رواية في الفلسفة الإسلاميّة:

البُعْد الضَائِع في عَالَم صوفيّ (1)

محمّد رضا اللواتيّ – سلطنة عُمان


تساؤلات على شاطيء نهر المعرفة:
من أين جاء العالم؟
هل أن لكل شيء بدايةً؟
لماذا تحتاج الكائنات إلى مُوجد؟
ولماذا استغنى المُوجد عن الحاجة؟
هل صفحة الكون سراب بقيعة يحسبها الظمآن ماءاً؟
أم هي مرآة تتجلى فيها الذات الإلهيّة المقدّسة؟
هل الوجود محصور في هذا العالم؟ أم أنّ له مراتب؟
وهل فعلاً العالم نهر عظيم يأخذ بكائناته عبر الموت من ضفة الدنيا ليلقي بها إلى ضفة الحياة الأخرى؟
وهل بلوغ القرب الإلهي متاح؟
كيف تسللت الشرور والمصائب في صناعة هذا الكون؟
ما القضاء؟ وما القدر؟
وهل للإنسان الكامل وجود؟

ظلت هذه الأسئلة تجتاح ذهن إيمان ردحاً من الزمن، إلى أن وقع بصرها على عالَم صوفي، فاقتنته، علَّها تروي غليلها بالسفر فيه، والتزود منه. وكم أسعدها السفر في ذلك العالم البديع، ولكنَّها، حين العود، لم تجد ما تتشبث به، لتردع عن تفكيرها هجوم تلك الأسئلة الغامضة مجدَّداً، إلاَّ أن تقول "إنّ الفيلسوف الحقيقيَّ لا يعترف بالفشل أبداً".

وشاء لها القدر أن تكتشف البعد المفقود في عالم صوفي؛ ذلك البعد الذي تكمن فيه الأجوبة لكافة أسئلتها الصعبة. فلقد دلَّها رجل ذات يوم، في معرض مسقط الدولي الحادي عشر للكتاب، إلى الفلسفة الإسلاميَّة، باعتبارها تحوي ما تبحث عنه، وبالتحديد: الحكمة المتعالية منها. تلك الحكمة العظيمة التي، لسبب ما، خلا منها عالم صوفي. في الواقع، لقد خلا كلِّيَّاً من الفلسفة الإسلاميَّة.

هي ذي إيمان، وقد صمّمت على اكتشاف البعد الضائع في ربوع سلطنةِ عُمانَ.
نرجو لها سفراً موفقاً.
................................
الحلقة الأولى:
أسْئِلَة ٌمُحَيِّرَةٌ

 
1: رسالة شكر وتقدير إلى السيد غاردر

الساعة تشير إلى العاشرة والربع مساءاً، آخر يوم سبت في العام 2005م. إنّه مساء اليوم الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر/كانون الأوّل. تنهّدت إيمان وهي تقول في نفسها:

لم تبقَ إلا لحظات على انصرام هذا العام. كم كان مريعاً؟ لقد خلّف محناً ومآسيَ عديدة. وهاهو ذا يستعدّ للتملص من مسؤوليّاته والهروب إلى جهة العدم! ألا يوجد من يحاسبه على أفعاله؟ ولكن...تساءلت إيمان في نفسها:

ما ذنب الزمن في المآسي التي اقترفها البشر؟ هل الزمن هو المسؤول عن مآسي البشر في العراق، وفي سجن "أبو غريب"، وفي فلسطين، وفي دارفور؟ بالطبع لا! المسؤولون هم البشر أنفسهم.

ولكن ماذا عن المآسي التي تخلفها الفيضانات والزلازل؟ هذه على الأقل لا ذنب للبشر فيها. إنها الطبيعة التي يجب أن يحاسبها أحدهم على جريمتها.

 ولكن...تساءلت إيمان للمرة الثانية في نفسها:
هل هناك يوم حساب وتوجيه أسئلة للطبيعة؟ إنها تعتقد بأن الطبيعة أداة تنفيذية عمياء في قبضة خالق الطبيعة فما ذنبها هي أيضاً؟ وإذن، التساؤل يجب أن يتوجه جهة الأفق الأعلى، وهذا غير متيسّر.

