
تبيع ثماري.. وتحتلّ داري
وأعرف دربي.. ويرجع شعبي
إلى بيت جدي.. إلى دفء مهدي
فلسطين داري.. ودرب انتصاري
و ها هو ذا طفل فلسطيني، ينمتي للعروبة ولفلسطين، هاتفاً في إحدى أناشيد الشاعر الراحل:
أنا من صَفدِ
سرقوا بلدي
بلدي المحتلّ فلسطينُ
لم يُزهرْ فيه الليمونُ
لم تضحكْ فيه الافياءُ
مُذْ هبّتْ ريحْ سوداءُ
إلى فلسطين إذاً، فمنها تبدأ خارطة الوحدة العربية، ومن الانتماء إليها يتشكّل الانتماء الوطني والقومي الأصيل، ولا يرى الشاعر معبّداً لذلك الطريق، في أناشيده ومسرحياته الشعرية سوى الفداء، سوى دماء الشهداء، لذلك يردد مع ابنة الشهيد صدى صوتها فخراً واعتزازاً:
يا راية الأبطال غطي جبهة السماءْ
أبي أنا.. أبي الذي غطّاكِ بالدماءْ
حماك بالدماء
وفجّر الغناء
وقال للأرض اشربي نهارك الجديدْ
أنا ابنة الشهيدْ
إنه الوطن العربي بجميع أقطاره، بجميع أفراده الذين يشكلون الأسرة العربية الكبيرة، عمالاً وفلاحين.. حدادين ونجارين، فكل أولئك لهم حضور في أناشيده، لأنهم يعملون لأجل أطفالهم، ولأجل وطنهم أيضاً. ففي "نشيد بابا" المشهور يظهر الوطن العربي الكبير هدفاً من أهداف البناء، يدركه الطفل بحسّه العفوي:
لي ولأجل الوطن الغالي
يعمل بابا دون ملالِ
بابا يتعب حتى نكبرْ
نبني نحن الوطن الأكبرْ
هذه الأسرة الصغيرة التي تشكّل الوطن الكبير، تقيم علاقات أسرية حميمة لا يغيب عنها الوطن أبداً، إذ يتسرّب إلى أحلام الطفل الصغيرة. في قصيدة "الرسام الصغير" يرسم الطفل العناصر الأقرب إلى قلبه، فماذا تكون النتيجة:
أرسم ماما.. أرسم بابا
بالألوانْ
أرسم علمي.. فوق القمم
أنا فنّانْ
لقد خاطب الشاعر الراحل أطفال الوطن العربي في سورية وفلسطين والجزائر واليمن والخليج، وراى أنّ كل هؤلاء الأطفال من أسرة واحدة، يجمعها يقين الانتماء، وها هو ذا يكتب "همسة في دفتر بتول"، وهي فتاة من مصر، متحدثاً عن جمال طفولتها الذي يجيل على تاريخ النيل الخالد العريق:
ماذا عساني أقولُ.. يا حلوتي يا بتولُ
ماذا يقول نشيدي؟.. والنيلُ لحنُ الخلودِ
وأنتِ من ضفتيهِ.. ريحانةٌ في يديهِ..
كذلك فإن الشاعر يمضي نحو الجزائر، ليضع أنشودة على فم أحد أطفالها، أنشودة تتحدث عن البطولة والتضحية والشهداء، وتجسّد الاعتزاز بالانتماء للعروبة:
منذ دقَّت بابنا أم اللغاتِ
منذ غنينا نشيد العاصفاتِ
صار لي أهلٌ، وعنوانٌ، ودارْ
صار لي ديوانُ شعرٍ عربي
أتهجى، اسمي به، واسم أبي
ومثلما كتب الشاعر للصغار عن حلمه العربي العظيم في قصائد تناسب الفرح الطفولي، وموسيقا الأرواح المتوثبة، كتب للكبار عن الحلم ذاته، يمزقه الألم حيناً، ويحدوه الأمل أحياناً، ومن الصغار إلى الكبار تغيّرت المفردات، وصارت التراكيب أكثر متانة، والموسيقا أكثر جزالة، والبحور أكثر طولاً، ولكن الحلم بقي على حاله، لذلك رأى الشاعر السوري عبد القادر الحصني أن تجربة الراحل كانت قصيدة واحدة: "حدِّقْ مليّاً لترى أنّ سليمان العيسى ما كتب إلّا قصيدةً واحدة، هي قصيدة ذلك الحلم".
