إشكالية العلاقة بين الحلم والواقع في" منامات" جوخة الحارثي (3)

د. إحسان اللواتي – جامعة السلطان قابوس

 

إذا كانت الرواية قد لجأت إلى مجموعة من التقنيات الفنية لتظهر بها التداخل بين الحلم والواقع كما مضى, فقد لجأت بإزاء هذا إلى تقنيات أخرى لتظهر بها الانفصال بينهما. ولما كان حضور التداخل أقوى وأبرز من حضور الانفصال في الرواية, كان من الطّبعي المتوقع أن تكون تقنيات الانفصال أخفت صوتاً وأوهن ظهوراً من تقنيات التداخل, ومع هذا فلا ينبغي إغفالها من الذكر.
قد تلجأ الراوية إلى التصريح المباشر بوجود حلم ما, بأن تقول "رأيت فيما يرى النائم" (71), أو تقول: "في مناماتي"(72), أو تقول: رأيت في المنام" (73), بيد أنّ هذا لا يكون دائماً, وعندئذ تبرز أهمية التقنيات الفنية والحيل الأسلوبية الكاشفة عن وجود حلم ما, ومن ذلك:
أ‌-    التناقض, وهو قد يكون صريحاً بأن تذكر الرواية الشيء ونقيضه معاً, فتقول مثلاً:"يمسّ ورق الشجر أقدامنا ولا يمسّ" (74), وقد يكون غير صريح, بأن تذكر الرواية أحد الشيئين فقط, لكن القارئ يفهم النقيض من السياق, فيكتشف أن ثمة تناقضاً, ومن أبرز الأمثلة على هذا قولها:
"طبق من الكعك بيننا, وأصرّ أن يطعمني بيده, وأكلت, لم أعرف أن الكعك مسموم وأني مقتولة لا محالة, وهذا لم يكن مناماً. في المنام لم أمت, أكلت أصابع ومزق ملابس ودم, ولم أمت"(75).
الراوية هنا تصرّ على إقناع قارئها بأنّ هذا المشهد الذي ترويه له "لم يكن مناماً", أي أنه كان واقعاً, مع أنّ القارئ لا يحتاج إلى عميق فطنة ليدرك أنه لو كان واقعاً لكانت الراوية قد ماتت مسمومة, وهذا يتناقض مع كونه حية تروي له ما جرى. التناقض بنوعيه, إذن, يدل دلالة قاطعة على وجود حلم في البين؛ لاستحالة التناقض في الواقع.  
ب‌-    المبالغة, وهي عندما تكون مجاوزةً حد المعقول أو المألوف في الواقع, تحمل معها دلالتها على أنّ الحديث ليس عن الواقع, وإنما هو عن حلم. مثل هذه المبالغة تنتشر في الرواية انتشاراً واضحاً, وهذان مثالان واضحان:
-    "فأبكي وتنهمر دموعي كمطر, تتكاثف وتسيل على السلالم, أسمع ارتطام تدفقها بأحجار السلالم ثم صوت اندفاعها كسيل هادر" (76).
-    "في أعلى الشجرة التي ارتفاعها سبعون ذراعاً وعرضها سبعون ذراعاً, كنّا" (77).
جـ - الخيال الابتكاري (Creative Imagination), وهو ذلك النوع من الخيال الذي "يختار عناصره من بين التجارب السالفة, ويؤلفها مجموعة جديدة" (78), وتتمثل فاعليته البارزة في قدرته على تجميع أجزاء وعناصر مختلفة ، من مناشىء شتى وأصول متنوعة قد يكون لها وجود متحقق خارجًا ، لكنه حين يجمعها يبتكر منها شيئًا جديدًا غريبًا لا صلة له بالواقع . نقرأ في الرواية :ا
"أخذت حيوانات غريبة تندفع باتجاهي, هابطةً من أعلى السلالم: تنانين تنفث دخاناً أسود, حمر بآذان أرانب وردية, وصقور بأقدام بشرية, زرافات بلا رقاب, ورقاب بلا رؤوس" (79).
إن فاعلية الخيال الابتكاري في الصور المذكورة التي لا صلة لها بالواقع لتوضح بجلاء أنّها لا تستمد مرجعيتها إلا من عالم الأحلام ؛ ذلك أنّ  "جميع المواقف التي تعرضها علينا أحلامنا ليست شيئًا آخر سوى نسخ ، مزيدة ومعاد فيها النظر على نطاق واسع ، عن بعض من تلك الذكريات المؤثرة في النفس . ومن النادر ، على العكس من ذلك ، أن يقدم لنا الحلم صورة صادقة وطبق الأصل عن مشهد من مشاهد حياة اليقظة"(80).


