أوجه العدالة في شعر سعيد الصقلاوي (3)


أ.د/ ناريمان عساف – بيروت – لبنان

 

في قصيدة "سلمتَ وتسْلَمْ" للشاعر العُماني سعيد الصقلاوي (1)  سيل من التعابير والصور الجمالية، والمشاعر الصادقة الشفافة، ومن الواضح أنها تتوجه إلى "حاكم عادل"؛ حيث نشعر أثناء قراءتها، أننا نستمع إلى أنشودة مغناة موجهة إلى حبيب رقيق الإحساس كرهافة الكلمات الموجهة إليه.
     وفي المقطع الأول يقول الشاعر:
               لكَ النّصرُ آيهْ
                            لكَ الأرضُ غايهْ
                            لكَ الــعِزُّ مَغْنَـــمْ
                                        سلِمْتِ و تسلمْ
  يتصدر القصيدة وهذا المقطع أداة الجر"اللام" مضافة إلى ضمير المتكلم الكاف، ويتكرّر تصدير هذه الأداة ليعطي معنى التملك وتخصيص الحاكم به، ويتدرج الشاعر في تعداد أملاك الحاكم، فإذا به يبوّبها بالنصر الذي يصفه بالآية،  وكلمة آية، تعرف بالجملة، القرآنية،  وتعني لغويًا: العلامة، قال الله تعالى: "إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت" (2) ويتابع تعداد غاياته، فإذا هي الأرض، والحفاظ عليها، وصونها، ثم يقول بأن العزّ هو المغنم الذي يناله بعد خوض كلِّ المعارك، سواء كانت فعلية، أو حوارية، وسياسية، والملاحظ هنا أن الخبر (لك) تصدر الأبيات الثلاثة، للفت الانتباه وحصر كل الانتصارات في ذلك الحاكم، ومعنى كلمة (لك) هنا يعتمد على علاقتها مع كلمات أخرى" (3)
وهذا المقطع يستند على ثلاث ثنائيات محورها: الحفاظ على الأرض، والانتصار على الأعداء، فالعدل مفتاح الملك والحفاظ على الأرض والعرض، يعنيان: (لا) للفساد السياسي، والنتيجة هي العز.
  ومن الطبيعي أن يستلهم الشاعر سعيد الصقلاوي عادات قومه وحكامه من التراث، ومن الحاضر، لذا استحضر إرث حكَّام بلاده ، ومن المؤكد أنه السلطان المبجَّل " قابوس" الذي نال جوائز في السلام عديدة دولية وأمميّة فضلا عن مكانته بين شعوب العالم العربي وشعب عمان خاصةً، واستحضار هذا الإرث الحضاري؛ إنما جاء من أجل تعزيز مكانة هذا الحاكم في قلوب محبيه، خاصة شعبه، ويُختصر هذا الحب بالشطر الذي أنهى به كل مقاطع القصيدة، وجاء على شكل خرجة لموشح :"سلِمت وتسلمْ"، هذه العبارة البسيطة، التي تتردد على كل شفة ولسان، خارجة من القلب، تغرسه في قلب سامعها لمصداقيتها، وشفافيتها. هذه الجملة هي عنوان القصيدة، والكلمة المفتاح فيها، ومحور مقاطعها، وهي مؤلفة من فعل ماض معطوف على فعل مضارع، أسلوبها مباشر، لهجتها خطابية، لأنها جملة طلبية، بسيطة تقصد الدعاء للحاكم العادل بالسلامة.
     وفي المقطع الثاني يتعدى الشاعر الجار والمجرور (لك)، ليبدأ بتعداد أشكال امتنان الشعب لهذا الحاكم، موظفًا مواقفهم لذلك، ولم ينس الإطار الزمانكي فوصفه قائلاً:
               صلاةُ الشموعِ
                                  دعاء الدموعِ
                                   بربِّك نُقسمْ
                                                   سلمت وتَسّلمْ
لقد أغنى الشاعر هنا خطابه الشعري بمجازين لغويين، مستمدين من منظومة الإنسان العماني الحياتية، ومن عاداته التي يمارسها في يومياته، فاستثمرها من أجل إيصال التعبير عن حبهم للحاكم، وشكرهم له، فألسنة الشموع، والدموع تعطي الإحساس بالدفء والشفافية، الإنسان العُماني الذي يتّقدُ همة ونورًا، ويصلي شكرًا لهدية الله له سلطانا عادلاً، هي دموعه التي انهمرت فرحاً بالانتصار، وبالعدالة الاجتماعية، وليس لها سوى القسم برب هذا الكون الذي رضي عنها، وأهداه هكذا سلطان، وحرف الجر الباء مع الاسم المجرور (ربك) سبقا الفعل للإنارة على السلطة الإلهية الراعية للحاكم؛ وللتأكيد على المحبة والعرفان بالجميل من خلال تكرار الدعاء "سلمت وتسلم" كقفل موشح.
