هل فهمنا ديننا؟(6)

اللباس والألوان

د. صالح الفهدي

ارتبطَ اللون الأسود بالمرأة عندنا حتى حُسِب على أنَّ الدين هو الذي شرع الأسود لوناً لها! فصار الخروج عن اللون الأسود يصاحبه الشعور بالإثم لدى البعض بحكم ما ترسخ في النفوس من اعتقاد، وصنفت بعض ألبسة الرجال على أنها "لباس إسلامي"، فكأنَّ اللباس الذي لا يشبهه غير إسلامي! فلا الإسلام أقرَّ لوناً للباس المرأة، ولا صنف ثوباً يقال له "الثوب الإسلامي"، إنما وضع محددات معينة، وصفات محددة وترك للناس الخيارات بحكم المناخ، والعادة، والبيئة، والذوق، والحالة المادية، على شرط أن يتوفر الستر والحشمة في لباس المرأة، أما الألوان والتفاصيل الأخرى فهي عائدة إلى الأعراف، والتقاليد، والأخذ من الجديد بما يتوافق وهذه الصفات.

عرف عن طبيعة اللون الأسود أنه لون يمتص الحرارة، لا يعكسها، وهو في طبيعته هذه لا يتناسب من الناحية الصحية مع البيئة الحارة للمنطقة العربية، وعلى ذلك أثيرت دعوات في إحدى الدول العربية "لتغيير اللون الأسود إلى لون يتناسب مع طبيعة المناخ في منطقة الخليج، لا سيما مع عدم ارتباطه بفرض شرعي، حيث يفضل ارتداء العباءات البيضاء أو الألوان المشتقة من ذات اللون الذي يعكس أشعة الشمس بدلا من امتصاصها"، وقد أورد هارون يحيى في كتابه "معجزة الله في خلق الألوان" خاصية الألوان السوداء بالقول إنَّ الأجسام السوداء تمتص جميع ألوان الطيف التي تقع عليها -ولهذا تبدو سوداء اللون، كذلك تكون حارة لأنها تمتص طاقة الضوء (الموجات الضوئية)- بخلاف الأجسام البيضاء التي تعكس جميع ألوان الطيف؛ لهذا تبدو بيضاء اللون، وتكون باردة لأنها لا تمتص طاقة الضوء.

بَيْد أننا لا نناقش هنا الأذواق والتفضيلات المرتبطة بالألوان، ولا بالخيارات الشخصية؛ فتلك مواضيع شخصية، لأصحابها كل الحق فيها، لكن القول الذي نريده هنا هو أن اللون الأسود لا يرتبط بالدين، وإنما بالعادات والأعراف فقط. أما اللباس، فلا لباس يُسمى بالإسلامي أو غير الإسلامي؛ فالإسلام لم يحدد للناس لباساً معيناً، ولم يؤثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمر بلباس محدد، أو النهي عن لباس محدد، وإنما وضع صفات عامة، حيث يقول المصطفى الأكرم عليه أزكى صلاة: "كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة" (النسائي)، وفي هذا يقول الدكتور محمد راتب النابلسي عند سؤال المحاوِر له فيما إذا كان هناك ما يُسمَّى لباساً إسلاميًّا أو غير إسلامي؟ بقوله: إن الثياب متعلقة بالأعراف؛ فالثياب شرطها الستر، والاعتراض أصلاً على عدم الستر، أما الألوان والأشكال فهي تابعة للتقاليد والعادات.

