البَيَانُ الحَرَكِيّ والحَاكِي فِي الْقُرْآنِ (لُغَةُ الجِسْمِ أنمُوذَجًا) (1)

ناصر أبو عون


إذا كان البعض يرى أنّ (عِلم دلالة الإشارات والإيماءات والحركات الجِسمية) المسمى اختصارا (لغة الجسد) ظهر كعلمِ مستقل داخل منظومة (علم النفس) المتشعِّبة على يد الأمريكيّ (بول إيكمان) (مواليد 15 فبراير 1934)؛ مؤلف "أطلس المشاعر" الذي جمع فيه أكثر من عشرة آلاف تعبير للوجه وحاول قراءة أحاسيس الإنسان واستنباط ما يفكّر به من خلال تفسير تعبيرات الوجه. والبعض الآخر يدينون بالفضل لـ"بول إيكمان" لدوره الأكاديميّ في تأصيل هذا العلم  وتقعيد أسسه المنهجيّة. وقد سبقه (غريغوري باتسون) عالم الأنثربولوجيا في ستينيات القرن العشرين مؤكدأ على فكرة أ"ن الكلمات تستطيع أن تصوِّر أفكارًا مجرَّدة بينما تمتلك لغة الجسد وظيفة مختلفة: وهي إظهار العواطف التي تُشكِّل تأثيرا حاسما على الطريقة التي تُكوِّن بها العلاقات".
ومع بزوغ فجر القرن الحادي والعشرين أصبحت «لُغة الجسد Body Language» فرعًا معترفًا به من فروع علم النّفس، يُعنى بدراسة (أنماط التّواصل غير الّلفظي) بين البشر، ودراسة وتحليل (الحركات الجسميّة) وتفسير دلالات (الإيماءات اللاشعوريّة) التي يُصدرها الجسد، والتي تعدّ بمثابة (علامات مرئيّة) كاشفة لما نخفيه من مشاعر وانفعالات.
وفي إطار مفهوم علم النفس الإحصائي نجح العلماء في وضع خارطة تسجِّل "حركات جسم الإنسان وسلوكياته غير المنطوقة"، وتوضّح الخارطة أن الحركات الجسميّة "تمثل ما بين (60%- 65 %) من نسبة (لغة التواصل) بين البشر"، بينما تحتل الكلمات واللغات المنطوقة المرتبة الثانية إحصائيا.
و اكتشف ألبرت مهربيان في دراسة قام بها "أن 7% فقط من التواصل بين البشر تكون بالكلمات و 38% تقوم بها نبرة الصوت و 55% تعبِّر عنها "لغة الجسد"، وقالت إن الفرد يميل إلى تصديق لغة الجسد إذا تضاربت الكلمات المنطوقة مع لغة الجسد المكشوفة".
وفي هذا الإطار أكد اختصاصيو علم الاجتماع أن النّاس يُكوِّنون ما يزيد عن 90% من آرائهم حول (شخص ما)  في أقل من 4 دقائق، من خلال قراءة لغة جسده، وتفسير نشاطه الحركيّ وتحليل إيماءاته. وخلصوا إلى أنّ ما بين 60%  إلى 80%  من (الانطباعات) التي يتركها هذا الشخص في نفوس وعقول من حوله هي في الأساس غير لفظيّة.
ونخلص مما تقدّم إلى الإقرار بأنّ (فنون البيان)، و(صنوف البلاغة)، و(براعة التعبير) ليست حِكرا على اللغة المنطوقة، وليست مقصورةً على الألفاظ المسبوكة، وأنّ التصوير بالمعاني ليس مسجونًا في اللغة المتخيَّلة، والانزياحات اللغوية المقصودة.
ويساند تصوّرنا هذا ما ذهب إليه البروفسور علي ثويني بأن "عناصر التشكيل المعماري/ الهيئات الجسميّة وحركاتها ترسل إشارات توحي بمعنى يشتمل مضمونا ويظهر شكلا،  فهي لغة ظاهرة التكوين لكنها خفيّة المعنى، غير صائتةٍ أومسموعة، وتدل، وتسرّ، وتشير، وتنبّه وتنطبع.  إنها ليست صماء، فهي تبثُّ المعنى بلفظ غير منطوق، فيتيسر للعين قراءتها بصريا،  وللعقل استقبالها إدراكا، و للنفس استيعابها مضموناً، و للفكر محاورتها سِجالاً.