     وفي المقطع الثالث يلج الشاعر إلى تفاصيل الإنسان العماني، ليحدّد بدءا ذي بدء  (عيون الطفولة)، وفي هذا المجاز العقلي، الذي يدل على كل الأطفال بالطفولة، إيحاء بالبراءة، وبتشبع الشعب لحب الحاكم العادل ويسبق هذا المجاز (زمن الرجولة)، وشبه الجملة هذه كناية عن نخوة الرجال الذين يتمتعون بالقوة البدنية المتمثلة بكلمة زند؛ هذا وقد استعاض الشاعر عن تعبير (زنود الرجال) بزند الرجولة للدلالة على الإجماع على التضحية في سبيل خدمة الوطن، وحاكمه، حارسه. ثم أدلى بجملة "بحلمك تحلم" ليأسر المواطنين مع الحاكم في التطلعات والتوجهات ، لكنه قدم ّ الجار والمجرور (بحلمك) لوضعه في أولويات الحكم العادل الذي يسعى دائمًا إلى الوحدة، وسيادة الأمن، وحماية الحدود، فالشاعر المهندس قادر على "اختراق القوالب والتنميطات الحاضرة لصوغ ممكنات كونية، لانهائية توائم بين الحب والتأمل، بين العاطفي والعقلي، بين الفلسفي والإنسيابية الحلمية، ولا شك في أن الحب يوفر الإمكان لتجاوز أشكال الوجود، ففيه يلتقي الكائن بحقيقته؛ وعلّته عند سبينوزا ليس الجمال وحده، إنما الحرية الباطنية (4)
      ومن عيون الطفولة، وزند الرجولة، وبعد  الخرجة التي تؤكد على الدعاء والحب، يصل الشاعر، أثناء رسمه التفاصيل إلى وصف حال الأمهات اللواتي اختزلهن بتعبير (فؤاد الأمومة)، ودلالة هذا الاختزال تحمل الدفء الذي يفح من قلوب الأمهات، فإذا بهذا الفؤاد يتأثر، وهو الذي يعبر عن الكل بالجزء  فيشدّ جذور عائلات الوطن، ليجمعها حول كلمة الحاكم العادل، المتمثل في الروح التي تعصم المواطنين عن الخطأ، أو الخيانة.
  مجددًا الدعاء "سلمت وتسلم" يتجدّد، ليكون مدخلاً للمقطع الخامس الذي يقول فيه:
               وعزْمكَ وهجٌ
                                 ودينُكَ منهجٌ
                                 و حقُّكَ معلمْ
                                                  سلمت وتسلم(5)
نتساءل هنا، هل... بدأ المدح، أم وصف أعمال حاكم بريقها لا يقاوم، برزت من خلال ثلاثة تشابية بليغة هي: عزمه وهمته الدائمة، ومنهجه في الحكم، الذي يعتمد على مبادئ الدين القويم، وحق الحاكم في نيل التقدير معلم بارز للبيان. ومن الصفات الرئيسة لهذا الحاكم ركز الشاعر على عاطفة الشعب التي تحتاج قلبه وصبره العظيم على المعضلات التي تعترضه.
  ثم ينتقل من أسلوب المباشر إلى لا المباشر، فيصف حال الشعب متبعًا تركيب البنية نفسها. والتركيب هو نتيجة مباشرة للتصور الذي يأتيه المتصوّر مما يجعله في استرسال وتواصل دائمين مع الدولة التصورية، والبنية هي المعنى ذاته في مختلف مساراته (6) فيفاجئنا الشاعر بضمير الشأن "هو" الذي يتقدم الجملة لتفسيرها (7) فيقول "هو الشعب يرقى إلى المجد صدقا، على مرِّ الزمن. وفي المقطع الثامن يلتفت مجدّدًا إلى الحاكم، مخاطبًا إياه بتبجيل، قائلاً إن نضاله في سبيل إحقاق العدالة الإجتماعية ، واضح، وإنه تسامى عطاء فائقًا، ويدعو له مجددًا "سلمت وتسلم"؛ ومن إيراد المجازات العقلية التي أفادت الوصول إلى القمة في مثل "هو الشعب يرقى إلى المجد"، والوضوح الجلي في مثل "تجلىّ نضالك"، ينتقل إلى  إيراد صورة بيانية، تعتبر جامعة للمشاعر التي يكنها الشعب لهذا الحاكم ، والاستعارة مكنية، وهي:

