في الاحتفال باليوم العالمي للشعر في 21 آذار (مارس):

شعرية التقشّف في ديوان "بملابسه البيضاء الأنيقة" لإبراهيم موسى النحاس (2)

...
...


علوان الجيلاني – صنعاء - اليمن


من جهة تخص الشاعر وحده – ربما – فنحن أمام نص يتخلى  عن الغنائية تماماً، ولا أقصد هنا غنائية النص التقليدي التي يفترض أن تكون مهدومة سلفاً ما دمنا نقارب نصاً نثرياً با متياز ، لكني أقصد غنائية الحالة ، غنائية النواح التي نتوقعها من ابن يفقد أباه .
لقد أسلفت ذكر أن تحت جلد الألفاظ والعبارات وبين السطور الكثير من الألم النازف ، والدموع  الذارفة ، لكنه ألم لا صوت له ، لا نواح لا توجع ، إنها إذن شعرية الكز على الأسنان ، والبكاء الضاحك ، من مفارقات كثيرة وعبثية تحفل بها لحظات الموت والأيام التالية لها .
لن أكون غبياً
فأجلسَ في القطار وحيداً
أقلب عيني في الوجوه المتحجرة
واضعاً إحدى يديّ على خدي المصفر هكذا
أو بتلقائية غير مقصودة
أشبك الأصابع في بعضها البعض
وآخذ رأسي بعيداً
خارج النافذة
لذكريات تلونت
بالأسود والأبيض ، والرمادي والأحمر
منتظراً في بلادة
المحطة القادمة
ثمة قصيدة  عنوانها " تأخذنا الحياة لننسى" من ديوان الشاعر الثالث " كشخص عادي " تحضر في هذا النص الشعري موظفة في السياق بشكل جيد رغم أنها – وهذه مفارقة أخرى – أكثر غنائية وإيحاءً بالشجن .. ربما لكونها أكثر كثافة وتركيزاً من النص المستوردة اليه ، فهي تعتمد على الخطفة الشعرية ، التي تجعلها تختصر المعنى كما يختصر البرق أضواء النجوم :
كلما مرت جنازة أمامي
أحزن علي
وأنا أدخل النعش
أخرج من الشقة
أشاركهم حملي
 والسير خلفي
والدعاء لي
ما أحزنني أكثر
سرعتنا الغريبةُ في السير
كأنني
جريمة
أو ذنبٌ اقترفوه

لماذا اليوم
واليوم فقط
يلوح كل هذا الحب لي
كل هذا الحزن علي
وأعود معهم
تنصب مراسم العزاء
و
  م
     ث
          ل
                ه
                   م
                   تأخذني الحياة
                               وأنسى
نص القصيدة لم يكتنز بسبب الثكثيف والخطفة فحسب ، بل لقد لعب التلبس العميق بالحالة من خلال ضمير المتكلم " أنا " دوراً قوياً في إكسابه هذه الجاهزية التعبيرية العليا ، مقارنة بالنص المستورِد الذي يتحدث عن الميت عبر ضمير من الدرجة الثانية " هم "
لكني لم أتطرق لها لهذا السبب وحده ، لقد حرصت على إيرادها هنا كاملة لسبب آخر أيضاً ، فديوان " بملابسه البيضاء الأنيقة " ليس إنتاجاً مبتوت الصلة بماضي الشاعر ، بمعنى أنه ليس كتابة إبداعية فرضتها تجربة موت الأب على النحاس ، بل هي انشغال قديم وهاجس متصل ومتجذر في عقله وروحه ، الشاعر إذن يشتغل ضمن مشروع يفكر فيه جيدأ ويطوره باستمرار ، وهو إذ يشتغل على مشروعه لا ينفصل عن التجارب الأخرى سواء التجارب المجاورة لتجربته أو السابقة عليها كما في استحضاره لقصيدة محمود درويش " أيها الموت انتظر" .
إن النحاس وهو يبلور مشروعه الشعري الخاص يبدو مسكوناً بهاجس الناقد الذي يراقب التجربة بعين فاحصة ، وإن كنت شخصياً لا أحبذ هذا ، غير أن إيجابيات ما يفعله كثيرة ، مقارنة بما يخسره جراء وضع نفسه تحت عين الناقد المتلصصة وهو يكتب ، وهو لا شك يعي جيداً مقدار التجاوز الذي يحققه في تيبيس الجملة الشعرية ، وتخليصها من تراث الايقاع والمشاعر الجياشة .
على صعيد آخر لا بأس من تكرار التأكيد أن جرأة الاعتراف بحقيقة ما يختلج في النفس كيفما كانت ما هيته هي عنصر فاعل في تيبيس الجملة الشعرية .. وعصر الرطوبة منها ، ذلك يتجلى كثيراً على مستويين في النص ،
 الأول: في تطور النص الذي يبدأ محتدماً بلحظة الموت وما يليها حيث تبدو السخرية فاقعة ، وتتلاحق المفارقات تباعاً ، ثم يتباعد عن تلك اللحظات رويداً رويداً ليتأمل في تداعيات الموت ويفلسف حضوراته المباغتة ، النص بمجمله يشتغل عكس المنطق ، فهو لا يتصاعد ، مطرداً ، لكنه ينحدر متخافتاً ، يبدأ من الذروة ثم يتدحرج هابطاً ، ليبدو إحساس النص تماماً مثل إحساسنا بمصيبة الموت ، صدمة وذهول وانخطاف وحزن ممض ثم هدوء حزين وتأملات وذكريات ، وهذه إيجابية أخرى ، فليس سهلا التحكم بالنص وقيادته إلى النهاية بهذا المستوى من النجاح .
الثاني : في الجزئيات داخل النص نفسه ، خاصة في القسم الأخير منه ، حيث كلما جفت لحظة الموت ، تجف اللغة من رطوبة الحرقة هنا تصبح السخرية أكثر هدوءً والمفارقة أقل اشتعالاً ، ويصبح التأمل هو الفاعل الأقوى ، ومنه تتخلق شعرية النص وبهاؤه ، حين نصل إلى هذا المستوى يكون دخان الحطب المشتعل قد تلاشى ، احترق اللحاء والجسم الخارجي كله ولم تبق من العود إلا الجمرة الحمراء صافية نقية كاملة البهاء :
  ربما أحتاج
أن أمنحه قليلاً من الراحة
مثلاً
أخرجه من صدري
أعلقه كلوحة تعجبني على الحائط
-وخوفاً من فضحي – كعادته
أضمه لألبوم صوري القديمة
وبقسوة تليق بشاعر
على منضدة رخامية
أضعه
أضغط عليه
كفرعون ماهر
أمارس
معجزة التحنيط
يصبح
أنيساً
لجسد مجنون في قبر ما
قلبي الذي
عاش حياته فقط
لعصياني

 هذه مجرد وقفة بسيطة أو نقرة طائر من بحر ، ففي هذا النص الشعري ، أشياء أخرى إن على مستوى الدلالة أو على مستوى التقنيات تستدعي الوقوف عندها ، منها ما يشترك الشاعر فيه مع غيره ،  ومنها ما يخصه ولعل أهمها استبدال الطباق اللفظي بالطباق المعنوي  لكن هذا يحتاج إلى قراءة مفردة لعلها تكون قريباً.

تعليق عبر الفيس بوك