تذكّرت إيمان أنّ عليها أن تقوم بعمل، فتوجّهت نحو طاولتها الدراسية والتقطت قلمها وسحبت ورقة من مجموعة أوراق الرسائل ذات الألوان الورديّة والبنفسجيّة، وقبل أن تكتب شيئاً، ألقت نظرة إعجاب كبير على كتاب ضخم يقبع في الجانب الأيمن من طاولتها الأنيقة، عليه عنوان "عالم صوفي" بخط أصفر كبير، وتحته بخط أبيض أقل حجماً: "رواية حول تاريخ الفلسفة". لقد أنهت إيمان قراءة الكتاب بأكمله قبل أشهر وعاودت قراءة بعض فصوله الممتعة عدة مرات وقررت عدم الخروج من المنزل هذه الليلة لتناول العشاء في مطعم "كارجين"، حتى تتمكن من كتابة رسالة شكر وتقدير لمؤلّف كتاب عالم صوفي: جوستاين غاردر. لقد أعجبها كتاب عالم صوفي إلى درجة إنها كانت تتخيل وهي تقرأ فصوله الجميلة أنّها هي صوفي نفسها! لقد وجدت إيمان شبهاً كبيراً بينها وبين صوفي من جهة توقها لمعرفة أصل الكون وسبب وجوده ووجود الإنسان في الأرض ومصيره. وهذا هو الدافع الذي جعلها تقتني كتاب عالم صوفي، الذي يستعرض محاولات الفلاسفة عبر التاريخ للإجابة عن هذه الأسئلة بأسلوب روائي شيق جداً.

هاهي إيمان وقد انحنت على الورقة بقلمها وسطرت ....


حضرة السيد / جوستاين غاردر .... المحترم

يُسعدني –سيدي- ويشرّفني أن أبلغك أحرّ التهاني القلبيّة للنجاح الساحق الذي حققه كتابك عالم صوفي، الذي وضعتَه على لسان المايجور/ ألبرت كناغ لكي يهديه لابنته "هيلد موللر كناغ" يوم عيد ميلادها الخامس عشر المصادف ليوم الجمعة الخامس عشر من حزيران في العام 1990م. لقد نجحت –سيِّدي- في تقديم تاريخ مسلٍّ ورائعٍ للفلسفة إذ أنزلتها بذلك من برجها العاجيِّ وأزلت عنها غبار النسيان الذي ألتصق بها جرّاء هجرة الشباب لها ومقتهم إيَّاها. ولقد استطعتَ بمخيّلتك الواسعة والخلاقة أن تتحدَّى الملل أن يتسرَّب إلى نفوس قرّاء كتابك الفذِّ، وذلك بجعلك المايجور يبتكر "صوفي أمندسون" وأستاذها الفيلسوف "ألبرتوكنوكس" ضمن رواية مليئة بأحداث جميلة وجذابَّة. ولا عجب بعد ذلك أن يشهد عالم صوفي كل هذا الإقبال ويترجم إلى كل تلك اللغات. هنيئاً لك سيِّدي، فلقد نجحت.

ومن المحال –كما تعلم سيدي- أن يخلوَ عمل، مهما كان شأنه، من خدش، مادامت العقّلية التي وراءها تتسم بالمحدوديَّة، لذا فمن القبيح أن يحاول المرء تقنّص خدشات عمل، سيما إذا كان – كعملكم – مبدعاً، لأنّ ذلك سيدلّ على قلّة ذوق ذلك الباحث، الذي شغف بتقصِّي العثرات، وقد أعماه شغفه عن مشاهدة روعة العمل وشدّة جاذبيّته وجماله. لهذا –سيِّدي- سوف أمنع قلمي من أن يُصاب بهذه الآفة الخبيثة، وتأكّد إنّ جمال عالم صوفي الأخّاذ سيمنعني من ذلك وإن حاولت.

نعم، إنّ ما يجب أن أصارحكم به هو أنّ الأسئلة التي بدأ بها الكتاب، أعني:
-    من أنت ومن أين جاء العالم؟
-    وهل يمكن لأيٍّ شيء أن يكون موجوداً منذ الأزل أم يجب أن يكون لكلِّ شيء بدايةً؟
-    إذا كان الله خالقَ العالم فهل هو الآخر مخلوق؟
-    من نحن؟ ولماذا نعيش؟
-    كيف خُلق الكون؟
-    هل وراء ما يحدث إرادةٌ أم حسٌّ؟
-    هل توجد حياة أخرى بعد الموت؟
-    كيف يجب أن نعيش؟

تلك الأسئلة، والسؤالان الأخيران في الرواية:
-    مالذي تفجَّر يوماً قبل عدة مليارات من السنين؟
-    من أين جاءت هذه المادة؟

 لم أعثر على أجوبتهم النهائيّة! لقد خرجت من القراءة بمتعة كبيرة، وبمعلومات جمّة فعلاً عن تاريخ الفلسفة والفلاسفة، خرجت وأنا أحفظ آخر جملة نطقتها صوفي عندما قالت "أنّ الفيلسوف الحقيقيّ لا يعترف بالفشل النهائي أبداً".

