قراءة في"بعض الكلام" للشاعرة السورية رماح بوبو

غـادة سعيد – إسـبانيـا


أول ما يثير انتباهي، وعلى مدى تتبعي لكل كتابات الشاعرة ”رماح بوبو"، على جدارها من الترصد والمقارنة بين أبيات قصائد تسطرها بألوان الربيع الذي يشي بواقعية ”مستنقع” الشعر الحديث بعيدا عن ضوابطه وأغلاله ”التفعيلية” لتغوص في نثر موزون ومضبوط الإيقاع ورنة تحرك هميس الأذن في تتبع نغمة ”الشاعرة” وهي ترقص على سلم الأبجدية في تناغم مع كلمات مختارة بعناية وتركيز لافت.
إذا كانت القصيدة الإحيائية تعتمد على امتلاء الذاكرة وتقليد النموذج، فإن التيار الوجداني قد استخدم لغة أكثر سهولة ويسرا من لغة القصيدة الإحيائية التي كانت تميل إلى رصانة اللفظ وجزالة الأسلوب وبداوة المعجم... بل تستعمل القصيدة الوجدانية لغة الحديث المألوف ولغة الشارع كما عند  الكثيرين من الجدد خاصة مع هامش الحرية الكبير الذي فعله فضاء الفايسبوك  للشعراء بنشر إبداعتهم دون تردد ليبقى القارئ هو الناقد الوحيد بدل "ديكتاتورية الناشرين".
إن الصورة الشعرية البيانية صارت تعبيرية وانفعالية وذاتية ملتصقة بتجربة الشاعر: لتقترن الصورة الشعرية بالذاكرة الواقعية، دون تقديم استقالة  عن تجربة القصيدة الذاتية..
مسبقا، نعرف أن  علاقة الأنثى - سواء كانت شاعرة أو قاصة أو روائية - الكاتبة بذاتها هي علاقة مزدوجة الأبعاد والدلالات، فالأنا تضمر ثنائية في القول والسرد أو النثر أو في القريض، بل مهما كان النوع من أجناس الكتابة الأدبية. فمن خلال تلك الإبداعات نكتشف عالمين مختلفين تسوقهما المرأة الكاتبة/الشاعرة بنية الكتابة ولا وعيها الذي يبنيانِهما، إذ كيف ستكون اللغة أحادية الدلالة وهي تعبر عن صوت مزدوج يخفي أحدهما الآخر؟ وكيف ستتعامل الكاتبة أو الشاعرة مع اللغة؟ وهل هناك استعمال مختلف لها أم فقط أنه شبيه باستعمالات الرجل للغة؟
أكدت الباحثة "نورا غالي، أن استعمال المرأة للغة هواستعمال مختلف، فهي تنتقي الكلمات التي تتواصل بها مع الآخرين، وإن كان البعض منهم يؤكد أن المرأة تغيرت نوعا ما، نظرا للتغيرات الاجتماعية للبلدان، ونداء المرأة المتواصلى للتحرر (١)، غير أن هذا التغيير ليس متوازنا في جميع البلدان، ذلك أننا نفترض أن علاقة المرأة العربية باللغة مختلفة أيضا، إذ أن الكاتبة أو الشاعرة العربية غالبا ما تلجأ إلى اختيار الألفاظ التي تستعملها.
وترى الباحثة "نورا غالي" أن علاقة المرأة بالطابو أو المسكوت عنه مختلفة أيضا، وتبعا لذلك، لا يمكن قراءتها إلا من خلال سيمائية التهوين (٢).
إن هذا الأسلوب الذي تلجأ إليه المرأة الكاتبة أو الشاعرة يخفف من علاقتها الواضحة باللغة، فالجزء الكبير من أناها يكمن في الأسلوب، على حد تعبير "جورج كاسي"، فالأسلوب الأنثوي كما يرى الباحث يختلف، ذلك أن علاقة الأنا الأنثوية بميكانزمات الدفاع تختلف أيضا، فالأنا تبحث عن توازنها من خلال إلغاء أي تمظهر يمكن أن يجعل علاقتها واضحة بالأشياء، مما يضطرها إلى أن تلجأ الى التحوير والقلب والإستعارات (٣).