فالوحدة العربية هي الحلم النبيل الذي عاش الشاعر على أمل تحققه، ومات وهو يرى احتمال تمزقه، إثر صقيع عربي يقتلع الأخضر واليابس من أشجار العروبة. إنها الوحدة التي عبّر عن شغفه بها في مناسبات عديدة: "أن تكون لي دولة عربية كبرى، قادرة على أن تحمي أطفالي، فلا يقتلعهم من يشاء، ساعة يشاء، من بيوتهم، من ظل شجرة التوت التي يلعبون تحتها، ويكتبون أولى قصائدهم تحتها، ويلقي بهم إلى أي مصير أسود يتلقفهم في الطريق".
 من هنا، وبدافع من هذا الانتماء، ليس غريباً أن يخاطب عزّ الدين ميهوبي الذي دعاه مكرّماً إلى الجزائر عام 2004، لكونه صديقاً للثورة الجزائرية بقوله: " "يا عزالدين.. أنا لست صديقًا للثورة الجزائريّة.. أنا ابنها".
وأنّى له ألا يكون كذلك، وهو الذي نفح الجزائر كثيراً من قصائده، قبل أن يزورها بعقود، ومنها قصيدته "ملحمة الجزائر":
ألف عذرٍ ، يا ساحة المجد ، يا أرضي التي لم أضمّها ، يا جزائر
ألف عذرٍ ، إذا غمستُ جناحي من بعيدٍ بماحقاتِ الزماجرْ
بيديكِ المصيرُ ، فاقتلعي الليلَ ، وصوغيه دافقَ النور ، باهرْ
لك في الشرق جانحٌ عربيٌ يتمطّى عن معجزاتِ البشائر
ومن الجزائر إلى بغداد إلى عُمان يقيم أواصر الوحدة، ويغني لها، ولا يني يؤكد أن الشعوب تنال حريتها حين تقف في وجه الظلم، وأن الوحدة العربية تتطلب من الناس جميعاً أن يتمسكوا بعروبتهم، وأن يواجهوا كل ما من شأنه أن يقف في وجه هذه الوحدة، وها هو ذا الشاعر في قصيدة "مع المحقق" يواجه بثباتٍ محققاً يريد منه تغيير هذا الحلم:
أنا للعروبة .. مذ رأيت النور .. كنتُ ولن أزالا
أنا للحياة .. لأمتي رَشَداً تراني .. أم ضلالا !
أفَيُجرم الوردُ النضير .. إذا اكتسى الوردُ الجمالا ؟!
أيُدان بالألَق الصباحُ إذا تموّج .. أو تَلالا ؟!
ها هي ذي أغرودة الوحدة التي نذر لها سليمان العيسى حياته، وغنى لها أعذب قصائده، إنها وحدة لن تزول، أبداً، وستبقى أملاً لكل العرب الذين ينشدون معه أغنياتها العذبة:
يا ليالي الضياع ، والقيد ، زولي نحن باقون وحدةً لن تزولا
وحدة .. في السماء والأرض منها لهبٌ يغسل الأذى والدخيلا
وحدة .. تلهم الكواكبَ مسراها وتمشي في القفر ظلاً ظليلا
وحدة .. تجمع المشرّد بالأهلِ ، عناقاً بعد الفراق طويلا
وإذا كان واحدٌ من أهم الشعراء العرب الحالمين بالوحدة العربية قد غادرنا إلى دار الخلود، فإنّ ثمة حالمين آخرين، ما زالوا يحاولون حماية هذا الحلم برموش العيون والأهداب، بانتظار زمنٍ يرتفع فيه النشيد العربي الخالد.

 

تعليق عبر الفيس بوك