جمع فيها بين المخطوطات النفيسة وأحداث زنجبار

سيف الطوقي .. يخط في مذكراته الشخصية "سطورًا من صحائف العمر"

الرؤية - محمد علي العوض

ولأنّ السؤال أول خطوة في مسار الإدراك فقد كان سيف بن محمد الطوقي ومنذ نشأته دائم التساؤل، وإيجاد الإجابات من فم أبيه أو أمه أو أي شخص يزيح عن عينيه غشاوة الجهل بمعلومة ما. مما جعل رفاق طفولته في ذلك العهد يتحلقون حوله للاستمتاع بحديثه عن حكاوي الكبار ومجالسهم التي واتته الجرأة لحضورها، وفي مخيلتهم أنّ حديث الشيوخ وما يدور في مجالس أنسهم أشبه بحكاوي ألف ليلة وليلة وعلاء الدين والمصباح السحري، فخيال الطفولة الخصب غني بالعجائب والمستحيل.

كان ومنذ طفولته المبكرة صاحب روح تواقة للمعرفة والنهل من حكمة الشيوخ والطاعنين في السن. وحتى بعد أن كبر الوالد سيف بن محمد بن سالم الطوقي استمر تحلق الناس والسمار والمحبين حوله فكانت سبلته منتدى يوميًا مفتوحا يؤمه كل شخص، وكان قِبلة لأرباب الفكر والمعرفة والأدب الذين يحجون إليه من كل صوب، ففي تلك السبلة تصادف مرور الشاعر أبي سرور الجامعي، والشيخ العالم سالم بن حمد الحارثي، والشيخ الفقيه جابر بن علي المسكري، والقاضي الأديب سعيد بن سليمان السيابي، لذا لا غرابة للطوقي وهو يجالس هؤلاء العلماء والأدباء أن يدأب على النهل من مكتبة والده التي كانت تغص بجواهر الأدب ونفائسه مثل العقد الفريد لابن عبد ربه، وديوان المتنبي بشرح العكبري، وإحياء علوم الدين للغزالي، والدعائم لابن النظر، ولطائف الحكم للمحقق الخليلي بجانب جملة من مطبوعات المطبعة السلطانية بزنجبار وغيرها من الكتب النفيسة.

المطالع لكتاب "سيف بن محمد الطوقي.. سطور من صحائف العمر" والصادرة من سلسلة "ذاكرة عمان" وتحرير محمد بن عامر العيسري؛ سيجد مادة وافرة لا تنحصر في خصوصيات كاتبها، بل هي أبعد من ذلك بكثير، فهي مجموعة وثائقية حوت مراسلات عدد من الشخصيّات السياسية والاجتماعية في زنجبار التي قضى فيها الطوقي ردحا من العمر في بواكير صباه وشبابه، ولا يعزب عن بال أحد أنّها وثائق يتنقل فيها الكاتب مع القارئ بين زنجبار وعمان، قبل أن يبحر فيها القارئ مع الكاتب كشاهد على التاريخ وحوادث تلك الأيام، ويعيش مع الكاتب سنين عمره الأولى ودراسته عند المعلم سيف بن جمعة العامري أول عهده، والمعلم رشيد بن على الضاوي والمعلم سيف بن سعيد الشكيري قبل أن يكبر ليتتلمذ على يد المعلم سعيد بن عبدالله بن غابش الحبشي. يدلف القارئ مع الكاتب إلى باحة المسجد الجامع ببلدة القناطر، ويرتاد معه كافة الأماكن كإبراء والمضيبي وردهات سوق سفالة الذي أصبح أطلالا الآن بعد أن كان في الماضي يعج بالحركة ومساومات الباعة، ويستمع في تلك المذكرات كذلك إلى أصوات المنادين على بضائعهم وحمالي المياه في سوق مطرح. كما يقف على مئات الرسائل بين الكاتب ومجايليه، ويسبح بخياله مع الكاتب حين زار هو ووالده السلطانين تيمور بن فيصل وسعيد بن تيمور عليهما رحمة الله.