ونتيجة لدراسات إحصائية، تم حصر لوائح لا يمكن أن تصدر عن نساء؛ معناه أن المرأة ما زالت تهذب اللغة، وتبعا لهذا الافتراض، فإننا نتصور أن المرأة تكتب وهي مدركة لعقلية المتلقي وذائقته، فهل يمكن أن يكون هذا الافتراض مصداقيته من خلال الكتابة العربية النسائية؟ وإلى أي مدى تتعامل الكاتبة أو الشاعرة مع الطابوهات او المسكوت عنه؟ وكيف تستعمل اللغة؟ هل هناك علاقة كتمان أم هناك علاقة بوح وصراحة؟ وهل اللغة تبوح بكل شيء، أم أن هناك قناعا يعتبر كواسطة بين الذات الكاتبة والموضوع الذي تتحدث عنه؟
تتشكل اللغة في التحليل النفسي من خلال الدال ووحدة المدلول (٤) لذا، فإن محتوى المكبوت لا تتجلى إلا تحت غطاء الصور. غير أن الحديث عن اللغة لا يتم بمعزل عن الحديث على المعطيات الاسلوبية للخطاب المتوخى منه او الرسالة المراد إيصالها للقارئ أو المجتمع، فداخل الأسلوب تكمن رمزية اللاوعي، ولذا فإن الالتواءات التي تخشى الرقابة تتحول إلى قلب مجازي من خلال أساليب متعددة:
كأسلوب التهوين الذي تم ذكره، وأساليب أخرى مثل التلميح، أو المفارقة، أو التلطيف (٥).. فبواسطة القلب المجازي تجد رموز عبر الصوغ النصي (٦)، وقد بنى جان بلمين نويل (٧) أبحاثه على هذا الافتراض الذي يبني اللغة من خلال الزوغان والالتواءات التي تحدث على مستوى الاساليب، لذا فإن الرقابة تحضر من خلال الأنا الأعلى الذي يوجه الكتابة توجيها آخر. ويمكن اعتبار الزوغان خوفا من إبراز الأنا الكاتبة التي تنزلق حتى لا تتجلى بشكل واضح. وتتخذ الأنا في الكثير من الأحيان نوعا من الإطناب المتكرر الذي يحيل على الذات الأنثوية المتكلمة، وليبرز وجودها - كما رأينا- من خلال البناء النرجسي، ولكن، هل تستطيع الأنا الأنثوية أن تعمل على اختراق المحرم، والحديث عن الجسد الأنثوي من خلال تعبيرية اللغة؟.
فالشاعرة رماح بوبو السورية، من خلال قصيدتها المعنونة:  بعض الكلام.
قصيدة تستقرأ وجها آخر للحياة وتعيد تكوينه على صفحة جدارها الأزرق، وكلماتها تغوص في المعنى إدراكاً وواقعاً ومناجاة، وتسبيحا، وشكرا..
هالة الحرب وواقعها وآثارها النفسية والمادية وطبيعة حياة حالمة بكل ما فيها..
بفنية وشفافية وإحساس أنثوي كتبت قصيدتها النثرية، حملتها عبء وجدانها وعاطفتها، تتكئ على تجاربها ومحاولة أن تغذي حبها للمستقبل، عبر نهر عاطفتها الذي لاينضب من البوح والجهر والعشق - ولو بصيغة ضمنية - متآلفة مع المكان وماحمل وما بقي في الذاكرة التي اختزنتها حنيناً ودفء وآماني.. وقسوة وظلما...
كفراشة تكتشف متعة الحياة، تصف، وتعبر عن حالة كل ”أنثى سورية تعيش دوامة الحرب المفروضة عليها” بمعانيها بعاطفتها وكبريائها وتعبيرها لتستكين كنسيم ناعم في الحقل الهادئ عندما تتهادى  أجنحتها وهي تنظر لعنان كلماتها بين السحب تهطل بالندى، لترتوي الحياة، وبين أفق الشمس وهاجة، تحرك كينونة اليقاء.. في تلاحم بين، وهما يلقيان الحسن والجمال على أصداف الأزهار بعد ليل - ضمني- طال على ”النحامة” في مده وجزره كثيراً، مع التشديد على كلمات هي مخلفات حرب قذرة اتت على الأخضر واليابس في تضادد وتناغم هو أشبه بالتذكير والاحتراص من اعادة التجربة القذرة بدل تجربة الحياة...
تصحبنا بقية قصيدتها لتروي وتحكي لنا عما يستفيض بداخلها وعما عبرت به من عواطف أغدقت ”رماح بوبو” بوصفها لترسم لنا لوحات متعددة ذات بعد جمالي يدركه إحساسنا قبل أن تدركه قراءتنا.
المهندسة رماح بوبو صار الشعر وسيلتها لاكتشاف الإنسان والعالم، -على الأقل منذ تتبعي لكل ما  تنشره على جدارها قرابة السنة، ولو بشكل شحيح ومحتشم من طرفها- كما كان فعالية جوهرية تتصل بوضع الإنسان ومستقبله إلى المدى الأقصى، وبدأت الشاعرة تحمل رؤيا للإنسان والحياة والكون والوجود والقيم والمعرفة. بل أصبح شعرها أداة لتفسير العالم وتغييره.
