د. صالح الفهدي
صدمتني بعض الأحاديث التي وردت في صحيح البخاري، مما لا أود ذكرها في هذا المقام، أحاديث ينكرها العقل قبل القلب!! وأشير في تلميح عابر إلى مثال على ذلك مما ورد في باب "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة" في صحيح البخاري.
وبغض النظر عن إنكار البعض لهذه الأحاديث، فإنها لا تزال موجودة وإن كانت تثير جدلاً، وعلى ذلك، فالسؤال المطروح هنا هو: لِمَ يتم تناقل هذه الأحاديث غير الصحيحة في صحيح البخاري ونحن في القرن الواحد والعشرين؟! وما المصلحة في ذلك، ونحن أحوج ما نكون إلى ترسيخ المفاهيم العظيمة التي جاء بها ديننا الحنيف في أمة تُريد أن تشق لنفسها طريقاً بين الأمم المتقدمة، وهي تحمل أعظم رسالة للإنسانية، لا تتعارض مع علم، ولا تقف حائلاً دون تقدم يفيد الإنسانية؟!
ويقول الكاتب المغربي محمد عثمان في مقالٍ له بعنوان "صحيح البخاري.. مجهود بشري غير مقدس لكنه مهم": "لا بد من التأكيد أولا على أن الكتاب هو مجهود بشري، لا قدسية له ولا عِصمة، مُعرَّض للصواب والخطأ، قابل للنقد والمراجعة، خاضع لتأثيرات البيئة والمحيط والسياسة، لكنَّ الإنصاف يلزمنا أيضا بالاعتراف بأنه مجهود بشري جبَّار إذا وضع في سياقاته التاريخية والمعرفية"، ويضيف الكاتب: "ليس من مصلحة أحد أن نكون خصوماً للبخاري خاصة أو التراث عامة، لكننا ليس من مصلحتنا أيضا وأد السؤال المشروع، ومحاربة العقل النقدي، أو احتكار المعرفة من طرف فئة محددة، فكتاب البخاري يبقى في آخر الأمر تراثاً إنسانيًّا، من حق المتخصصين في كل الأبواب تناوله بالنقد والمساءلة".
ولا تقصر القضية مقصورةً في مؤلف ما، وإنما يتعداه إلى تفسير النصوص، وإعادة قراءتها، وتصويبها وفق المساقات الشريفة للدين، وغاياته العليا.
إنَّ تنقية التراث الفقهي أمرٌ واجب؛ لأننا لا نتوقع أن إرثاً منجزاً منذ مئات السنين لا تشوبه الكثير من التحريفات، ولا تعتوره الأفهام الملتبسة، أو أنه يظل -بجميع تفسيراته- صالحاً لظروف زماننا (في نطاقات الاجتهاد) والتفسير الواضح في عصر المعرفة المتاحة.
تصطدم بعض الأحاديث بالعقل، كمثل حديث "الصلاة واجب خلف كل بر وفاجر"، وهو على ضعفه وعدم الاحتجاج به، إلا أنه متداول؛ فكيف يقبل العقل الصلاة وراء من يعلم أنه فاجر، والفجور هو منتهى الفسق والتفحش..!! وهناك أحاديث فسرها البعض على إطلاقها، بينما ارتبطت بشروط معينة لا يجوز فيها الأخذ بالإطلاق، بل إنهم لم يقبلوا فيها بتفسيرات أخرى بل احتكروا تفسيرها لأنفسهم دون غيرهم من العلماء! أحاديث أخرى فهمت على غير مقصدها الذي قد تفهم عليه في الإطلاق كمثل حديث: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" (رواه مسلم)؛ حيث يُسقطه البعض على عموم الدنيا، فيصيب ذلك المؤمن بالخور في همته، واليأس في عزيمته، وعدم المبادرة، والشعور بالوهن والقنوط والانهزامية، بينما المقصد السامي للحديث هو "كبح الشهوات"، يقول د. خالد بن عثمان السبت في شرحه للحديث: "كيف تكون الدنيا هي سجن المؤمن؟ قد يكون المؤمن في هذه الحياة الدنيا ممتعاً يأكل من الطيبات، ويسكن الدور الواسعة، ويركب المراكب الفارهة، ومع ذلك هي كذلك بالنسبة إليه هي سجن المؤمن، والمقصود بذلك المؤمن الذي يراعي إيمانه، وما يقتضيه هذا الإيمان، وما يتحقق به".
لقد بنيت الكثير من العقليات، ورسخت العديد من القناعات وفق تأويلات فردية، واجتهادات شخصية، قد تكون راجعةً لظروف معينة، أو لحالات محددة، أو أفهام مختلفة ومن ذلك عادات مريضة يتبناها البعض بحجة أنها من أوامر الدين، وتفضيلاته، وواجباته، وهي في الأصل مناقضةً حتى للنص القرآني..!! لا نريد أن نذكر أمثلةً عليها؛ لأنها مما سيُثير علينا بعض العقليات التي لا تقبل الحوار فيما ترسخ في عقلياتها على ارتباط هذه العادات السقيمة بالدين..! عقليات كما يصفها الكاتب محمد عثمان برياح الشرق "مثقلةً بشحنات الانغلاق والتعصب والسطحية، تلك الرياح التي حاربت سنة طبيعية من سنن الخلق والتاريخ الإنساني، وهي سنة التجاذب والاحتكاك الفكري والمعرفي".
وعلى السياق ذاته، فإن بعض العادات القبيحة قد نسبت للدين، وهي في أصلها عادات اجتماعية قد تتعلق بفئة من الناس، أو جماعة من الجماعات، تعودوا عليها بحكم بيئة، أو حالة من الحالات، ثم إنها أضحت منسوبةً إلى الدين يعد الخروج عنها خروجاً على الدين..!! وهي في حقيقتها إفرازات ثقافات سقيمة تعاطت مع الدين بمناظير محدودة، وتصورات ضيقة، حسبت على الدين، ونسبت إليه، وهي أبعد ما تكون عنه، بل إن الدين لا يقبلها في فطرته السليمة.
إننا حين نتحدَّث في موضوع تنقية التراث الفقهي، فإننا ننطلق من نية خالصة، وغيرة لا يزايد عليها أحد من أجل نبذ كل شائبة من الشوائب علقت بالدين وما هي منه، بل هي نتيجة أفكار سقيمة، أو اجتهادات غير موفقة جلبت الكوارث على هذه الأمة كمفاهيم الجهاد، والولاية والبراءة وبلاد الكفر، ومسألة تطبيق الشريعة...وغير ذلك من المفاهيم.
والدَّارس للقناعات التي دفعت الكثيرين إلى إحراق أوطان، وارتكاب فضاعات ومجازر باسم الدين يجد أنهم ينهلون من إرث فقهي سقيم، بني بعضه على جهل مدقع بالدين، وقد تحدث في الأمر الكثير من الباحثين علانيةً بعد أن عانت الأمة ما عانت من هذه المواريث الثقيلة على أمة تريد كشف الغمم عنها!
وإذا كُنَّا بحاجة لتنقية التراث الفقهي من الشوائب، فإنَّنا نحتاج إلى أصحاب فكر مستنير، منفتح، صاحب عقل حر، ونفس علية، وشكيمة ماضية، وخبرة واسعة، لا يرى في النص ظاهر القول بل يرى فيه غائيته السامية، وأهدافه البينة، فلا يضيق الأفهام في نطاق الرأي المحدود، ولا يسجن العقل في حظيرة القول المنقول، مفكرون أولو شأن في نهضة الأمة واعتناء بمقومات حراكها الحضاري.