د. عبدالله باحجاج
ما هي آخر تطورات ملف الزراعة في النجد بمحافظة ظفار؟.. تساؤل نطرحه في متابعة لهذه التطورات، بعد أن تحول هذا الملف إلى قضية وطنية وليست محلية خالصة؛ فالزراعة فيه لم تعد تهم ديموغرافية هذه المنطقة فحسب، وإنما كل الديموغرافية العمانية؛ سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو المصالحة العامة، خاصة بعد قرار نقل مزارع الحشائش من الباطنة إليها، وبعد أن أصبحت الزراعة فيها توجها وطنيا لضمانة أمننا الغذائي، بدليل إقامة مجموعة شركات زراعية مساهمة من الحكومة ومستثمرين من داخل وخارج البلاد.
وقد كان لنا السبق في فتح ملف النجد الزراعي، وفي متابعة كل تفاصيله أولًا بأول؛ لإيماننا بأحقية المزارعين في الحفاظ على مزارعهم القائمة والفعلية، بعد أن اطلعنا على الأوضاع ميدانيا في عدة زيارات متتالية، وفي الوقت نفسه نتفهم الحاجة الماسة لإعادة تنظيم الأوضاع هناك من منظور "لا ضرر ولا ضرار"، على اعتبار أنه قد أصبح هناك واقع جديد شاركت فيها السلط المحلية المتعاقبة، وغدا هذا الواقع ينتج وقائع تهم المصلحة العامة، فهل نهدمه أم نستوعبه، ومن ثم إعادة تنظيمه للمستقبل؟ وبالتالي، فإن كل تطورا يطرأ على هذا الملف نجد أنفسنا معنيين به حصريا، ويأتينا كذلك حصريا، يطرق بابنا كأنه قدرنا، وفعلا هو كذلك، وفي نطاق هذه القدرية الحصرية، وصلنا قرار صدر بتاريخ 14 مارس الجاري من اللجنة الوزارية الرباعية، يستعجل فيه هدم مزارع المواطنين بحجة المخالفة، مع ترك الأبواب مفتوحة للاستثمار الزراعي في النجد للشركات الكبرى، وزيادة عددها، فقد اعتمدت الرباعية 200 ألف ريال لهدم المزارع الفعلية، وهذا القرار يدلل مما لا يدع مجالا للشك على أننا في مرحلة القرارات السريعة، دون حساب انعكاساتها المختلفة، ودون الإصغاء للمطالب المجتمعية والمؤسسية المنتخبة.
فبعد قرار معالي وزير الدولة ومحافظ ظفار بتشكيل لجنة من مختلف الجهات الحكومية لهدم المزارع (يُراجع مقالنا الأسبق: "قرار سريع جدا")، جاء قرار الرباعية ليوفر الغطاء المالي لعلميات الهدم بنفس السرعة المثيرة للجدل، ولم يتبق الآن سوى مسألة وقت فقط، والوقت سيكون سريعا قياسا بمنطقية سرعتهم في القرارات. فالأموال الآن متوفرة للهدم، وسيتم تعيين الجرافات والآليات لهدم مزارع قائمة تؤمن احتياجات السوق المحلي من الفواكة والخضراوات والحشائش، دون دراسة آثار الهدم السلبية على أمننا الغذائي في مرحلة في غاية التعقيد، فهل ستتحمل هذه اللجنة مسؤولية التداعيات الناجمة عن الهدم؟ واللجنة الرباعية مكونة من وزراء، الدولة ومحافظ ظفار، والزراعة والثروة السمكية، والإسكان، والبلديات الإقليمية وموارد المياه.