وفي مقابل ذلك، فإن الألبسة غير المحتشمة، وغير الساترة، هي مما تعرض عنه ذائقة الإنسان المسلم، وتشتهيه عين الدنيء، غير السوي؛ فاللباس هو في حد ذاته قيمة، إما تعلو بصاحبها إلى درجة الاحتفاء، والتوقير، وإما تدنيه إلى درجة الازدراء والتحقير، يقول المثل: "يستقبلك الناس بثيابك ويودعونك بكلامك"، فمن النساء من أفرطن في لباسهن، وتبذلن في أزيائهن، حتى أصبحن محطَّ أعين السفلة، ومهوى قلوب الفاحشين، فكيف بهن يشتكين بعد ذلك من ملاحقة الأعين، أو أذى اللسان وهن السبب وراء ذلك التهتك والتبذل؟! هيئات لا تتورع صاحباتها عن الظهور بها في أي محفل أكان للعامة أو الخاصة، ومن ذلك ظهور بعضهن في هيئات غير ملائمة في صروح العلم والتنوير..! ذات مرة اشتكى لي طالب من طلاب إحدى الكليات على مسمع من الطلاب والطالبات عن اللباس الفاتن الذي تلبسه بعض الطالبات في الكلية!

قد تلبس المرأة العباءة، لكنها تشف عما بداخلها من لباس، أو تلبسها لصيقةً على جسدها، تظهر مفاتنها إلى حد ظاهر، فما الحكمة في ستر العباءة إذن..؟! أهي لإرضاء الشرع أم المجتمع؟! وقد يلبس الرجل لباساً لا يكاد يستر أجزاءً من جسده، ثم يخرج إلى الناس في ثوب البيت الشفاف، أو البنطال القصير، والقميص مقطوع الأكتاف، فتسقط عنه ملامح الرجولة، وهيبة الاعتداد، فيسقط من نظر الأماجد، الذين يرون في لباس الرجل مهابةً له، وفي حسن هندامه اكتمالاً لأخلاقه الرفيعة.

إنَّ اللباس هُوية للرجل والمرأة، فكل يحدد هويته بحسب ما تربى عليه، أو رأى نفسه به، فمن قدر لنفسه منزلةً وجيهةً انتقى لنفسه لباساً وجيهاً، لا من أجل الناس وحسب، بل قبل كل شيء من أجل نفسه، فهو الذي يرسم صورته عند الناس، لا يرسمها الناس بالإنابة عنه.

ولا شك أن العصر الحديث قد صاحبه تنوع في اللباس، والألوان، والأشكال، غدت معه متاحةً لكل مناسبة، وظهور، إلا أن ما يحكمها هو الخلق الكريم، قبل ذوق العوام، أو ما يحدده النظام؛ إذ ورغم أنَّ الإنسان ابن بيئته ومجتمعه، يسير وفق نظام يحكمه، وقانون ينظمه، إلا أنَّ القناعات الشخصية مهمة، والنظرة إلى تقدير النفس جوهرية، فقناعته عن صورته، ومنزلته، تسبق صورة المجتمع في الخارج، وتحرزه مما يقولون عنه؛ أأرضاهم أو أسخطهم، على أن هذه القناعات لا تبنى بالأمزجة، ولا بالموضة الصارخة، ولا بالذوق المستهتر، وإنما بالقيم التي لا تتعارض مع مرونة التغيير، وقابلية التجديد، ولكنها تحدد ملامحها، وترسي قواعدها.

ويقول الحق سبحانه وتعالى: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق" (الأعراف:3). فالأصل في أنواع اللباس الإباحة؛ لأنه من أمور العادات التي ارتضاها الناس، لكن لا دخل للدين بتحديد الألوان، والأشكال وإنما ترك ذلك للناس لكي يروا ما يروق لهم، وترتضيه ذوائقهم، مما أنعم الله عليهم، من جماليات الألوان، فلا يحكروا أنفسهم عند لون معين هو في بيئتنا اللون الأسود، فيصبح هو اللون الطاغي في الأفراح والأتراح، فالله خلق الأكوان في ألوان، ليسعد الإنسان، قال تعالى: "وما ذرأ لكم في الأرض مختلفًا ألوانه إن في ذلك لآيةً لقوم يذكرون" (النحل:13)؛ فكيف يحصر الإنسان نفسه في دائرة ضيقة من الاختيارات والتفضيلات، ويترك الإباحة وهي الأصل؟!