التصميم.. الجندي المجهول

 

د. عبدالعزيز الغريبي

في بادئ الأمر أتمنى من قارئ هذا المقال التأمل حوله ومحاولة تعيين شيء واحد لا ينطبق عليه مفهوم التصميم أو التكوين، بدءاً مما يلبسه أو يجلس عليه أو ما تحمله يده؛ حتى ذلك الذي لا يتخيل حوله سوى الهواء الذي يتنفسه والأرض التي يجلس عليها؛ أذكره بقواعد الفيزياء البسيطة في تكوين ذرات الهواء التي يستنشقها والمكونة بعناصر تتآلف بأسس التصميم (الوحدة، التنوع، الاتزان) لتنسجم مع كل تكوين أعظم منها.

عند محاولة تأصيل مفاهيم التكوين واستقراء مراحله منذ نشأة الكون فرضاً، سنجد التصميم ضمن الفلسفات الكونيّة ذات الأبعاد الميتافيزيقية، وهذا يتعدى قدراتنا الإدراكية كبشر، لذا ليست هناك حقائق ثابته في شأنه سوى إجتهادات الفلاسفة والمنظرين في علوم ما وراء الغيب، إلا أنّ في اصطلاحه سبيل (التكوين)، ووعينا المعرفي لتطبيقات التصميم المادية والبصرية أو تخصصاته العلمية والعملية هو أضعف الإيمان.

وهذا ما استدعاني للفضفضة في هذا الشأن وهو غياب الوعي في أبسط مفاهيم وتطبيقات ومجالات (التصميم) وابتعادها كلياً عن تخطيطنا وفرضياتنا المستشرفة للمستقبل الذي أصبح يسابق حاضرنا، وتغافلنا عن واقعه الحقيقي كمجال ديناميكي مرتبط بجميع استراتيجيات وتطبيقات الصناعة والإقتصاد.

لا يخفى على الجميع الجهود القائمة من قبل الحكومة متمثلة في وزارة التعليم العالي في وضع مجموعة من التخصصات النوعية في مؤسسات التعليم العالي من خلال تأهيل مخرجات تغطي حاجة القطاعات، إلا أنّ وضع خارطة طريق لصناعة كالتصميم أو غيرها يحتاج تكاملا مؤسسيا تعتمد موضوعيته على كيفيته ومعناه قبل الأرقام وعناوين "احتياجات سوق العمل" الرنانة في شكلها والخاوية في مضمونها من مفاهيمه وتطبيقاته الاحترافية. فبعد أكثر من عقد من الزمن تتساءل البرامج الأكاديمية لمجالات التصميم في تلك المؤسسات عن هويتها ومدى تأثيرها في المجتمع، وعلى قيمتها الأكاديمية في خارطة المؤسسات الإقليمية، وأخيرا عن استمرارية وجود برامجها من عدمه!

والسبب الظاهر هو عزوف خريجي الدبلوم العام من اختيار التخصص، حيث تراجعت الأعداد المتقدمة للتخصصات بشكل مُلفت ومُريب، ولكن لماذا؟

بعيداً عن نظرية "التعليم من أجل التعلّم" غير المُفعّلة، ستجيب أذهاننا بشكل تلقائي عن هذا التساؤل بـ"عدم توفر الوظائف للخريجين بهذا التخصص" وهذا سبب كافٍ من وجهة نظر الأغلبية لعزوف الطلبة عن هكذا مجال. وأقول في المقابل، إنّ طبيعة مجال التصميم بالذات لا تتوافق مع أولائك الذين يطمحون للوظيفة النمطية، ببساطة لأنّ المصمم المبدع والناجح تتناقض صفاته السيكولوجية مع كل ماهو نمطي وفقا لدراسات ونظريات علم النفس والأعمال. فما بالكم بمن يخطط ويُشرّع ويرسم مستقبل ومصير مجتمع فتي ومعاصر وهو ينظر للتخصص بنظره سطحية ودونية أحياناً!

إنّ البرامج الأكاديمية الخاصة بالتصميم في الكليات الخاصة والحكومية التي أخرجت ما لا يقل عن ١٥٠٠ خريج في ست سنوات تجاوزت مسمياتها مفاهيمها الدقيقة، وابتعدت نظرياتها عن الواقع والتطبيق المعاش، حيث غلبت البرامج الأجنبية المستوردة اجتهادات تقنينها بالشكل المناسب للطلاب وبيئتهم، لذا يبدو عليها الذبول.

