إفساد السياسة بالمال والإعلام

عبدالنبي العكري

 تابعنا مؤخرًا تفجّر مجموعة من فضائح السياسة وخصوصًا فضائح الانتخابات في دول ديمقراطية عريقة بما له علاقة بالمال والإعلام وهي ظاهرة قديمة جديدة. لكن ما جذب الانتباه إليها الدور الذي تلعبه وسائط التواصل الاجتماعي وعولمة الإعلام في تعميم الأبحاث وإبرازها، وتواتر الفضائح في فترة زمنية قصيرة وفي بلدان كبرى لها دورها القيادي العالمي.

في مقدمة هذه الفضائح ما عرف بفضيحة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وتدور حول قيام الزعيم الليبي السابق معمر القذافي بدعم حملة الانتخابات لمرشح الرئاسة الفرنسية نيكولا ساركوزي. مرشح اليمين في مواجهة مرشحة اليسار سيجولين رويال في 2007 بعشرات ملايين اليورو. ومع مقتل القذافي وسقوط نظامه بتدخل عسكري غربي واضح وخصوصا الدور الفرنسي تدفقت على ليبيا فرق تحقيق غربية من مختلف التشكيلات ولمختلف الأهداف ومنها فرق تحقيق فرنسية للتحقيق مع القيادات الليبية السياسية والأمنية والمخابراتية. كلنا يتذكر مشهد الداعية الصهيوني الفرنسي برنارد ليفي وهو يستقبل بحفاوة من قبل فصائل "المجاهدين" في طرابلس وبني غازي احتفالا بالنصر.

كانت علاقات الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي مع الزعيم الليبي معمر القذافي متينة جدا وقد زار القذافي باريس في زيارة أسطورية وسط حفاوة بالغة ترضي تضخم العظمة عنده. كما زار ساركوزي ليبيا وترتب على هذه العلاقة إبرام صفقات ضخمة تشمل صفقات سلاح فرنسية لليبيا لمختلف الأسلحة الجوية والبحرية والبرية ومنها طائرات رافال، وكذلك ضخ استثمارات ليبية في فرنسا وامتيازات نفطية لشركات النفط الفرنسية. تطورت هذه العلاقات الحميمة والشخصية بين ساركوزي والقذافي على خلفية دعم القذافي لساركوزي في حملته الانتخابية حيث كانت تدور حولها الشكوك. لكن ساركوزي ومن موقعة في الرئاسة ذات الحصانة وكان قبلها وزيرا للداخلية طوال عهد شيراك المديد، مكنة من عدم قيام الأجهزة القضائية بالتحقيق في الجريمة. وفي عهد الرئيس هولاند جرى التحقيق مع ساركوزي في 2012 ولكن لم توجه له اتهامات رسمية. لكن القضية ظهرت إلى السطح أثناء التنافس على الترشيحات للرئاسة في 2017 ومن ذلك التنافس ضمن الحزب الذي ينتمي إلية وهو حزب التجمع من أجل الجمهورية حيث جرى التحقيق الأولى مع ساركوزي من قبل النيابة العامة دون حسم القضية لكن ذلك أسهم في استبعاده كمرشح للحزب.

وبعد خمس سنوات من التحقيقات من قبل قاضي التحقيق في القضية في ضوء معلومات موجودة توفرت لدى المخابرات الفرنسية وكذلك النيابة العامة مستمدة من تحقيقات للمخابرات الفرنسية مع قيادات ليبية كانت مقربة من العقيد القذافي ومنهم صهره السنوسي قائد جهاز المخابرات السابق والبغدادي المحمودي وهو من أقرب مساعدي العقيد القذافي واللذين اعترفا بدفع مبالغ بالملايين اليورو نقدا بواسطة وسيط صفقات السلاح الفرنسي اللبناني الأصل زياد تقي الدين إلى مدير حملة ساركوزي الانتخابية كلود جينوت. جرى استدعاء ساركوزي مرة أخرى ليمثل أمام ثلاثة قضاة تحقيق على مدى يوم ي 13 و14 مارس ليوضع تحت الرقابة والمنع من السفر. وقد جرى التحقيق مع كلود جينوت الذي اعترف بذلك وجرى حبسه على ذمة التحقيق. ويتوقع في ضوء ذلك أن يتم توجيه الاتهام رسميا وإعلان لائحة تهام بحق ساركوزي وحبسه على ذمة التحقيق بانتظار محاكمته. وكذلك التحقيق والاتهام الرسمي وحبس ضالعين وشركاء في هذه الجريمة أو التستر عليها. ومن المتوقع أن تتحول محاكمة ساركوزي إلى محاكمة لطبقة سياسية واسعة أفسدت الحياة السياسية الفرنسية وأبعد من ذلك.

أمّا القضية الثانية التي تشغل الرأي العام حاليا فهي قضية شركة كامبردج أناليتكا، وجوهر القضية أنّ شركة المعلومات والاستشارات هذه تمكنت من خلال باحثين في جامعة كامبردج بقيادة البرفسور كوجان والذي يملك شركة بحوث حول تشخيص سيكولوجية المستهدفين بخلق تطبيقات فيسبوك والنفاذ إلى حسابات ما يزيد عن خمسين مليون مشترك في الفيسبوك في الولايات المتحدة وبريطانيا واستخدام ذلك خلافا لشروط خدمات فيسبوك، في التأثير عليهم من خلال عدة وسائل للتصويت لصالح المرشح الرئاسي دونالد ترامب على حساب منافسته هيلاري كلنتون .وبالنسبة لبريطانيا التأثير على الاستفتاء لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي (بريكست).