ختاماً تقبّل عظيم شكري لعملك المبدع، على أمل اللقاء بالمايجور ألبرت مرّة أخرى في مؤلّفات جديدة ولكن مع أجوبة شافية ونهائيّة هذه المرّة إن أمكن ذلك.

                                                                      المعجبة: إيمان
                                                                   مسقط - سلطنة عُمان

أعادت إيمان قراءة رسالتها عدّة مرات قبل أن تضعها داخل كتاب عالم صوفي وصمّمت أن ترسلها إلى السيِّد غاردر في أوّل فرصة تسنح لها. قامت إيمان بعد ذلك بترتيب جدول قراءاتها للأسابيع القادمة فترة إجازة ميلاد المسيح -عليه السلام-. تدرس إيمان في جامعة "لاتروب" الاستراليّة، منذ حوالي سنة. فبعد أن اجتازت امتحانات شهادة الثانويّة العامّة، وظفرت بمجموع جيِّد جدَّاً يُؤَهِّلها لأن تحصل على منحة دراسيّة على حساب حكومة بلدها، سلطنة عُمان، اختارت ملبورن لأسباب عدّة. وبتشجيع من أهلها سافرت بداية العام الدراسيّ، وهاهي الآن قد عادت قبيل أيام إلى مسقط في عطلة الكرسمس.

2: كوارث العام ... إلى أين تتّجه مسيرة الحياة؟

غداً هو أوّل يوم في السنة الميلاديّة الجديدة، وقد خطّطت إيمان لتقضي يوم غد في مطالعة إحدى الكتب التالية:
تسع طرق للنجاح لرينيه بارون وإليزابيث واغيليه
سامية لعالية محمد صادق
وكان تقياً لكمال السيد
تذكرة سفر لعلياء الأنصاري
سيّدات وآنسات لخولة القزويني
عابرة سبيل لمنصور جعفر ونجيبة السيد علي
شباب الجامعة يسألون لعباس نور الدين

وتنوي قراءة هذه المجموعة خلال فترة الإجازة هذه. قامت بترتيب كتبها بسرعة وانطلقت إلى غرفة المعيشة لتشاهد برنامجاً هاماً يُذاع في تمام الساعة الثانية عشرة، ويلقي أضواءاً على أهمّ وأشهر أحداث العام الذي باتت أنفاسه معدودةً.

رحّب المذيع بالمشاهدين قبل أوان البرنامج بلحظات، ولفت انتباههم إلى أن البرنامج سيعمد أولاً إلى سرد أهمّ أحداث عام 2004، هذا قبل أن يسرد أحداث العام الحالي الذي لم يبقى من عمره غير دقائق معدودة فقط. بدأ البرنامج ينقل مشاهد الدمار الفظيع الذي خلفه الطوفان تسونامي، كونه أبرز حدث مأساوي في العام 2004م، وخلّف محناً لا زالت قائمة إلى يومنا هذا. تحدث المعلّق فقال:

سيّداتي وسادتي...
سوف ننقلكم الآن، وقبل أن يلفظ هذا العام آخر أنفاسه، إلى أسوأ حدث شهده العالم في العام 2004م. ونلفت عنايتكم إلى أن الفيلم يحوي صوراً قد لا تكون مناسبة للأطفال أو مرضى القلب ومرضى الاكتئاب النفسي...

في أعماق المحيط غرب شاطئ جزيرة سومطرة، سطحان من القشرة الأرضية، يدفع أحدهما الآخر منذ آلاف السنين، وشاء القدر أن تنتهي عملية الدفع بنجاح. تبادل الموقعان مكانيهما، ونتج عن ذلك تحرك كميات هائلة من المياه خلال بضع ثوان فقط مندفعة نحو الأعلى بسرعة طائرة نفاثة تقذف اليخوت والقوارب وكل شيء وكأنها لعب. لقد زفرت الأرض فمات 100,000 ألف إنسان! فهل هذا عقاب من الربّ كما قال رجل شوهد هناك يعتمر قبعة سوداء ويتكئ على عصا، يتأمل الجثث والدمار؟

سكت المذيع...وبدأت الصور تروي القصة...