      " فحبّك أجمَعْ
                     على الدهرِ يسْطَعُ
                      جلالاً مُعَظّمْ
                                       سلمتَ و تَسْلَمْ
  الحب هنا مع صفته أجمع ، يحيل على الدهر قيمة حرارية تمثّلت بالسطّوع. وحبّ الشاعر هذا شبه بالشمس التي تسطع على الدهر جلالاً وتعظيمًا على وزن أفعل التفضيل، تحوّل إلى صفة لحبك، عوضاً عن الفعل (أجمع) الماضي المزيد الذي يمكن أن يسبق حبك، فتحول الحب من فردي صادر من ذات الشاعر إلى حب صادر منه، ومن الشعب والسياسين كلهم.
وينهي الشاعر قصيدته بهذا المقطع:
     سموّ الحياة
        جهادٌ لَذاتِ
                وبرٌ مكرّمْ
                           سلمت وتسلم (8)

     لقد وحّد الحاكم مع الشعب في السّمو، وعوض عن أن يقول: يسمو الحاكم والشعب، فنشعر بالحركة، قال: سمّو الحياة، فالحياة لا تنبض إلا في وطن فيه شعب يفرح، وحاكم يحكم بالمساواة والعدل، فشعرنا بالثبات من خلال الجملة الاسمية؛ وفي هذا برٌّ مكرّم من الله سبحانه وتعالى، لأن الله يبارك هكذا وطن، فيه شعب وفيه حاكم يجاهدان لردّ الشر وشياطينه. فالعدل مفتاح الملك، والشعب الذي يقدر قيمة الحياة التي يسوسها حكماء، لا يبغون في الحياة ألا السير في خطى تعاليم الأديان، يسود وطنه البرّ، ولا يستطيع إلا الشكر وترداد ترنيمة: "سلمت وتسلمْ".
     إن التأكيد على هذه المعاني تأتى من خلال الشّدة على سموّ، مكرّم، برّ"والتنوين على جهادٌ، وبرٌّ، ومن خلال أداة العطف الواو ، وكسر التاء المربوطة والمبسوطة، مع جرس حرف الراء المكرّر مرتين، وكأننا نسمع دقات جرس تعلن ناموس الطريق والحياة.
لقد تحققت في هذه القصيدة الوظيفة التفاعلية التي جمعت أفراد المجتمع والحاكم في إطار اسمه الحب والإخلاص، وسادت فيه صفة التوالدية: "أي أن الحدث اللغوي ليس منبثقًا من عدم، بل هو متوالد من أحداث تاريخية ونفسية ولغوية" (9) وتتناسل منه مجازات لغوية وعقلية وتشابهية.
     لقد استطاع الشاعر سعيد الصقلاوي أن يحرر الكلمة من حياديتها، ليثبت أنه مهندس. والتزامه بحب وطنه وشعبه جعله يمدح خصال الحاكم الذي وفّر الحياة الهانئة لهما، فجاءت قصيدة موزونة، متوازنة توازن الشاعر النفسي، ودلالاته الواضحة في العلاقة التقابلية بين صفات الحاكم وحب الشعب له؛ وهذه العلاقة التبادلية أتت دلالتها واضحة في جمل اسمية، والجملة الاسمية في أصل وضعها، تفيد ثبوت الوصف لموصوفه، لأن الخبر في الحقيقة وصف، وهي تدل على معنى من غير اختصاص بزمان، كما أنها تفيد التّجدد؛ وقد شذّت عن تركيبة البنية هذه جمل المقطع الثامن التي أتت فعلية لتفيد الحركة:
تجلّى نضالك  
                      تسامى مِثالُكَ
                      عطاءً متمّمْ
                                                            سلمت وتسلمْ