الشاعرة لا تعرف معنى الاستقرار في مجاهيل اللغة، فهي كثيرة التنقل تناصيا وكثيرة الترحال معرفيا، فقد تطوف في المجهول تارة، وتارة أخرى  تضحى بروحها لتفتدي المعرفة.. رغم شعورها - وهي  العارفة بالحرب ومشاكلها والمعاصرة لما قبل الحرب - باليأس من القتل في هذا العصر،..
قصائدها تنكر التشاؤم ،فتبحر إلى ضفاف الحياة، منبت التصرف، فلا تقف عند حدود التفاؤل: الزمان والمكان والتاريخ والحضارة.. فقد حملت قلمها مع الحق في المعرفة، وحملت صخرتها مع سيزيف لتحارب كل أنواع العبث،  وتعاقر الأتراح والآلام مع كل حالم في رحلته الطويلة بحثا عن شجرة الحياة،  تسافر مع تباشير المستقبل بين البوح والكتمان، وترهن حلمها لأشعة تنهض من شواهد القبور، وتقرأ كداعية على الآجر المشوي أو الرخام الأبيض في أطلال الأرض، وعلى الصوامع المهدمة في أحياء ومساكن الروح، حتى إذا أعياها الضرب في الأرض، تلقي عصاه الكلمات وصيحات المناجاة في انتظار الذي يأتي ولا يأتي".
أخيرا.. فعلا.. و دون مجاملة، قصيدتك رائعة وجدا.. كل المحبة التي لا تنضب...  وكل سنة وأنتِ بألف قصيدة..
القصيدة:
---------
بعض الكلام
يجفَّل رفّ الحمام
كأن تقول للصّبية الحالمة: نهدك.. مئذنة !
فيفِزُّ هلِعاً ساطورٌ عن دكّتِه
وتُبسمل.. مقصلة .
بعض الكلام.. مهزلة!
كأن تحلَّ خلافاً بين طفلين يتيمين
فتوزَّع بالعدل فوارغ الرّصاص بينهما
توزَّعُ .. ضجيج الرّخام
ثم تعلن حامداً..
شكراً للقتلة!
بعض الكلام.. فرح
كأن.. تقول للحديق:ة
عشبك رحلةٌ مدرسيّةٌ
لتنتفض من سهوتها
تعلَّق عصافيرها
يقرمش دُفلاها بوشاراً
وعلى المقاعد..
ينطنط قوس قزح.
بعض الكلام.. حليب!
كأن تهمسَ للنّهر:
خصركَ.. ضحكةٌ
وحصاكَ .. قُبل
فيطفر توّاً من دغلته
مرفرفاً.. مغناجاً كحجل.
ويظلّ بعض الكلام.. كلاما
مهما عطّرت واو العطف
كحّلت حروف المدَّ
وأترعت جرن النون. .نبيذاً حراما!
يظلُّ بعض الكلام… كلاما!
كأن تقول للبوةٍ جريحةٍ:
عليكِ السّلام
منك الشّبلُ .. ومنّا الوسامُ
عليك السّلام.
و تظلُّ تخرمشُ.. وجه القهر
تزكّي نار القلب حطب الذّاكرة
وملهوفةً.. تظلُ تتوسّل الأحلامَ
فهل من كلامٍ يهبها
حرفاً واحداً.. يهدهدها
كي تنامَ؟
...........................
المصــــــــــادر:
1- NORA GALLI: "les mots tabous et la femme", page 66
2 -Euphemisme... Page: 67- 68-69..
3 - Gerges Cassi: "le style et ses rapports avec l'inconscient, page 86
4 - Jacque Lacan : "Ecrits 1",pages 19-20-21-22
أعطى جاك لاكان، أهمية قصوى للغة في التحليل النفسي، حيث اعتبر أن اللاوعي مبني كلغة، ومنح أهمية للدال على حساب المدلول، حيث يمكننا أن ننتقل من دال الى دال آخر في النص دون الوصول إلى المدلول النهائي لكونه محذوف، وتحدث "لاكان" في كتابه "كتابات1" عن توالي الدوال النصية انطلاقا من تحليله لقصة "الرسالة المسروقة" للامريكي "إدغار ألان بو" التي تنتقل من دال إلى دال حيث تخفي الدال القضيب، ولذلك فهي تدخل في اطار حلقة مفقودة، وهذا التواتر هام جدا في التحليل اللغوي.
5 - L'allusion - L'antiphrase - La litole..
الترجمة بالفرنسية للكلمات كما هي متعارف عليها في عالم النقد..
6 - Emile Benveniste : Problèmes de linguistique générale, page 87, édition Gallimard, France 1966.
7 - Jean Bellemin Noel: Interignes 3, lectures textanalytique, presses universaitaire du septentrion 1996

 

تعليق عبر الفيس بوك