هذه السرعة غير مستوعبة عقليًّا، ونتساءل: هل هناك في النجد الزراعي أسباب أخرى نجهلها، وقد اكتشفتها اللجنة الرباعية، ويدفع بها إلى الاستعجال في الهدم، أم وراءه معلومات مغلوطة تنقصها الدقة؟ يكمن مفصل مهم من مفاصل إيماننا بقضية المزارعين في معرفتنا الحقيقية بالأوضاع فيها، وبخلفياتها، فلا يعقل أبدا، هدم ما بناه شبابنا طوال ثلاثين عاما، هكذا بقرارات سريعة، بعد أن استيقظت السلطات الأربع فجأة من سباتها العميق، ووجدت في النجد مصالح تهم مواطنين -عاديين- ينافسون شركات كبرى مساهمة يبلغ عددها الآن ست شركات، تسهم فيها جهات حكومية ومستثمرين عمانيين ومن خارج البلاد!! فهل ستهدم مزارعهم من أجل ديمومة مصالح تلكم الشركات الكبرى؟ السيناريو يطرح الآن من هذا المنظور حتى لو لم يكن واقعيا؛ فهكذا يتصور ذهنيا، فقرار الاحتفاظ بـ100 فدان وعشرة أفدنة لكل مزرعة، مع فرض رسوم خيالية، وهدم بقية المساحات الزراعية الفعلية، يعطي ذهنيا تلكم النتيجة، ويزكيها كذلك. حدية المنافسة التي تحدثها مزارع هؤلاء المواطنين للشركات الكبيرة؛ سواء من حيث الجودة أو الأسعار، مما قد يفسر بأن القرارات السريعة تصب في حماية مصلحة الأثرياء أكبر من قضية المخالفات التي عمرها الآن أكثر من ثلاثين سنة، فأين كانت السلطات الأربع منها طوال هذه العقود؟ ولماذا لم تتحرك إلا بعد أن دخلت هذه الشركات لتنافس المواطنين على الزراعة في النجد؟!
وحتى لو سلَّمنا بمشكلة المياه في النجد، فإننا ينبغي إعمال العقل في تفنيد هذه الحجة، فإذا كانت هناك مشكلة مائية مستقبلا، تخشى منها السلطات الأربع، فلماذا نحمل مسؤوليتها هؤلاء المزارعين فقط، في وقت تسمح لمزيد من الشركات بالاستثمار في هذه المنطقة؟ وحتى لو سلمنا بهذه المشكلة كذلك، فإننا لا نجد للهدم مبررا أيضا، وإنما الخيار الصحيح بعد دراسة المخزون المائي، إلزام الشركات الزراعية في النجد بما فيها مزارع المواطنين العاديين، بزراعة محاصيل معينة يكون استهلاكها للمياه أقل. أما الهدم، فهذه عملية تحمل في طياتها قسوة مبالغا فيها، ولها تداعيات نفسية، متصورة ذهنيا، وينبغي أن تكون مقدرة سلطويًّا. ولو أحكمنا العقل كذلك، فإن الموضوعية تحتم على الرباعية عمل دراسة مقارنة سريعة ومستقلة، حول تداعيات بقاء المزارع الراهنة -بأسباب الرباعية السرية غير المعلنة، إن كانت هناك مثل هذه الأسباب- وبين تداعيات هدمها؟
لابد من هذه الدراسة المستقلة حتى تتشكل لديها رؤية واضحة بشأن ما سيحدث بُعيد الهدم؛ لأن أية سياسة أو قرار يظل محكوما بظروف البيئة الداخلية والخارجية. ومن خلال اطلاعنا على الوضع العام بشموليته، نؤكد أن وقف إنتاج هذه المزارع بسبب الهدم، سيُحدث هزة سعرية في الخضراوات والفواكة والحشائش، وسيشعر بها بداية مُربو الحيوانات. واذا كانت الرباعية تعول على الشركات الزراعية الكبيرة في النجد، فإن هذا الرِّهان سيسقط من الاعتبار فورا؛ فهذه شركات ربحية ستحتكر السوق، وتتحكم في الأسعار، ولن تغطي احتياجات السوق، ولن نستغرب أن يكون قد تم تخزين الحشائش لمرحلة ما بعيد الهدم.
هنا.. ينبغِي توضيح التحديات الخارجية التي ستواجه بلادنا خلال المرحلة المقبلة، وكيف ستنعكس سلبا على أمننا الغذائي؟ وكيف لو تلاقت مع تداعيات هدم مزارع النجد؟ ينبغي العلم بأن العالم كله مقبل على حرب تجارية وشيكة بسبب سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحمائية التي سيفرضها على حلفاء بلاده كالأوروبيين، وعلى منافسيه كالصين التي أقدمت من جانبها على فرض رسوم على واردات أمريكية، وسينجم عنها بطبيعة الحال رفع أسعار السلع، وزيادة التأمين على الشحن، كما أن هناك قضية انخفاض درجات الحرارة في بعض الدول الزراعية، وصل في بعضها إلى 47 درجة تحت الصفر، وهذا كفيل بالقضاء على الإنتاج الزراعي فيها. كما تشهد دول زراعية أخرى هطول أمطار غزيرة وجارفة كالمغرب، قضت على موسم الإنتاج فيها، وهذا بدوره سيؤثر على الأسعار، وسيزيد من الضغوط على الأسواق الخارجية. وينبغي أن لا يغيب عن بالنا كذلك مرحلة فرض ضريبة القيمة المضافة عام 2019، التي سترفع الأسعار بدورها في ظل جمود تحسين الوضع المعيشي للمجتمع، وتآكل هذا الوضع من جراء الرسوم والضرائب، وثقل الباحثين عن عمل على موازنات الأسر، هل أخذت الرباعية هذه الظروف البيئة -الداخلية والخارجية- بعَيْن الاعتبار في اتخاذ قرارها بهدم مزارع النجد؟ وهل خرجت في اجتماعها الأخير بعدم تأثر سوقنا بتداعيات هدم ما يقارب 80% من مزارع شصر وهيلة الراكة؟!