تسربت معلومات عن ذلك مما جعل القناة الرابعة البريطانية تعمد لإرسال أحد محرريها الذي التقى المؤسس المشارك كريستوفر ويلي وتظاهر بأنّه يريد التعاقد مع الشركة للتأثير على الانتخابات في سريلانكا. وقد عمد الصحفي إلى تسجيل مفاوضاته مع كريستوفر ويلي وحديث الأخير وتباهيه بما قامت به الشركة في حملة الرئاسة الأمريكية. وقد بثت القناة الرابعة المقابلة. وبعدها تحدث كريستوفر بندم في مقابلة متلفزة مع الجارديان شرح فيها بالتفصيل عن عمليات كامبردج أناليتكا والشركة الأم (مختبرات لندن للاتصالات الإلكترونية) القذرة في استخدام معلومات خاصة لملايين مستخدمي الفيسبوك والتي تحصل عليه رسميا من شركة الفيسبوك للتلاعب بعقولهم والتأثير عليهم وتوجيههم نحو خياراتها حول مختلف القضايا وذلك مقابل صفقات مالية وغيرها لمن تقوم بالعمل من أجل مصلحتهم طوال خمس سنوات. المثير في الموضوع أن ستيف بانون مدير الحملة الانتخابية لدونالد ترامب والمتورط أيضا في ما يعرف بالدور الروسي لصالح ترامب في الحملة الانتخابية الرئاسية هو الذي أبرم الصفقة مع الرئيس التنفيذي للشركة الكسندر نيكس والمعروف بانتمائه لنخبة جامعة ايتون وتعصبه للعرق الأبيض وهو ما يتفق فيه مع ستيف بانون ودونالد ترامب. وقد قاد تيد كروز من قادة حملة ترامب فريقا فنيا في استخدام البيانات المحصلة من كامبردج انالتيكا لتحديد المستهدفين والتأثير عليهم في سياق الحملة الانتخابية لصالح ترامب.

أثارت هذه الفضيحة ضجة كبرى في الولايات المتحدة وخصوصا في مدى حرص شركات وسائط التواصل الاجتماعي وبالتحديد فيسبوك على سرية بيانات مستخدميها واستخدام هذه البيانات بطريقة غير مشروعة وغير أخلاقية مباشرة أو من قبل طرف ثالث وهو هنا كامبردج اناليتيكا. أما رد الفعل الفوري فهو السقوط المريع لأسهم فيسبوك في بورصة نيويورك وخسارتها لعشرات البلايين. ودفع ذلك قيادة الشركة للاعتراف بالتقصير والوعد باتخاذ إجراءات وقائية.

تجرى حاليا تحقيقات في الكونجرس الأميركي والبرلمان البريطاني حول دور شركة كامبردج أناليتيكا في تضليل الناخبين في أمريكا وبريطانيا وغيرهما بوسائل غير مشروعة واستخدام وكلاء لترامب وحزب اليوكب البريطاني وسائل إجرامية لصالح موكليهم. ومن المتوقع أن يمثل المتورطون في القضايا مثل ستيف بانون أمام قضاة التحقيق في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. ومن المعروف أن القاضي مولر يتولى التحقيق في ما يعرف بالدور الروسي في حملة ترامب مما يوفر المزيد من الأدلة حول الفساد والوسائل غير المشروعة بل الإجرامية في إنجاح ترامب للرئاسة على حساب منافسته هيلاري كلنتون في حملة انتخابية لا سابق لها في استخدام أساليب التأثير والتضليل والديماغوجيا. أمّا بالنسبة لحملة بريكست فإنّ الكشف عن فضيحة كامبردج أناليتيكا، قد فتح الباب مجددا حول مناقشة مجريات الحملة ونتيجتها بتأييد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي خلافا لما كان متوقعا، وقد يؤدي تطور القضية إلى النظر فيها أمام المحكمة العليا البريطانية في مجلس اللوردات وقد يؤدي قرارها لإبطال نتيجة الاستفتاء.

هاتان قضيتان ظهرتا إلى السطح من ضمن القضايا الكثيرة التي لم تظهر إلى السطح أو ظهرت ولم يتم التعامل معها بجدية، وتوثر سلبا على مصداقية النظام الديمقراطي وسلامة ونزاهة الانتخابات أو الاستفتاءات العامة والتي هي أحد مرتكزات النظام الديمقراطي، مما يطرح تساؤلات جدية حول متطلبات النزاهة والشفافية والعدالة في النظام الديمقراطي بما في ذلك النظام الانتخابي. كما تثير قلقا مشروعًا لدى البشرية المعاصرة وهي من خلال استخدامها لأنظمة التواصل والمعلومات الإلكترونية فإنها توفر أدق التفاصيل عنها لشركات ومؤسسات لا يتورع معظمها من استغلال هذه المعلومات على الضد من التزاماتها الأخلاقية والمهنية والقوانين المرعية وإلحاق أضرار لا حصر لها ببلايين البشر.