حفل الكتاب بعدد من العناوين الكبيرة والجانبية تقوم مقام الفصول والمباحث حيث يستهل الكتاب بلمحة عن مرحلة الطفولة والشباب، ومسيرة المؤلف ورحلته مع العلم والأدب، بجانب صفحات من سيرة والد المؤلف وأسماء في الذاكرة كان لها تأثير على كاتب الرسائل من قضاة ومعلمين وأعمام وشيوخ.

كما خصّ الكاتب زنجبار وبورندي بأكثر من 80 صفحة من مجموع 494 صفحة بالكتاب، وهذا يدل على حضور زنجبار في ذاكرة الكاتب واحتلالها حيزا مقدرا من حياته؛ تحدث فيها عن استقلال زنجبار ومظاهر الحياة فيها وأبرز شخصياتها، والانقلاب الأسود، وسفرياته إلى بورندي واليمن وعودته إلى زنجبار مرة أخرى بعد 40 عامًا من الانقلاب، ونقرأ في المذكرات أيضًا ملامح العودة إلى عمان وتأسيس حياة وعهد جديد في مسقط وإبراء والأعمال التجارية التي زاولها الكاتب مع صور وشواهد تحكي عن النهضة العمانية وتطور الوطن. أيضًا بالكتاب مبحث موسوم بالآثار الشعرية التي خطها سيف بن محمد الطوقي بيده، وتضمن أشعارا جادت بها قريحة الكاتب الذي بدأ قرض الشعر منذ أن كان في الخامسة عشرة من عمره، علاوة على أشعار أخرى من سعيد بن حمد بن سليمان الحارثي، والمعلم سعيد بن عبد الله بن غابش، وعبدالله بن بن خلفان بن محمد العيسري وغيرهم.

كما حوى الكتاب بين دفتيه في مبحث أو فصل كامل جملة من المخطوطات الثمينة النادرة كمخطوطتي شرح بلوغ الأمل في إعراب المفردات والجمل" و "أنوار العقول في التوحيد" للشيخ نور الدين عبدالله بن حميد السالمي، ومخطوطة "شرح البحر الفائض في أصول الفرائض" شرح الشيخ قسور بن حمود الراشدي على أرجوزة الشيخ عبدالله بن غابش في الفرائض، وصفحة من مخطوطة "ميمونة الانتهاء في معرفة خواص الأوفاق والأسماء"، ومخطوطة للقصيدة "الرستاقية" لشيخ البيان محمد بن شيخان السالمي، وغيرها من المخطوطات القيمة.

ويعد مبحث الرسائل أو الوثائق النسبة الأكبر في الكتاب إذ يشكل حوالي 220 صفحة من المجمل ونحو 114 رسالة تداولها سيف بن محمد الطوقي مع معاصريه من أبناء الوطن، وتكشف تلك الرسائل عن معلومات جمة، وتعد تاريخًا وعدسة كاشفة للأحوال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي طبعت ذلك الزمان، كما أنّها شهادات عصر وشواهد تفصح عن مكنون تلك الأيام وأهم أحداثها وشخصياتها.

اعتمد محرر الكتاب محمد بن عامر العيسري في تحريره لهذه المذكرات على ثلاثة مصادر هي: ما كتبه سيف بن محمد الطوقي بخط يده من سيرة ذاتية، وما نقله المحرر عن صاحب المذكرات مما رواه أو حكاه عن مشاهداته وأحوال عصره، بالإضافة إلى المصادر المساندة: وهي الوثائق والمخطوطات والمطبوعات التي في خزانة صاحب المذكرات والكتابة الجدارية في البيت العود "القديم"..

الكتاب ميدان فسيح ومجال خصب للباحثين، ويحوي مفاتيح تاريخية عدة يمكن أن تستكتب منها مجلدات ومجلدات؛ إذا وجد من يهتم لسبر أغوار ما ورد في المذكرات من معلومات ومشاهد، وتناول مجريات أحداثه بالشرح والتحليل.

تعليق عبر الفيس بوك