فعلا، لم تكن لتناسب الصبيان، بل وربما بعض الكبار أيضاً.

ثم انتقل المذيع إلى بدايات عام 2004م، معلقاً على صور تحطّم طائرة فرنسيّة فوق النيجر راح ضحيتَها 170 قتيلا. قال المذيع إنّ الحكومة الليبية وافقت على دفع تعويضات بقيمة 170 مليون دولار أمريكي لعائلات الضحايا. وانتقل بعد ذلك إلى أحداث شهر فبراير حيث تم إعدام عدة ملايين من الدواجن في منطقة الشرق الأقصى التي أنتشر فيها فيروس أنفلونزا الطيور! وفي مارس، تقتل الهجمات الانتحاريّة 140 شخصاً يؤدون شعائر يوم عاشوراء في مدينة كربلاء من العراق، وسلسلة هجمات إرهابيّة تقع على قطارات محطّة مدريد لتفتك بأكثر من 191 شخصاً.

وفي أبريل، أخبار فضائح الجنود الأمريكان في سجن "أبو غريب" تُذاع بالصور! يا لها من صور مخزية لبلد ينادي للديمقراطية والحرية. وفي أغسطس هبوب أسراب من الجراد على عدد من دول أفريقيا والعلماء يحذرون من وقوع أوبئة خطيرة ربما لم يشهد العالم لها مثيلا منذ 15 عاماً. وفي الشهر ذاته، ينقل التلفاز صوراً لمأساة دارفور السودان، إذ تعرض أكثر من 1,000,000 شخص للتشرد والنزوح من بيوتهم، بينما لقي أكثر من 50,000 50 ألفاً آخرين مقتلهم على يد مجموعة تمارس التطهير العرقي بين الأفارقة السود. ألا يوجد من يوقفهم عند حد؟ هل ستكتفي البشرية بالمشاهدة والتفرج فحسب؟

وفي سبتمبر، ينقل البرنامج الحادث المؤلم الذي وقع في مدرسة للأطفال في مدينة بيسلان. فقد اقتحم المدرسة عناصر من الشيشان في عملية إرهابيّة انتهت بمقتل 330 طفلاً. تنهّدت إيمان وقالت في نفسها "أيّ قلب هو ذاك الذي طاوع صاحبه لقتل أطفال؟ لا يمكن أن يكون منتمياً إلى أسرة البشر".

وهاهي قصة العواصف تعود مرة أخرى. 4 منها تهب على ساحل الكاريبي وسواحل الولايات المتّحدة الأمريكيّة لتحصد 3,000 آلاف قتيل وتخلّف خسائر تُقدر بأكثر من 000,000,000, 40 دولار! هل عزمت الطبيعة أيضاً على مسايرة البشر في القتل والفتك؟

"يا له من عام"... قالت إيمان ذلك في نفسها. "كان ورحل! دون أن يرحل معه ما خلفه من كوارث وأهوال".

لننتقل الآن إلى أشهر أحداث هذا العام، بل يمكنني القول الآن – والكلام للمذيع- ، وقد دقت الساعة الثانية عشرة منتصف الليل، أن عام 2005م أيضاً قد رحل. أخذت صور مأساوية بالظهور تباعاً على الشاشة، بينما علق المذيع وهو يقول: في 22 فبراير/شباط من العام المنصرم قبل ثوان، شاهد العالم كارثة إنسانية في غرب إيران. فلقد قضى زلزال بقوة 6.4 على مقياس رختر على حياة 612 شخصاً، وأصاب 1,411 آخرين بمختلف الأضرار. كانت عينا إيمان تدمعان وهي تشاهد بكاء النساء وذعر الأطفال من هول الكارثة.

انتقلت كاميرا البرنامج إلى لبنان، لينقل صور الانفجار الهائل الذي أودى بحياة رئيس وزراء لبنان السابق "رفيق الحريري" مع 20 شخصاً آخرين كانوا في موكبه. علّق المذيع على المأساة الفادحة قليلاً، ثم نقلته الكاميرا إلى ساحل سومطرة التعس، حيث قضي زلزالٌ بقوة 8.7 درجة على مقياس رختر على قرابة 1,000 شخص، وذلك في 28 مارس/آذار من العام الذي رحل قبل دقائق.