أمَّا بعدُ
لقد حاولت هذه الدراسة أن تقرأ رواية الأديبة العمانية جوخة الحارثي "منامات"، من منطلق يجأر به مفتاحها الأول ، وهو عنوانها ، فسعت إلى تتبّع طبيعة العلاقة الإشكالية التي تربط هذه "المنامات" بالواقع المفترض في الرواية نفسها .
كانت البدأة بمحاولة الوقوف على أهم الوظائف الحلمية ذوات الصلة بالواقع ، وهي الوظائف المتمثلة في : كشف الواقع النفسي ، وتجاوز الواقع ، وترجمة الأمل ، والتحريك الرمزي . وقد خلصت الدراسة إلى أنّ للأحلام موقعها المهم في التعامل مع الواقع الذي تعيشه الشخصية الرئيسة في الرواية داخليًا وخارجيًا ، فالأحلام تكشف الواقع الداخلي النفسي لديها، وتتجاوز هذا الواقع مع مثيله الواقع الخارجي أيضًا ، وتسعى إلى ترجمة الأمل و إبرازه في صور مختلفة ، منها ما هو غرائبي الطابع ومنها ما ليس كذلك. بل تذهب الأحلام إلى أبعد من هذا كله ، حين تسعى إلى تحريك صاحبتها تحريكًا رمزيًا باتجاه الخلاص.
ثم اتخذت الدراسة لنفسها شأوًا آخر ، حين ذهبت إلى أنّ إشكالية العلاقة بين الحلم والواقع في الرواية تتمثل – إلى جانب المضمون والرؤية- في الجانب الفني التشكيلي أيضًا ، ويتمثل هذا في أنواع التقنيات الفنية المستعملة . وهنا قسمت الدراسة الحديث قسمين : فالقسم الأول تناول تقنيات التداخل بين الحلم والواقع ، وقد انتهى إلى أنّ هذه الرواية هي من روايات "تيار الوعي" ، وانتماؤها إلى هذا التيار جعلها قادرة على استثمار مجموعة من تقنياته استثمارًا مؤديًا إلى إبراز مدى التداخل الكبير بين الحلم والواقع.
أمّا القسم الآخر ، فتناول تقنيات الانفصال بين الحلم والواقع ، ولاحظت الدراسة أنّ هذه التقنيات أقلّ ظهورًا في الرواية من تقنيات التداخل ، وما هذا سوى إبراز لحقيقة كون حرص الرواية على التداخل أشد وأقوى من سواه.

 

الهوامش والمراجع:
(1)- جوخة الحارثي: منامات, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, بيروت 2004م.

