الإنسان العربيّ بين (خازباز) حسن طلب، و(خيول) أمل دنقل

عبد الجواد خفاجي – ناقد وروائي من مصر

 

للشاعر الدكتور حسن طِلب قصيدة شهيرة عنوانها "زبرجدة الخازباز" منشورة في ديوانه "زمان الزبرجد" .. والزبرجد ـ كما نعرف ـ هو حجر من الأحجار الكريمة، والخازباز هو حشرة من حشرات الفاكهة تعيش في الرياض. ولأن زمننا العربيّ بملامحه غير الكريمة يتنافي مع مدلول مفردة الزبرجد، كما يتشاكل مع مدلول "الخازباز" في ارتباطه بالفاكهة الحلوة والرياض وما فيها من جمال، ربما لذلك يُؤخذ العنوان على محمل السخرية من زمننا العربي الذي يقترب بالإنسان العربي من مدلول "الخازباز" المحاصر بالمرمريس، في إشارة عاجلة إلى افتقاد المقومات المناسبة لاستمرار حياة الخازِباز، وكل المؤشرات تؤكد أن الخازباز يسير في طريق فنائه، أو الانقراض.
ومحور القصيدة الطويلة يدور حول الإجابة عن السؤال: "كيف يُفلت من إسار المرمريس الخازباز"
والمرمريس هو الأرض الصلبة التي لا ينبت فيها نبات أو عُشب، ومن ثم فهو بيئة غير صالحة لحياة الخازباز، الذي اعتاد العيش في الرياض بوصفه حشرة من حشرات الفاكهة.
ولقد أوَّل المؤولون "الخازباز" ، فمنهم من أعده رمزاً للإنسان السلفيّ الذي يعيش زمنا غير زمنه وبيئة غير بيئته، ومصيره إلى الانقراض، وقد حَكم عليه الزمن العيش في المرمريس.
والحقيقة أن هذا التأويل لم يعجبني ولم أجد له مسوغا في القصيدة نفسها أو في الديوان الذي يحوي القصيدة، ولذلك رفضته، خاصة أنه جاء من أشخاص مهمتهم في الحياة تتلخص في الهجوم على التيار السلفيّ. ومن ثم تفوح من تأويلاتهم رائحة أيديولوجايتهم. والشعر ـ كحالة ـ لا يحتمل مثل هذه التأويلات المعقلنة، أو الغرضية بعيدا عن غرض الشعر الذي تتأوله.
ومن المؤولين من ذهب بالرمز مدى بعيداً وأعدَّه رمزا للإنسان عموما فوق الأرض ذلك الذي يعيش أحداثا مفروضة عليه، وعليه دائما استقبال الكوارث ونتائج الحروب، في زمن يفصله قهرا عن إنسانيته المفترضّة.. ولعله تأويل مرفوض أيضا، لأنه يمثل وجهة نظر رومانسية سبقت في التاريخ الإنساني، بعد الحرب العالمية الثانية. ولم تعد وجهات النظر الرومانسية وفلسفاتها الحاضنة مما يحفل به واقع الإنسان المعاصر، المحاصر باللون الأسود للرأسمالية المستغلة والفلسفات المادية الحاضنة التي فصلت الإنسان عن مطالبه الروحية واستنكرتها عليه، كما فصلت بينه وبين إرثه الإنساني التراثي بدعوى الحداثة واجتياز كافة المفاهيم التراثية.
بقي أن يسير التأويل في اتجاه آخر تؤكده القصيدة، التي تنظر إلى الإنسان العربي، صاحب الحضارة المنسحبة من التاريخ، نظرة الإشفاق، وربما الشماتة، وربما السخرية، وقد ورد في القصيدة حشد لا بأس به من أسماء القبائل العربية التي عرفتها الجزيرة العربية قبل الإسلام.. هذا الإنسان العربي الذي يعيش مرتديا تخلّفه متجردا من قيم الحداثة، ومقهورا على العيش في بيئة تهدده بالانقراض، وقد انسحبت حضارته ليعيش مجرداً من موجبات بقائه في هذا العصر التكنولوجي بأنظمته السياسية التي لن تتركه يعيش والحال حالة ضعف وفرقة، كمثل فرقة القبائل العربية الجاهلية التي لم تكن لها دولة حاضنة، وهي تعيش تخلفها صاغرة لما تمليه عليها الإمبراطوريات المجاورة بحضاراتها وفعالياتها العسكرية والعلمية والثقافية.
أعتقد أن حسن طلب في عرضه الشعري للخازباز انتهى إلى محطة لها أصاحبها في مجال الرؤى الشعرية، يأتي في مقدمتهم آخر ملوك الرفض والتمرد الشعري "أمل دنقل" في قصيدته "الخيول" التي انتهى فيها إلى أن الخيول التي رمز بها إلى الإنسان العربي، لم تعد ـ رمزياً ـ صالحة للتدليل على الفروسية والفتوحات العربية، أو حتى مجرد حياة كريمة، وقد استدارت مزولة الوقت/ المؤشرات الحضارية إلى الغرب، وقد أصبحت الخيول العربية ناساً تسير إلى هوِّة الموت، بينما أصبحت الناس خيلا تسير إلى هوة الصمت.!
