في الاحتفال باليوم العالمي للشعر في 21 آذار (مارس):

فعالية الرمز في "ثورة الأشجار" للشاعر أوفى عبد الله الأنور (2)


عبد الجواد خفاجي – ناقد وروائي من مصر

 

على نفس المستوى تنطرح الرؤيا الشعرية في قصيدة "هي طفلة" حيث احتضان قيم البراءة والحب بمعناه الفطري، والقيم الإنسانية النبيلة، والاحتفاء بمفردات المكان الأثير: " يا أيها الولد الفتيّ / قل إنك اشتاقت لمطلعك البهي / جداول الأنهار / والبسطاء / والمدن التي تتحجر الخلجات في طرقاتها / والأرض التي هجر البنونَ ديارها / شدتهم بلاد النفط / فانسلخوا من الطمي / احتموا بالوهم / فاصفرَّت حقول " صـ 14. وفي المقابل من ذلك تتبدى مؤشرات زجر الذات، وقيام عوامل تغربها عن أرضها وقيمها وعوامل تراجعها وتصرمها، وثمة إدانة للزمن بكل ما يحمله من قيم هجينة وانكسار للرموز النبيلة الأصيلة، واندحار لقيم الخضار" فاصْفرَّت حقول/ وانحنت جميزة ثكلى / على النهر العجوز / وتراجعت صور الحمام من القرى / وتمدد الأسمنت / وانتحرت طيور " صـ 19  غير ما هنالك من تباكٍ على الزمن الجميل الذي كان، وانتظار لغائب طال انتظاره، واشتاقه المكان.. هو غائب في رحلة سندبادية محكوم عليها باللاعودة، واحتضان الوهم ، وثمة احتفاء بالمكان سواء على مستوى استخدام مفردات المكان أو على مستوى احتضان القيم الدالة عليه: " جيش من النخل المعتق/ والشجيرات الأصيلة/ صوب قلبك ذي البراءة والزمان الحاتمي" صـ13 .
وإن كان ثمة تباكٍ على الذات التي ضاعت بضياع قيمها، لذلك هي تحيا كما لو كانت بغير فؤادها، حيث تبدأ القصيدة بالتساؤلات: " هل سارق سرق الفؤاد / فأرَّق القلب المؤرق / واسترقَّ لحاله قرب ارتقاء القلب للمحبوب / هل أنت رتَّقت الفؤاد / وقلت: قد قرب ارتقاء المشتهى ... ؟ " صـ 10 . لكأنها ذات بغير فؤادها تمضي، في دلالة مشفة على فقد المحبوب الذي يسكن الفؤاد ، وربما فقد القدرة على الحب والتواصل، وربما لهذا كان الشعور بالتعاسة متفاقماً ، وربما لهذا متفاقماً ، وربما لهذا كان الاستمساك بأهداب الأفق اليوتوبي والحلم بعودة المحبوبة اليوتوبية: "علَّ قلبي / حين يفجؤه المجال / وتستميل الشمس وسط رمالها / أسطورة التعساء / يبقر الأرض المريبة / ثم أخرج حاملاً طوق النجاة / وعائداً لمدينتي / في راحتي أملُ / وأرقي لانتظار مليكتي / .... هي طفلة " صـ 12.
ولنا أن نتأمل محبوبة الشاعر، ودلالة مفردة "طفلة" في ترفعها عن الحسية واتجاهها نحو قيم البراءة والفطرية: " هي طفلة / سكن الجمال بوجهها / وبعينيها طوفانُ أشواقٍ / ورحلة سندباد / ولها عصى نبوية الإيقاع / إن ضربت / تفتق نهر عشقٍ / واختفى زمن نحيف / وتراجع الشرطيُّ / عن لفتاته / وتحول الحكام أروقة / يطوِّف حولها الشعب العييّ / فتهطل الرحمات / يخضرُّ المدى الممتدّ / تهطل حين ذاك يمامة / ويحط قمري / وتشدو وردتان .... " صـ 13.
صورة رائعة للمحبوبة ، رغم ترهل واضطراب مبناها؛ فمفردة "الممتد" لا قيمة لها بعد "المدى" واليمام هو القُمري، وشدو الوردتان بصيغة المثنى لا يتناسب مع هطول الرحمات بصيغة الجمع، لقد قلل الشاعر من ورده، وأكثر من رحماته.
على أية حالة هي محبوبة الشاعر تجتاز كينونتها كأنثى إلى حالة كونية، وقيم جمالية تنفرد في المكان ؛ ليتحول إلى وفاق واطمئنان اجتماعي وسلام بشري.
يمكننا أن نتلمس الأفق الرمزي للغة بداية من مفردة "طفلة" التي أتت عنواناً للقصيدة في اجتيازها لدلالة المواضعة ولدلالتها الحسية إلى دلالات أعمق تتعلق بالصفات وليس بالذوات، فليس محبوبة الشاعر ذاتا بعينها بقدر ما أنها صفات تستدعيها مفردة "طفلة" ، وما استخدام الشاعر لهذه المفردة اعتباطياً، وقد كان أمامه أن مفردات أخرى أكثر حسية وإثارة .. هي مفردة رامزة، تستدعي رموزاً أخرى كثيرة، فهي طفلة "لها عصى نبوية الإيقاع / إن ضربت تفتق نهر عشق" وهذا مستوى من رمزية الاستدعاء الذي يتناص مع الموروث القصصي الديني، وكأننا أمام طفلة مباركة مؤيدة بمعجزات مباركة كعصا موسى التي شقت البحر ضربتها، ومع استبدال "النهر"  "بالبحر" في قصة موسى ترتبط الدلالة أكثر بالنهر وما ينطرح حوله من مفردات أثيرة تشكل الوطن المشمول بالحب والجمال حول النهر .. هي الوطن الأثير الذي تبدو الذات الشاعرة حالمة به .