صاحت إيمان وهي تقول:
-    يا إلهي...هذه الأرض التي شهدت أسوأ مأساة قبل فترة وجيزة، وإذا بها مرة أخرى، تصاب بكارثة جديدة. قالت ذلك إيمان بكل ذهول وألم.

مرة أخرى، تنتقل الكاميرا إلى لبنان، وصور لمظاهرات عارمة في أبريل/نيسان، تطالب برحيل الجيش السوريٌ من الأراضي اللبنانية، في ظل ضغوط دوليّةٌ خطيرة، بعد أن ألقت تهمة مقتل الرئيس رفيق الحريري بظلالها.

وهانحن الآن في مايو/أيّار، والصور تنقل مشاهد مظاهرات عارمة تجتاح العالم الإسلاميّ، على إثر شائعات أنّ الجنود الأمريكان قاموا بتدنيس كتاب المسلمين المجيد، القرآن الكريم، إمعاناً منهم في إذلال سجناء معتقل جوانتامو من المسلمين.

-    ألم يبقَ للمقدّسات أحترام في هذا الزمن؟ تأسفت إيمان وهي تقول ذلك في نفسها.

عادت صور المآسي مجدداً، ففي نهاية يونيو/حزيران، فيضانات تقتل 567 شخصاً، وتصيب 165 آخرين، وتجبر مليوني شخص إلى إعادة التوطين في شتى أنحاء البلاد في الصين.

وفي يوليو/تموز، وقعت تفجيرات انتحاريّة في لندن، استهدفت قطارات الأنفاق، وحافلة ركاب، ما أسفر عن مقتل 52 شخصاً، والتحقيقات تقول إنّ المنفذين كانوا بريطانيّين من أصل آسيويّ. وفي نفس الشهر، 3 تفجيرات تهز منتجع شرم الشيخ في مصر المطلّ على البحر الأحمر، وتسفر عن مقتل 88 شخصاً وإصابة عديد آخرين.

مرة تلو الأخرى، نعود إلى الكوارث الطبيعية، وهذه المرّة في الهند، وبالتحديد في ولاية مهاراشترا، تودي الأمطار الغزيرة بحياة 1,000 شخص هناك. بعد ذلك، أخذت الشاشة تبث صوراً لدمار فظيع، وقع في أعقاب إعصار كاترينا الذي ضرب ولاية لويزيانا الأمريكيّة. لقد بلغت سرعة الرياح 224 كم في الساعة، أدت إلى مقتل 1,228 شخصاً، وخسائر مادية قيمتها ثمانون مليار دولار أمريكي. علق المذيع قائلا إنّ هذه أكبر كارثة تتعرض لها الولايات المتّحدة الأمريكيّة. ويبدو أن نصيب أمريكا من الكوارث الطبيعية لم ينتهي إلى ذلك الحد، ففي سبتمبر/أيلول، ضربها إعصار مدمّر آخر اسمه ريتا.

قال المذيع: "من الواضح أن الطبيعة غير راضية عن البشر، فمسلسل كوارثها لا يرضى أن يقف عند حد. ففي 8 أكتوبر/تشرين الأوّل، قُتل الألوف من الأشخاص في زلزال ضرب شمال شرق العاصمة الباكستانية، إسلام آباد، بقوة 7.6 درجة على مقياس رختر،  ثم ضرب إعصار هائج واتيمالا والسلفادور مدمراً العديد من المناطق الفقيرة".

"سيادتي وسادتي: إنّ للعام الفائت وجهاً إيجابيّاً أيضاً، يتمثل في بعض الاكتشافات الطبيّة المهمّة، سنتلو أخبارها عليكم بعد هذا الفاصل"...قال المذيع ذلك، ولكن لم يكن يبدو على حدقتي إيمان القدرة على الاستمرار في التسمر أمام الشاشة الفضية، فأغلقت الجهاز، وتوجّهت إلى غرفتها وذهنها تعصف به أسئلة خطيرة:

-    لماذا هبّ طوفان آسيا ليبتلع الآلاف من الأبرياء ويقوّض حياة أسر عديدة ويزرع الألم والدمار؟ هذا السؤال لا معنى له عند من يعتقد أنّ الطبيعة جهاز أعمى يعمل بلا وعي! أما إيمان فمؤمنة بالله –تعالى- وتعتقد جزماً أنّ الأحداث تقع بإرادته ومشيئته. وهنا مكمن المشكلة، إذ كيف ترضى إرادته –سبحانه- أن يقع هذا الدمار ويذهب ضحيته العديد من الأبرياء؟ الأطفال تشردوا، الأسر تفككت، بل زالت عن قيد الحياة.