    فعلا (تجلى وتسامى) المضارعان كشفا الاستمرارية، وبنية القصيدة كلها قائمة على الازدواجية، سواء كان ذلك في الوحدات اللغوية، أو التفاعيل:  فتفعيلتها هي فعولن، وقد حافظ على كونها ثنائية، وفنّ الشاعر المهندس جعله يجدّد في شكل القصيدة الذي جاء على هذا الشكل:
             ____________
                                         __________
                                         __________
                                                               ___________
ففي الشطر الأول يبدأ صدر المقطع، ثم يفصّل ما لمح إليه ، وبعدها يلقي التحية والدعاء، والموسيقى في هذه القصيدة تجعل منها أرجوزة صالحة للغناء، لتمتعها بالعفوية. حافظت على الموسيقى الداخلية، فأتت حروفها متجانسة مع معنى كلماتها، فهي جهرية من حيث المعنى؛ فيها قوة كما في المقطع الأول، وهي مهموسة حيث تبث السلام والهدوء كما هو الحال  فيما اعتبرناه  خرجة: سلمت وتسلم.
     هذا وإن القافية في هذه القصيدة جاءت أيضًا مزدوجة، وتتقارب في ازدواجيتها مع التصريع، كما أنها كانت حيوية، منوّعة و متناسبة مع المعنى.
     وفن الشاعر سعيد الصقلاويِ الشعري، مذاقه متميز من خلال المزج المتوازن بين محاور يسهل الاهتداء إليها إذا توفّرت  شروط الأناة، وصفاء التلقي لمنجزه الشعري.(10)
من هذه المحاور محوران ظهرا في هاتين القصيدتين وهما أولاً: حرصه على الانتساب لوطنه العماني (الخليجي) ، وأمته العربية بإشهار الخصائص الوجدانية والملامح المكانية فيها، وأزمات السياق التاريخي، والأمل في الآتي، ثم يأتي المحور الثاني، وهو ماثل في استيعاب هذا الشاعر طبائع عصره الثقافي الراهن، وخصائص أساليب شعره في جوانبها الصحية، من دون أن يفقد اتجاهه، وينغمر في أمواج الحداثة المستجلبة، بما يجعله واحدًا من "أسنان المشط الحداثي"، لأنك إذا قرأت شعره استغنيت به عن الآخرين.
.......................
المصادر:
(1)     ابن منظور، مقدمة لسان العرب، دار صادر للدراسات والنشر، بيروت، لبنان ، جزء 7/1.
(2)     سعيد الصقلاوي، وصايا قيد الأرض ، بيروت ، لبنان، المركز الدربي للخدمات الثقافية، سنة 2016 ص 77.
(3)     جمعة حسن، الحيوان في الشعر الجاهلي ، دار رسلان، دمشق، سوريا 2010، ص72.
(4)     بيار سوفاني، ماهية العشق عند الفلاسفة، مجلة العرب والفكر العالمي، ص 150.
(5)     وصايا قيد الأرض، ص 79.
(6)    عبد الله صولة الاسترسال في الظاهرة اللغوية من ندوة في قسم اللغة العربية، جامعة سوسة، 2002، ص 52.
(7)     الإعراب الميسر ص 16.
(8)     وصايا قيد الأرض ص 89.
(9)     محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري، استراتيجية التناهي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 2 ، 1986، ص 140.
(10)    د. محمد حسن عبد الله، من مقدمة الديوان:"وصايا قيد الأرض".

 

تعليق عبر الفيس بوك