(2) ـ دريد يحيى الخواجة: تخامر الواقع والحلم في بنية القصيرة العربية، دار المعارف، حمص 1993، ص118. جاءت الفقرة المنقولة في سياق تعليق المؤلف على اختلاط الحلم والواقع في مجموعة" الآس الجميل" لعادل أبو شنب.
(3) ـــ منامات، ص33.
(4) ـــ منامات، ص34.
(5) ـــ منامات، ص32.
(6) ـــ منامات، ص108.
(7) ـــ منامات، ص66.
(8) ـــ منامات، ص8.
(9) ـــ منامات، ص9.
(10) ـــسيغموند فرويد: نظرية الأحلام، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت 1980، ص11.
(11) ـــ يمكن في هذا الصدد الرجوع مثلاُ إلى:
ـــ سيغموند فرويد: المرجع السابق، ص 45ـــ60.
ـــ سيغموند فرويد: الهذيان والأحلام في الفن، ترجمة جورج طرابيشي، ط3، دار الطليعة، بيروت 1986، ص46ــ71.
ـــ سيغموند فرويد: الحلم وتأويله، ترجمة جورج طرابيشي، ط5، دار الطليعة، بيروت1993، ص 17-53.
ـــ إريش فروم: الحكايات والأساطير والأحلام، ترجمة صلاح حاتم، دار الحوار، اللاذقية، 1990، ص27-143.
(12) ــ منامات، ص5
(13)ــ منامات، ص6
(14)ــ منامات، ص27
(15)ــ منامات، ص92.
(16)ــ منامات، ص 108.
(17)ــ يشار هنا إلى أن عبدالله الريامي في مقالته:" منامات لجوخة الحارثي، نقلة أولى لتأسيس رواية مفتقدة في عمان ومقاربة كابوسية للحب والفقد" (صحيفة القدس العربي بتاريخ 23/9/2004م) اتخذ من شخصية هذا المحبوب داعياً إلى الذهاب إلى أن " الكتابة هنا تسعى لأن تكون على خط المواجهة مع القبح والقهر. تقدم الكاتبة شهادة قاسية في واقعيتها لنموذج الرجل في مجتمعها". ومن الواضح أن هذا الكلام - بجعله هذه الشخصية نموذجاً للرجل في المجتمع ـ قد جعل لهذه الشخصية من الامتداد الدلالي ما لا قبل لها به، لا سيما حين نلاحظ شخصية أخرى وردت في الرواية هي شخصية الأب التي تكاد تتباين معها في كل صفاتها.
(18)ـــ فيصل دراج: دلالات العلاقة الروائية، مؤسسة عيبال، قبرص 1992م، ص372.
(19) ـــ سميرة قمري: الحلم والرؤيا في الفلسفة والعلم والدين، دار الحوار، اللاذقية، د.ت، ص 154ــ 155.
(20)ــ ي.جي. ياكوفليف:" حول الطبيعة الانفعالية والعقلانية للإبداع الفني"، في: محمد سعيد مضية (مترجم): البيولوجي والاجتماعي في الإبداع الفني، دارابن رشد، عمّان 1986، ص54.
(21)ــ منامات، ص18.
(22)ــ سيغموند فرويد: الهذيان والأحلام في الفن، ص93.
(23)ــ منامات، ص 75.
(24) ــ برنار دي فوتو: عالم القصة، ترجمة محمد مصطفى هدارة، عالم الكتب، القاهرة1969، ص 47- 48.
(25)ــ سيغموند فرويد: الحلم وتأويله، ص59.
(26)_ سعيد علوش: معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت 1985، ص 146.
(27)ــ منامات، ص98ـــ99.
(28)ــ منامات، ص74.
(29)ــ جون كيهو: العقل الباطن، ترجمة مصطفى دليلة، دار الحوار، اللاذقية 2001، ص 72.
(30)ــ سيغموند فرويد: الهذيان والأحلام في الفن، ص63.
(31)ــ إريش فروم: الحكايات والأساطير والأحلام، ص27.
(32)ـ منامات، ص8.
 (33)- منامات، ص37
(34)ـ منامات، ص18.
(35)ـ منامات، ص26.
(36)ـ منامات، ص44.
(37)ـ منامات، ص88.
(38) ـ منامات، ص110.
(39)ـ سيغموند فرويد: نظرية الأحلام، ص 131.
(40)ـ منامات، ص 14.
(41)ـ منامات، ص56
(42)- رولان بورنوف وريال أوئيليه: عالم الرواية, ترجمة نهاد التكرلي, دار الشؤون الثقافية العامة, بغداد 1991م, ص120.
(43)- سيغموند فرويد: نظرية الأحلام, ص129.
(44)- منامات, ص39.
(45)- منامات, ص42.
(46)- منامات, ص75.
(47)- ميشال بوتور: بحوث في الرواية الجديدة, ترجمة فريد أنطونيوس, ط3, منشورات عويدات, باريس وبيروت 1986م, ص64.
(48)- يُنظر في هذا: حميد لحمداني: بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي, ط2, المركز الثقافي العربي, بيروت والدار البيضاء 1993م, ص46؛ وأيضاً: خوسيه إيفانكوس: نظرية اللغة الأدبية, ترجمة حامد أبو أحمد, مكتبة غريب, القاهرة 1992م, ص269-270.
(49)- عزيزة مريدن: القصة والرواية, دار الفكر, دمشق 1980م, ص45.
(50)- سيغموند فرويد: نظرية الأحلام, ص15.
(51)- جان كوهن: بنية اللغة الشعرية, ترجمة محمد الولي ومحمد العمري, دار توبقال, الدار البيضاء 1986م ص124.
(52)- رينيه ويليك وأوستن وارين: نظرية الأدب، ترجمة محيي الدين صبحي , المؤسسة العربية، بيروت 1987م، ص86.
(53)ـ المرجع نفسه، والصفحة نفسها.  
(54)- منامات, ص98.
(55)- منامات, ص108.
(56)- المصدر والصفحة.
(57)- سيغموند فرويد: نظرية الأحلام, ص14.
(58)- إ.م.فورستر: أركان الرواية, ترجمة موسى عاصي, جروس برس, طرابلس, لبنان1994, ص23.
(59)- نبيلة إبراهيم: فن القص, في النظرية والتطبيق, مكتبة غريب, القاهرة, د.ت, ص245.
(60)- منامات , ص 78 .
(61)- رويترز:"جوخة الحارثي تنسج الأحلام بلاغياً في روايتها منامات", صحيفة الوطن, مسقط, 18/7/2004م, ص21.
(62)- منامات, ص10.
(63)- منامات, ص15.
(64)- منامات, ص21.
(65)- سافو ستيانوف:"نظرية الانعكاس والفنون", في: محمد سعيد مضية (مترجم): البيولوجي والاجتماعي في الإبداع الفني, ص118.
(66)- إريش فروم: الحكايات والأساطير والأحلام, ص 89.
(67)- روبرت همفري: تيار الوعي في الرواية الحديثة ، ترجمة محمود الربيعي ، دار غريب ، القاهرة 2000 ، ص 27.
(68)- المرجع نفسه ، ص 24.
(69)- إريش فروم: الحكايات والأساطير والأحلام ، ص 12.
(70)- محمود غنايم : تيار الوعي في الرواية العربية الحديثة ، ط2، دار الجيل ودار الهدى ، بيروت والقاهرة 1993 ، ص39.
(71)- منامات, ص51.
(72)- منامات, ص61.
(73)- منامات, ص63.
(74)- منامات, ص35.
(75)- منامات, ص108.
(76)- منامات, ص5.
(77)- منامات, ص35.
(78)- أحمد الشايب: أصول النقد الأدبي, ط9, مكتبة النهضة المصرية, القاهرة 1985, ص214.
(79)- منامات, ص6.
(80)- فرويد : الحلم وتأويله ، ص39.

 

تعليق عبر الفيس بوك