-    هل ثمّة علاقة بين الطبيعة وغضبها وبين أفعال البشر؟ إذا كانت العلاقة موجودة وكانت الطبيعة تثور لأفعال البشر السيّئة، فلماذا تلتهم الأبرياء وتترك الظالمين والجبابرة؟

-    إلى أين تذهب مسيرة الحياة وأي اتجاه تسلك؟ اتجاه السعادة أم الشقاء؟ الاحتمال الأوّل ضعيف بل لا يرد أصلاً ونحن نرى الحروب والدمار والكوارث والبؤس والحرمان في كلّ مكان تقريباً على وجه الأرض! إذن مسيرة الحياة تمشي مسرعة في خط الشقاء. ولكن لماذا؟ هل خلق خالق العالمِ العالمَ ليكون الإنسان فيه شقيّاً مُهاناً؟ وما غرضه؟ ولماذا فضّل لهذا العالم ومن فيه، هذا القدرَ في الوقت الذي كان بإمكانه أن يجعل مصيره أفضل من هذا؟

-    الخالق! لقد قرأت إيمان "عَالَم صوفي" وخرجت بنتيجة مروّعة حقاً! إذْ إنّ الفلاسفة الأذكياء لم يتمكنوا من تقديم برهان واحد يثبت وجود الصانع دون أن يكون فيه ذلك البرهان شائبة نقص! لماذا؟ ألم يكن الأولى أن يكتشف الإنسان وجوده –تعالى- بمنتهى السهولة واليسر؟ يبدو أن هذا غير متحقّق مع الأسف.

نهضت إيمان من فراشها، متوجّهة صوب طاولتها البنفسجيّة الأنيقة فأخرجت رسالتها التي كتبتها إلى السيد غاردر وبدأت تعيد قراءتها مجدّداً مقرّرة تغيير خاتمة الرسالة.

السيد غاردر...لديّ أسئلة أخرى، لست أدري جوابها. إنّها تتعلّق بالمآسي التي تشهدها البشريّة يوميّاً على هذه المعمورة؛ طوفان آسيا المدمّر، الحروب، الآفات، القتل والتشريد اليوميّ، الدمار، التهديدات وأسلحة الدمار الشامل، وغير ذلك. لماذا شاء الله أن يكون هذا العالم مليئا بهذه المصيبات؟ هل كتب لنا الشقاء أم السعادة؟ أرجو سيدي أن لا تنساها في تأليفاتك المستقبلية، وهذه المرة أرجو أن أجد فيها أجوبة شافية.   شكراً لك.

3: بين المشي على الجمر والنوم على الشوك

كان يقظان قد أنهى قراءة رسالة إيمان للسيد غاردر، بينما كانت هي تتأمّل بروشوراً من ورقتين يدعو للانضمام إلى دورة اكتشاف الذات. كان العنوان مثيراً فعلا: المشي حافياً على بساط من الجمرات الملتهبة بدون ألم!

-    هل ستأتين؟، سألها يقظان إيمان مبتسماً.

-    إذا حصلت على أجوبة عن تساؤلاتي فسوف أحضر، ردت إيمان باقتضاب.
-    يقظان: لا علاقة لهذه الدورة بتساؤلاتك الفلسفية. هذه الدورة توقظ قوانا الباطنية وتفجر فينا طاقاتنا.
-    إيمان: وأسئلتي؟
-    اتركيها جانباً. دعي شؤون الخالق للخالق. لماذا كل هذا الاهتمام بها؟، سألها يقظان بكلّ جدّيّة.
-    إيمان: لا أستطيع يا يقظان. بالنسبة لي، سأظلّ أتألّم وإن مشيت على الجمر دون ألم. روحي تتألم وعلي أن أريحها بالأجوبة الشافية عن هذه الأسئلة.
-    يقظان: أمّا أنا فلا أهتم بهذه الأسئلة على الإطلاق. سوف أذهب لوحدي إلى هذه الدورة.
بعد أسابيع سيُقام معرض مسقط الدولي الحادي عشر للكتاب. لعلك تحصلين فيه على كتاب يجيبك عن أسئلتك.
-    إيمان: فكرة طيّبة.
ولكن ألا توجد دورات تعلّم الناس كيف يواجهون مثل هذه الأسئلة ويجيبون عنها؟
عندما سيجيبني أحدهم عن سبب وجود المصيبات والبلايا في الكون، ألا تعتقد أن ذلك سيحرر عقدتي ويفجر طاقتي؟
-    يقظان: إذا كان الجواب إيجابياً.
-    إيمان: لقد تحولت أسئلتي إلى أشواك أنام عليها كل ليلة ولن يجديني المشي على الجمر أبداً يا يقظان، صدقني.
-    يقظان: لقد تأثرت بصوفي أمندسون كثيراً يا إيمان.
-    إيمان: فعلاً. إنّني أبحث عن ألبرتوكنوكس يظهر في حياتي ليساعدني على النوم بلا أشواك وليس على المشي فوق الجمرات الحارة.
-    يقظان (مبتسماً): وربما يساعدك على النوم فوق الشوك ولكن دون ألم، كما فعل البرتوكنوكس مع صوفي.
صوفي لم تحصل على أجوبة عن استفساراتها المتعددة. لقد تعلمت فقط أن المحاولة للبحث عن الأجوبة أمر جيد.
-    أتّفق معك، ردّت إيمان بهدوء تام.