ويتابع"إن القراءة البصريّة توفر إحساساً يصدره ضوء المعنى، فيتآلف الإحساس بالمرئي حدَّ التشبّع.  ويصبح الحقل البصريّ عندئذ مجالاً تنعكس عليه صفات الموحي (المرسل للإيحاء كالأشياء والعناصر المعماريّة والتشكيلية)، ومن ثَم يتألق المعنى الإيحائي، فيصير تَمَثُّلُ مظهرِه ممكناً، و تَفَهُّم كناياتهِ متاحاً، و إدراكُ استعاراتهِ متيسراً، و استيعابُ مجازاته مقبولاً".
بل إنّ الباحث يوسف عبد الله الأنصاريّ الأنصاري في دراسته المعنونة "البيان الحركي"؛ ذهب إلى أبعد من هذا فأكد "أنّ التصوير بالحركة يُعدُّ طريقاً من طرق الإبانة والتعبير عن المعنى، وهو بذلك يدخل في صميم التصوير البيانيّ لقدرته على تشخيص المعاني المجردة في صور محسوسة بارزة للعيان".
إلا أن هناك خللٌ في تقعيد مصطلح هذا العلم الناشيء والمستحدث والشائع بين العوامِ ومِن قبلهم في الأوساط الأكاديمية الغربيّة تحت مصطلح "لغة الجسد "Body Language، وربَّما يكون الخلل ناشئًا عن ضيقٍ في الأفقِ اللفظي للغة الإنجليزيّة وعجزها عن التفرقة بين مفردتي (الجسم) و(الجسد) من حيث المبنى والمعنى، وهذه الخاصيّة امتازتْ بها اللغة العربيّة عن سائر لغات العالم الحيّة والمنقرضة، وتفرَّدَ القرآن بها، وبَزّ فيها سائر الكتب السماويّة.
 إن إطلاق مصطلح "لغة الجسد "Body Language على الحركات الجسميّة تسمية خاطئة نَقَضَها القرآن (لفظًا ومعنى)، حيث انطوى المصطلح المنقول من الإنجليزيّة إلى اللغة العربيّة على خطيئة لُغويّة وقع فيها المُترجِم الأول، حيث لم يتبين الفروق في الدلالة والمعنى بين كلمَتي (جسد) و(جسم) في العربيّة. فالــ(جسم) والـ(جسد) كلمتان متقاربتان في الحروف وفي المعنى، و المتدبر للتعبير القرآنيّ يجد البون شاسعًا بين هاتين المفردتين؛ فلكل كلمة معنى يغاير معنى الكلمة الأخرى، ويؤكد على نفي الترادف بين (الجسد والجسم) كما يرى البعض.  ونسوق هنا لطيفةً قرآنيةً أشار إليها د. صلاح الخالديّ مشيرًا إلى أن كلمة {جسد} في السياق القرآنيّ وردت صفة للجماد، وللميّت، ونُفِيَت عن النبيِّ الحيِّ المتحرِّك، وبهذا نعرفُ الفرق بين (الجسم والجسد) في القرآن. فـ(الجسم) يُطلقُ على (البَدَن) الذي فيه حياةٌ وروحٌ وحركة. و(الجسدُ) يطلقُ على (التمثالِ الجامد)، أو (بدن الإنسان) بعدَ وفاته وخروجِ روحه.
ولمزيد من التوضيح أسهب د. صلاح الخالدي مؤكدًا "أن كلمة (الجسم) وردت مرتين في القرآن: قال تعالى عن (طالوت) مبيناً مؤهلاته ليكون ملكاً على بني إسرائيل: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ }. [البقرة: 247]. وقال تعالى عن اهتمام المنافقين بأجسامهم على حساب قلوبهم، واهتمامهم بالصورة والشكل على حساب المعنى والمضمون: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ} [المنافقون:4]
وأسهب د. صلاح الخالديّ شارحًا "نلاحظ من الآيتين أنهما تتحدثان عن الأحياء، فطالوت ملك حيٌّ، والمنافقون أحياء يتكلمون. أما كلمة {جَسَد} فقد وردت أربع مرات في القرآن، وردت مرتين في وصف العجل (التمثال) الذي صنعه (السّامِرِيّ) من الذهب لبني إسرائيل، ودعاهم إلى عبادته، مستغلاً غَيبة موسى عليه السلام. قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ ۚ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ۘ } [الأعراف: 148]،/ وقال تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ (*) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}. [طه: 88/89] وأُطلقت كلمة الجسد على ابن سليمان عليه السلام الذي وُلِدَ مَيتاً مشوَّهاً، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص : 34]؛ فالآية تتحدث هنا عن جسد ألقي على كُرسي سليمان – عليه السلام – لا روح فيه ميتًا كان أو غير كامل الخلقة".