 ولعل مفردات كثيرة حفل بها النص جاءت محملة بالرمز من عينة "فاصفرت حقول" مستخدماً رمزية اللون للدلالة على الذبول والموات، وكذلك " وانحنت جميزة ثكلى" مستخدما رمزية "الجميزة" للدلالة على العراقة والعتاقة والصمود، ومستخدماً هذه الدلالة للإشارة إلى المكان وإنسانه، وكذلك "انتحرت طيور" مستخدما المستوى الرمزي لمفرة " طيور" للدلالة على الإنسان بقيمه الفطرية عندما يتخلى عن أفق الحياة، ولدلالتها على الشعراء الذين كفوا عن الغناء بعدما يبست الدوحة حولهم. إنه الموت قهراً أمام قيم العصر المتحجر أو المدينة التي تمضي بلا قلب. ولعل تراجع صور الحمام وانتحار الطيور صور رامزة لتراجع قيم الفطرية والبراءة والجمال أمام القيم المستحدثة التي  جلبتها المدنية وأموال النفط متمثلة في "تمدد الإسمنت" لتصبح الجميزة الثكلى وهي صورة رامزة أيضاً لوضعية الجميزة الرمز، وحالة الثكل والحزن والقهر التي تعيشها .. وكل الرموز تتجه بنا إلى حالة الحزن والانكسار والقهر، وتلك الحالة التي أضحت سمة للمكان ومفرداته وإنسانه.
حفلت التجربة أيضاً بمفردات المكان في مستوى استخدامها الرمزي مثل: "الحقول ـ الغناء ـ النهر ـ الطيور ... " وهي مفردات أثيرة ، وعلى درجة من الخصوصية ، إذ تربط الذات الشاعرة بالموضوع وتربط كليهما برباط حضاري ثقافي واحد ، ومصير واحد في زمن نحيل ـ على حد تعبير النص ..  زمن يترصد الذات ويجعلها بحالة ما أشبه بسندباد يبتدئ رحلته بركوب الأخطار، إذ يمضي مؤرَّقَّاً ممتطيا خيل الردى، متعنقاً حلمه وأغنيته، وهكذا تقترب التجربة من الذات الشاعرة في إلتحام تام بين الذات والموضوع في إشارة رامزة إلى رحلته الحياتية وتجربته الجمالية اللتين عبر عنهما ب"رحلة" و"أغنية".
لاشك أن ـ ومع يقيني ـ أننا أمام تجربة على درجة من الفعالية الرمزية، إلا أنني مازلت أعاين أفقاً شعرياً يتخلى عن جهد صاحبه في اكتشاف رموزه الخاصة؛ فقد سبق أن تحدثنا عن "السندباد" كقيمة رمزية فقدت قدرتها على التأثير والإيحاء، وها هو شاعرنا يتكئ عليها للمرة الثانية في هذه القصية، بما يشي بالرغبة في التقاط الجاهز والمتداول من رموز، والشأن نفسه بخصوص الجهاز الرموزي كله، فما استخدام مفردات "الطير ، والغناء، والجميزة، والنخيل وما إلى ذلك من ألفاظ تحمل بعداً رمزياً إلا من قبيل التقاط الجاهز؛ فجميعها متداولة بكثرة للدرجة التي أضحت معها فاقدة التأثير والإدهاش، ولعلها قضية لا تخص شاعر هذا الديوان وحده، إنها قضية أجيال شعرية تحنطت رموزها الشعرية، داومت على ترديد نفس النغمة، ونفس الرؤى، ونفس الرموز، وقلما وجدنا خصوصية وسط هذه الأمواج التي تركب بعضها بعضاً.
إن تجربة تسير في المشاع الرمزي لن تكون على المستوى الرؤيوي بمنأي عن المشاع من الرؤى اليوتوبية الحالمة التي تتجه بنا نحو إدانة الزمن ، ودون أن تكون معنية بالتوقف عند المحتوى ؛ فمن اليسير أن تنعت التجربة الزمن بأنه نحيل، ونحيف ، وكذا وكذا ، لكن من الصعب أن تطرح رؤية عصرية باتجاه المحتوى، أو رؤية درامية مسنودة على تفاعلات درامية حقيقية في الواقع الحي ؛ فليست المدينة التي بلا قلب ، أو المدينة الأسمنتية المبدِّدة للحب والدفء الإنساني ، أو تمدد الإسمنت في وجه الخضار، أو حتى هجرة البنين إلى بلاد النفط، أو ما إلى ذلك مما لمسناه في هذه التجربة الشعرية من هموم وقضايا واهتمامات .. ليس كل ذلك إلا اجتراراً لما سبق طرحه شعرياً منذ أوائل الستينيات وحتى أواسط السبعينيات .. لقد اختلفت المعطيات الشعرية، وهموم الإنسان الاجتماعية والسياسية في عصر الانهيارات السريعة المتلاحقة.  


 ____________________________________

ديوان "ثورة الأشجار " للشاعر أوفى عبدالله الأنور صادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ سلسلة إشراقات أدبية 2008 م

 

تعليق عبر الفيس بوك