وبهكذا الالتصاق بين الرمز/ الخيل وما ترمز إليه/ الإنسان العربي ستحيا قصيدة دنقل لا بوصفها تمتلك من صدق الرؤية وعفوية الرمز ما يؤهلها للحياة الشعرية، بل لأنها ـ أيضا ـ تمتلك من قوة الرمز وحيويته وارتباطه بالتاريخ ما يؤهلها لتمثيل الواقع تمثيلا صحيحا.
الخيول بصلاحيتها لتمثيل الإنسان العربي وما آلت إليه الحال، وقد عفى عنها الزمن، وأصابها ـ مثل حضارتها ـ وهن الشيخوخة، فإن أقصى ما يمكن أن تفعله هو توطئة ظهرها لطالبي المتعة من سياح الغرب، بعد أن كانت من أجود أنواع الخيول، يوم أن كانت ممثلة لحضارة الفتوحات ونشر الثقافة والفكر في ربوع الكرة الأرضية، وقد أصبحت في حاضرها خارج الزمن، تعيش حضارة منسحبة، وحالة من اللاقيمة.. أقصى ما يمكن أن تفعله هو أن تستسلم لسائحة أجنبية راغبة في امتطاء ظهرها، في جولة سياحية فوق أراضي العرب صاحبة الحضارة مكسورة الأنف، والتي يمثلها رمزيا في النص "أبو الهول"، ولترمي لها المرأة الغربية ببعض الدولارات في نهاية الرحلة، لتتقوت الخيول بدولارات السائحة راغبة المتعة، في وضع مقلوب، وقد أضحت الخيول ـ الحيوانات ـ تُطعم أصحابها، وقد كانت في سابق عهدها تُطْعَم هي من يد صاحبها الفارس الثري الوجيه.!
تلك وضعية الإنسان العربي في العصر، مجرد ظهر صالح أو مهيأ لامتطاء الدول الغربية صاحبة الحضارة الناجزة، التي تستغل وضعية الإنسان العربي الضعيف سياسيا وعسكريا وحضاريا واقتصاديا، لتمارس متعتها في امتطائه، مقابل لقمة العيش التي تمن بها عليه.
لقد بدأ أمل دنقل بداية قوية، تلقي بالخيول في ساحة التاريخ الفسيح، كصانعة حضارات، وكرمز للفتوحات، ويتخذ منها رمزا صالحا للدلالة على الإنسان العربي صاحب الحضارة والفتوحات، ثم ليرصد حالات انحدار هذا الرمز وقد تخلى عنه التاريخ، وانسحبت حضارته، ولم يعد صالحا إلا لامتطاءات الدول الغربية التي تركبه في مقابل إطعامه، وتتحكم فيه وهي تلقي به في هامش لتاريخ وقد انتهى دوره الحضاري.
يقول أمل دنقل في مقدمة قصيدته:
" الفتوحات ــ في الأرض ـ مكتوبة بدماء الخيول
وحدود الممالك
رسمتها السنابك
والركابان: ميزان عدل يميل مع السيف
حيث يميل"
هذه هي خيول "أمل دنقل" في ارتباطها بالفروسية والحضارات والإمبراطوريات، وقد استحوذت الخيول العربية / الإنسان العربي على حظ وفير من الحضارة مائزة وهي من أجود أنواع الخيول فوق الأرض.
وتنتهي قصيدة "أمل دنقل" عند آخر محطات الإنسان العربي ووضعيته المزرية في التاريخ المعاصر وقد اعتلت ظهره الحضارة الغربية ممثلة في صورة سائحة أجنبية تعتلي الخيول العربية/ الحضارة العربية التي أصابها الزمن بالهزال، ولم تعد مجدية في التاريخ إلا بهذا القدر من بؤس الحال. وبمدى ما تحققه للإنسان الغربي من متعة، وقد استدارت مزولة الوقت/ مؤشرات الحضارة إلى الغرب، وفي مثل تلك الحالة يتساوى موت الإنسان العربي وحياته فوق أرض العرب، ولنستمع إلى أمل دنقل، وهو يخاطب الخيول بنبرة أسيانة، في نهاية قصيدته:
"ماذا تبقى لك الآن؟ ماذا؟
فقط عرق يتصبب من تعبٍ
يستحيل دنانير من ذهبٍ
في جيوب هواة سلالاتك العربية
في حلبات المراهنة الدائرية
في نزهة المركبات السياحية المشتهاة
وفى المتعة المشتراة،
وفي المرأة الأجنبية، تعلوكِ في ظلال أبى الهول
(هذا الذي كسرت أنفه لعنة الانتظار الطويل)
استدارت - إلى الغرب - مزولة الوقت
صارت الخيل ناسا تسير إلى هوة الصمت
بينما الناس خيل تسير إلى هوة الموت !!"