رجع إيمان ويقظان في وقت متأخر من الليل بعد أن استمتعا كثيراً بالمشي على الجمرات الحارة، فلقد تمكّن يقظان أخيراً من إقناعها بحضور الدورة. انشغلت إيمان بعد ذلك عدة أيام في ما تعلّمته من الدورة ، وكانت تنتظر افتتاح معرض مسقط الدولي الحادي عشر للكتاب بفارغ صبر، فلعلّ أمنيتها تتحقق بالحصول على كتاب يجيب على معظم أسئلتها أو بعضها. زارت إيمان مع شقيقها يقظان المعرض في اليوم الثاني من افتتاحه، وتوجهت إلى منصات الكتب الفلسفيّة. كانت تقضي وقتاً طويلاً تتأمل في الفهارس وعناوين المواضيع. وفي الجناح اللبناني، وقعت عيناها على كتاب "عالم صوفي" فاقتربت منه ولمسته بإعجاب ثم أرجعته مكانه. لفتت حركتُها تلك أحد البائعين في ذلك الجناح فتوجه بالحديث نحوها قائلاً:
-    إنه كتاب رائع جداً.
-    إيمان: نعم ... لقد قرأته وأعدت قراءة بعض فصوله لأكثر من مرة.
وهنا، تكلم رجل كان يجلس إلى جوار البائع وقال:
-    ولكنّه -مع الأسف- ناقص.
-    ناقص! كيف؟ سألته إيمان متعجبة.
-    الرجل: ألم تلحظي أنّه لا يقدم أجوبة نهائية عن أسئلة صوفي؟
-    بلى. ولكنّ الكتاب يستعرض تاريخ الفلسفة ولم يكن غرضه تقديم الأجوبة.
-    الرجل (مبتسماً): صحيح، وحتى لو حاول، فلن يتمكن.
-    إيمان (مندهشة): لماذا؟.
-    لأنه لا توجد أجوبة نهائية لدى حكماء أوروبا عن أسئلة صوفي، فمن أين سيأتي الكتاب بها؟ قال الرجل بكلّ هدوء.
-    !!..يبدو أنّ مثل هذه الأسئلة لا توجد لها أجوبة شافية، وأنا كنت أعتقد أنّني أنا التي لا أعرف هذه الأجوبة.
-    بلى توجد. قالها الرجل بابتسامة لطيفة.
-    توجد! أين؟ سألته إيمان بكلّ جدّ.
-    في الفلسفة الإسلاميّة ... هذه الفلسفة العظيمة التي جهلاها أو تجاهلها عالم صوفي كلّيّاً وأهملها فلم يتعرض لها شارحاً، قال الرجل بنبرة صوت جادّة جدّاً.
-    كلا، بل لقد تحدّث عن ابن رشد والإمام الغزاليّ. لقد كانت ثمّة أسماء أخرى لا أتذكرها الآن. ردّت إيمان بكلّ ثبات.
-    الرجل: حقاً؟ ثم وقف واستطرد قائلاً: الشيخ الرئيس ابن سينا الذي كان له الدور الهائل في تطور العلوم شرقاً وغرباً، الرجل الذي ظلّت أوروبا منهمكة على ترجمة كتبه وتدرّسها في جامعاتها، الرجل الذي استشهد به القديس توما الأكويني في خلاصته اللاهوتيّة أكثر من مائتي مرة ... تُرى كيف تحدّث عنه "عالم صوفي"؟ تحدث عنه في صفحة، بل بضعة أسطر فقط!
وبالمقابل، قومي بعد الصفحات التي تتحدث عن توما الأكويني!
...سكتت إيمان ولم تحر جواباً! بينما استرسل السيد ماهر – هذا هو اسمه-:
-    وأين صدر المتألهين الشيرازي في عالم صوفي؟