وإذا ما أصرَّت الرباعية على الهدم، رغم كل ما أشرنا إليه سابقا وفي مقالات سابقة، فينبغي أولا: مساءلة المسؤولين السابقين والحاليين على السماح للمزارعين بالزراعة في النجد، والتمدد فيها، بعلمها ودعمها، ومن ثم تعويضهم عن المال والجهود التي بذلوها حتى حولوا الصحراء إلى جنة خضراء تنعم بالأمن والاستقرار، ولابد كذلك من دفع ديونهم البنكية، وإلا فإنهم تنتظرهم إشكاليات قانونية، وتفتح عليهم أبوابَ القضاء الواسعة (مكرر من مقال سابق)، علما بأنَّه لو أدت الجهات المختلفة -التي يقع مكتب وزير الدولة ومحافظ ظفار مسؤولا عنها، ولدى الرباعية مديريات عامة في كل ترابنا الوطني- أدوارها كما يجب، لما ظهرت قضايا المخالفات؟ وهذا يزكي التصور المتخيل عند معظم المزارعين سالف الذكر، ومما يزكيه كذلك، عندما تتم المقارنة بين المساحات الزراعية لهؤلاء المواطنين وبين المساحات الزراعية للشركات الزراعية المساهمة في النجد؛ فمساحة حوالي 1186 مزرعة لهؤلاء المواطنين، تبلغ 1500 فدان فقط، وهى تمثل نقطة في محيط بالنسبة لمساحات الشركات الزراعية الكبيرة هناك. فكل شركة من الشركات الست، خصص لها عشرات الآلاف من الأفدنة؛ فمثلا: إحدى الشركات منحت 54 ألف فدان، وأخرى 350 ألف فدان، وثالثة 24 ألف فدان...إلخ ولسنا ضدها، وإنما نُطالب بالانفتاح على مصالح هؤلاء المزارعين أسوةً بالشركات الزراعية الكبيرة، خاصة وأنهم كانوا السبق في استهداف الصحراء، واكتشاف خيراتها، وهنا نجدِّ القول بأنَّ خيارَ الهدم لا يتناغم مع واقع النجد الزراعي من جهة، ويعطي الشعور النفسي بالاستهدافات لصالح الشركات الزراعية الكبيرة، وقد يلوح البعض بوجود مصلحة للمجتمع الجهوي، وهنا يمكن القول إن مصلحته تكمن في نسبة 10% فقط، وفي شركة واحدة، هي شركة نجد للتنمية الزراعية.
إذن، هل وراء القرارات السريعة ضغوطات المصالح الكبيرة؟ لقد وصلنا إلى قناعة الآن بأنه ما لم تصل قضية هؤلاء المزارعين إلى السلطات العليا سريعا، فإن جرافات الرباعية في طريقها للنجد لهدم المزارع على مرأى ومسمع أصحابها، فيا له من مشهد يستدعي كل المقارنات والمقاربات التي قد تدور في الأذهان الآن.. فهل مِنْ مُتدخِّلٍ لوقف تنفيذ القرارات السريعة؟!
أين دور مجالسنا المنتخبة؟ ربما يكون المجلس البلدي قد اكتفى بتوصيته بشأن مزارع النجد كالتوصيات الأخرى التي تتحطم فوق صخرة مكتب الوزير، بينما لا يزال بعض أعضاء مجلس الشورى يبحثون عن إمكانية التواصل مع السلطات العليا دون فائدة.. فمتى سيصدر قرار الهدم؟ ربما قريبا.. سنثبت في مقال مُقبل الصفة الاستعجالية والسريعة التي أصبحت تصطبغ عليها الكثير من القرارات الوزارية دون دراسة وتحت ضغوطات المنتفعين منها.