كما حدث تدريجيا بتخصصات وقسم المسرح في جامعة السلطان قابوس حين أقفل بابه في نهاية القرن الماضي لسبب أن الخريجين لم يحصلوا على وظائف؛ فيما تنفض الجهات المسؤولة غبار الذنب عنها لتلقيه على غيرها، فبعد اجتهادات التعليم العالي المُقدرة، نجد القوى العاملة تسمي تلك المخرجات بمسميات مهنية لا تتوافق مع التخصصات ولا الحاجات حتى؛ وإن تحدّث سوق العمل عن واقعه ومتطلباته "دون الأرقام غير المتوافقة مع المخرجات"، فسنجد أنها خجولة جدا وتوازي بمستواها وبواقع من توظفوا بها ترهل تلك المؤسسات التي يندر أن تعرف في التصميم إلا مسمى مجالين: التصميم الجرافيكي والتصميم الداخلي، ونهاية لا ينتج المصمم فيها إلا ذائقة مسؤوله، هذا إذا أتيح له التصميم أصلا ولم يدفعوا للشركات الأجنبية أو المحلية الكبرى لتقوم بذلك عنهم! وهذا أمر منطقي فالحاجة للشيء تعتمد على إدراك المؤسسات والأفراد لمفهومه أولا، وثانياً إلى أهميته، وثالثاً على موقعه ومدى فعاليته في الاستراتيجيات والخطط المؤسساتية والعامة.

إنّ غياب الوعي بماهية وأهمية التصميم كمفاهيم ومجالات وتقنيات ومسميات تؤدي إلى ترديد الكثيرين مفردات واصطلاحات ليست في محلها لتصبح أخطاء شائعة تتردد في المشاريع والأوراق الرسمية ومنصات التواصل الاجتماعي والأنشطة والمبادرات المرتبطة بالتصميم. ربما يعود ذلك لتداخل مفهوم التصميم بكافة المجالات الأخرى، ولكن كالجندي المجهول الذي غالباً لا يُسمّى في حين أنه العصب الأساسي لكل شيء كالتخطيط والهندسة والصناعة والتسويق والإعلام؛ فيؤدي ذلك النكران غير المباشر إلى تحوير مجال "التصميم" من معانيه وتجريده من قيمته المعنوية والمادية، وتحجيمه بتصنيفات ضمن الهوايات والمواهب، وأخيراً وأسوأها سيطرة الأذواق الشخصية لأصحاب القرار غير الملمة بأدنى أسسه العلمية على جُلِّ نتاجه.

إنّ اختلاط المفاهيم وقلة الوعي بهذا المجال يشكل بيئة نمطية غير محفزة للإنتاج والإبداع، وتسبب العزوف والانطباعات الدونية حول المجال، كما هي مسبب أساسي لانعدام ثقافة حقوق الملكية الفكرية في الهويات البصرية والتي تشكل تحدياً كبيرا لنا في السلطنة من خلال الهويات البصرية المقلدة أو المتشابهة، ونجد كثيرا من الأمثلة المجحفة في حق المجال وممارسيه من هواه ومختصين وأكاديميين ورواد أعمال.

الأمر الذي يؤكّد أهمية وجود مؤسسة أهلية احترافية تُعنى بتدارك قيمته ومفاهيمه التي تتعدى مستوى الانطباعات الفردية، كالجمعيّة العمانية للتصميم التي يبذل الكثير من المهتمين الجهد اللازم نحو تأسيسها، على أن ‏تطور وتحدد الأطر والمفاهيم والممارسات المرتبطة بمجال التصميم كصناعة حيوية ومستدامة، و لتعمل على الربط بين كافة القطاعات الحكومية والخاصة والممارسين للمجال كرواد أعمال وأكاديميين من خلال رفد المؤسسات الحكومية والخاصة والأفراد بالخبرات المعاصرة والمواكبة للتطور العالمي في فكر التصميم وتطبيقاته المهنية. ‏وتقديم الدعم الاستشاري بأفرعه الأكاديمية والمهنية والإدارية والفكرية نحو العمل المهني الاحترافي والبحوث العلمية للتصميم والإدارة والتعليم في مجالات التصميم المختلفة في السلطنة. ‏مع عدم تغييب مفردات الثقافة والتراث العماني البصرية في تطبيقات التصميم المعاصرة حفاظا على الهوية المحليّة. ‏وأخيراً لترسخ مفهوم التصميم "كصناعة" تسهم في إثراء مصادر الدخل القومي.

فالتصميم مجال لا يقل أهمية عن المجالات الأخرى إن لم يزد، وتكاتف الأفراد والمؤسسات المعنية لجعل التصميم صناعة ديناميكية متكاملة العناصر سينتج فرص ثرية تعود بالنفع المباشر وغير المباشر على كافة القطاعات الحيوية في السلطنة.

تعليق عبر الفيس بوك