لكن يتوجب الحذر هنا من تعميم النتائج، أو التسليم بأن لكل (حركة جِسمية) معنى واحدًا، أو القول بأن حركة مثل (غمزة العين) تشي بمعنى يمكن حملُه على وجه واحد. فالحركات الجسميّة مثل الكلمات لا يمكن تفسيرها إلا في سياق الحدث. وهي لغة وردت في القرآن الكريم غنيّة بدلالاتها ورسائلها التي ينبغي أن تراعَى الدِّقة عند محاولة تفسيرها، وذلك بحُسن قراءتها، ووضعها في السِّياق الذي وردت فيه.
يقول محمد قطب عبد العال "إنّ التصوير الفني بدلالاته المصاحبة يعتبر أحد الأدوات التعبيرية المميزة في القرآن الكريم، فالتصويرُ يحيل المعاني المجردة والذهنيّة، والمشاهد، والمواقف، والوجدان إلى صورٍ تنبضُ بالحركة بظلالها الحركيّة والصوتيّة واللونيّة، فتبدو شاخصة مُحَسّة – مؤثرةٌ في النفس، بالغة غاية التأثير".
وإذا كُنا اتخذنا من (التصوير الحركيّ)، أو ما يسمى بدلالات التعبير بـ(لغة الجسم) موضوعًا لـ(معجم البيان الحركي والحاكي في القرآن الكريم)، كي نجمع من خلاله مواضع البلاغة والتبيان في القرآن الكريم فهذا ليس مدعاةً إلى القول بأن "مجالات الإعجاز مقصورةً على الجانب التصويري الإبداعيّ فحسبُ فهذا عينُ الخطأ والخطيئة. فقد أشار صاحب كتاب (القرآن الكريم.. كتاب أحكمت آياته ج 4 ص 77) في هذا المقام إلى لطيفةٍ فنيّة تستوجب الانتباه إليها بقوله: "إنّ  وصف القرآن بالمعجزة الأدبيّة، يجعل من القرآنَ كتابَ أدبٍ ولغةٍ وبلاغةٍ، في حين إنّه كتابُ تشريعٍ وتعليمٍ وتنظيمٍ ومن الطبيعيّ أن يكون، - وهو كلام خالق البشر وآدابهم ولغاتهم وبلاغاتهم-، معجزًا في أسلوبهِ وصياغةِ تراكيبه وتعابيرِه وفوق كل التعابير والتراكيب".
إذن القرآن مُعجزٌ في (أسلوبه وصياغة تراكيبه وتعابيره وفوق كلّ التعابير والتراكيب)، وقياسًا على القرآن وإعجازه اللغويّ والبلاغيّ فعندما نأتي إلى ميدان (الأدب الإنسانيّ)، و(فنون القول) في سائر اللغات والآداب العالميّة سوف نجد الشعراء والروائيين والمشتغلين بالكتابة يتفقون على مبدأ واحد لا يحيد ولا يشذُّ عنه مشتغِلٌ بالأدب في سائر الأقطار وهو أنّ (استخدام اللغة أدبيًا يختلف عن غيره من الاستخدامات)، وهو ما ذهب إليه الناقد عبد الجواد خفاجي بقوله: "مبدأ الدِّقة في استخدام اللغة، سمةٌ إنسانية، يتأكد بها الوعيُّ باللغة، كما تتأكد بها سمة الإنسانية نفسها، وكل عاجزٍ أمام الدَّقة في استخدام اللغة فإنه لا يؤكد عجزه أمام اللغة وحسبُ، وإنما ينتقص من إنسانيته في المقام الأول" و"على الأديب البعد عن مألوفات استخدام اللغة، وشيوعها، فالمشاع ليس للأديب، وإنما لغيره ممن يبحثون عن الفهم وحسب؛ لذلك من المهم أن يكون المتلقي للأدب على درجة من الحساسية المؤهلة لتذوق الأساليب الجديدة، والدلالات الجديدة التي أجهد الأديب نفسه لبلوغها".
                      يتبع.... الحلقة الثانية

 

تعليق عبر الفيس بوك