في يقيني أن قصيدة أمل دنقل" بأبعادها الرمزية، وعمقها الرؤيوي ستظل صالحة لتمثيل الإنسان العربي، وهي تقدم مؤشرات موته الحضاري، لا لشيء إلا لأن رؤيته ارتبطت بالواقع وبالتاريخ بوصفه بعداً من أبعاد الواقع، كما ارتبطت بالزمن بوصفه مؤشراً حضاريا. ولم تكن مجردة من التاريخ الذي ساهم فيه الإنسان العربي بنصيب كبير في بناء الحضارة الإنسانية.
لقد اجتاز الزمن بالإنسان العربي إلى ما هو أسوأ من وضعية الخازباز في قصيدة حسن طلب، وأعتقد أن خازباز قصيدة طلب، وما فرضته من تأويلات، لم يعد صالحا لتمثيل الإنسان العربي الآن، وقد وصلت به الحال إلى ما هو فيه من ملامح الكمون والاحتضار، وقد فقد أرضيته الأخيرة (المرميس)، واجتاحته الرياح العاتية، وتسلطت عليه قوى داخلية وخارجية، ولم يعد بالإمكان الحلم، مجرد الحلم ـ رغم حشريته ـ بالعودة إلى الرياض التي كان يعيش فيها، والتي لم تعد بيئة صالحة للحياة، منذ أن عرف الإنسان المبيدات الحشرية التي يرشها الإنسان الغربي فوق أشجار العرب.
بداية قصيدة طلب جاءت على نحو ما تسير في ركاب التجريد، والتقريرية التي احتضنت التجرد من البعد التاريخي الذي لمسناه في بداية قصيدة "الخيول.. كما افتقدت إلى الإيماءات التي تربط بين الرمز والمرموز إليه، ولم تلتقط من حال الخازباز غير أسباب تهدد حياته، وكأن المأمول من هذه الدنيا هو مجرد الاستمرار في العصر، في حين أن "أمل دنقل" بدأ مؤكدا على موجبات هذا الاستمرار، التي بدت مستحيلة مع غياب الفعالية في العصر، وهذا ما يسعى إليه كل إنسان صاحب حضارة ناجزة. ولنتأمل كيف بدأ حسن طلب:
"ما لم يكن سيصح صح
ولم يكن سيجوزُ جاز :
يبس السحابُ
تبخر القاموسُ
كيف إذن سيحيا الأنقليسُ ؟
وكيف يُفلتُ من إسارِ المرمريسِ الخازباز؟!"
هكذا كانت البداية موزعة بين أكثر من رمز، ليشكل حضور الأنقليس (ثعبان السمك) حضورا رمزيا مزاحما للخازباز، في خطاب يزف وعيدا شعرياً بجفاف الحياة حيث يبس السحاب، وتبخر القاموس (البحر) وأصبح المفتقد حقيقة هو أسباب الحياة، وليس غياب الفعالية الحضارية في العصر.
ثم ليستمر دأب حسن طلب في قصيدته باحثا ومتسائلا عن أسباب لنجاة "الخازباز" بصرف النظر عن موته الحضاري، وكأن المشكلة تتعلق بالموت البيولوجي وليس بالموت الحضاري، ولتستمر أيضاً الكثافة الرموزية التي أضحت عبئاً على الخازباز ـ كرمز ـ أكثر من كونها خادمة له:
"لابد من شيء لينجو من هلاكٍ مقبلٍ
هل يستعينُ بحسه الفطري؟
أم بخياله الحفاز؟!
هل يقتفى أثر الجنادب؟
يهتدي بالقطرب الليلي
أو نار الحُباجب؟


أم يكور نفسه - عكس الفراشةِ
كالعكاشةِ
جاعلاً من قرن الاستشعار محور نَحبه الآتي
ومن نسج الرُتيلي حوله قطب ارتكاز ؟!"

تعليق عبر الفيس بوك