هذا الفيلسوف الكبير الذي أسّس الحكمة المتعالية وتمكّن من دمج الخطّ الفلسفيّ بالخطّ العرفانيّ في بوتقة واحدة تتوافق مع تعاليم الشريعة؟ الرجل الذي تمكن من تقديم إجابات نهائية للعديد من المشكلات العقليّة؛ من قبيل علاقة القديم بالحادث، وعلاقة الروح بالبدن، واكتشف الحركة الجوهرية وحقيقة الزمان ...
هذا الرجل أيضاً لا أثر له في عالم صوفي. من أين ستنال صوفي أجوبتها الشافية وقد اختزل لها أستاذها ألبرتوكنوكس درسه عن ابن رشد في أسطر فضلاً عن إهماله لصدر المتألهين.
-    هذا مريع فعلاً، ردّت إيمان بذهول كبير!
-    يا للعجب!! كتاب يستعرض تاريخ الفلاسفة ويتحدث عن مشكلة إثبات وجود الله –تعالى- لا يتناول برهان واجب الوجود الذي أسّسه الفارابيّ وطوّره ابن سينا والشيرازي ليصبح أعظم برهان في تاريخ الألوهيّة على وجود الله –تعالى-.
-    برهان واجب الوجود؟ سألته إيمان مندهشة.
-    نعم. يبدو إنّك اقتحمت الفلسفة عن قريب. هل هذا صحيح؟ سألها السيد ماهر.
-    نعم، بل قل إنّني اقتحمت الفلسفة من خلال السفر في عالم صوفي فقط.
-    إذن لقد اقتحمت عالَماً فاقداً لبعد أساسيٍّ فيه، قال السيد ماهر.
-    والحل؟ أ تقترح كتاباً بعينه للقراءة ياسيِّدي؟
-    إنّ مثل هذه الكتب -مع الأسف- ، تكون عسيرة الفهم عادة.
-    ألا يوجد حلّ آخر يا سيّدي؟، سألته إيمان وكأنها تتوسل إليه.
-    السيِّد ماهر: إنّ جدّيتك تشجعني أن اقترح عليك أمراً.
-    إيمان: تفضّل عليّ به مشكوراً.
-    يُمكنني تدريسك شيئاً من الفلسفة الإسلامية إن شئت.
-    ماذا؟، (لم تصدق إيمان أذنيها). أحقّاً تعني ذلك؟ وهل درستَ –أنت- الفلسفة الإسلاميّة؟
-    السيّد ماهر: بلى، ودرستُ الحكمةَ المتعاليةَ أيضاً. إنني متواجد في سلطنة عُمان في هذه الفترة فقط، وسوف أعود إلى لبنان بعد انتهاء المعرض.
-    إيمان: إنّها فترة قصيرة. هل سنصل خلالها إلى نتيجة؟
-    السيّد ماهر: ممكن. سوف نخصِّص الفترة الصباحيّة من الثامنة صباحاً إلى الثانية عشرة والنصف ظهراً كل يوم. وإذا تطلّب الأمر، فسوف نُكمل بعد صلاة الظهر لمدى ساعة ونصف ساعة أخرى.
-    إنّني عاجزة -يا سيدي- عن شكرك، اسمح لي فقط أن أبلّغ والدي وأستأذنه، قالت إيمان مسرورة.
-    السيّد ماهر: لا شكر على واجب. أعلميني عندما تكونين جاهزة.

فرح يقظان لهذه الأخبار كثيراً. ووافق والد إيمان بشرط أن يقام الدرس في منزله بوجود يقظان. أما إيمان فلم تكن إلى الآن تصدّق نفسها. لقد ظهر ألبرتوكنوكس آخر في حياتها، ليُسرد عليها نتاجُ الفلسفة الإسلاميّة هذه المرة. من جانبه، قدّم يقظان طلب إجازة لمدة 10 أيّام في مقرّ عمله ووافق له مديره. وهكذا سوف يرحل يقظان مع إيمان إلى عالم ثقافيٍّ جديد ومثير.

تعليق عبر الفيس بوك