في الاحتفال باليوم العالمي للشعر في 21 آذار (مارس):

أوجه العدالة في شعر سعيد الصقلاوي (2)


أ.د/ ناريمان عساف – بيروت – لبنان


   للشعر دور كبير في تدوين  معاناة الشعوب، وأحاسيسها، وأفكارها، وّ"ذ لك لما يتميز به من قدرة على تجسيد الواقع ومعرفة إنسانية، وتجربة ذاتية، تتعلق بالإنسان في علاقته بالمجتمع،.. وبما أن الشعر نتاج لغوي، يعتمد اللغة أداة للتوصيل، فلنا أن نميّز بين شاعر وآخر، بين نص وآخر، إذ لا يمكن أن تكون الثقافة وحدها كافية للتمييز بين شاعرين، أو خطابين في آن واحد، وربما يكون السياق نفسه عاجزا عن التمييز بين خطابين منفردين لشاعرين يعيشان في العصر نفسه، لأن الشعر بطبيعة الحال- لا يخلو من خلفية تاريخية، لكن الذي يعنينا في هذا السياق هو القصد (1)، والقصد في هذا البحث هو العدالة في الشعر.
   فعلى مدى التاريخ، تعامل الشاعر مع السلطة، وكان يطرح إشكالية كبرى، تكشف عن علاقة مبتكرة معها هي من نتاج وضعه النفسي، الذي يكون على دراية بما يختمرها، وبأبعادها المعرفية، والفكرية، والأيديولولجية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، كان عليه أن يعي وعيا تاما  بحقيقة السلطة، وسطوتها، وكيف يفسّر ما يدور في خلده نحوها،ونحو ما يطرح  أثرها في المجتمع.   
  وفي جولة على تاريخ الأدب نعثر على كثير من القصائد التي طرحت مفهوم العدالة فيه، في هذا المجال، يقول الإمام الشافعي:
"إذا ما ظالم استحسن الظلم مذهبا
ولجّ عُتوّا في قبيحِ اكتسابهِ
فكِله إلى صرفِ الليالي فإنها
ستبدي ما لم يكن في حسابِهِ (2)
أمّا  الحسن بن عمر بن الحسن الحلبي فيقول:
  عن العدلِ لا تعدل وكن متيقّظا                   وحكمك بين الناس فليَك بالقسطِ
    وبالرفقِ عاملهم وأَحسِن إليِهم                      وجه الرّضا منك بالسخطِ (3).  
وعلى هذا المنوال كانت تحبك القصائد، ملقية الحكم، والنصائح على المتلقسن وكأنها تسير في هذا على نهج زهير ابن أبي سلمى.
وفي الشعر الحديث، عانى كثير من الشعراء من الظلم، سواء وقع عليهم، أو على مجتمعهم، منهم بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، ومحمود درويش الذي يخاطب المحتلّ قائلا:

  "ولكي أذكر أن لي سقفا مفقودا
ينبغي أن أجلس في العراء
ولكيلا أنسى نسيم بلادي النقي
ينبغي أن أكون معتقلا بالذكريات
  وكانت  لي يد تزرع
ترابا سمّوه يدا، وعين أبي" (4)  
إن الشعر الحديث بنى معالجة موضوع العدالة من خلال الصور، والمجازات، والمفارقة الدرامية في رسم صور متناقضة في الدلالات حولها، ومن أشهر من يتولّى هذه المهمة حديثا الشاعر سعيد الصقلاوي.
أولاً: الحرية ولا التبعية في قصيدة "الأنك حرٌ تعدم":
في قصيدة " الأنك حرٌ تعدم " يقول الشاعر سعيد الصقلاوي:
هــــــل مكتــــوبٌ
أن تبقى تحــتَ النعـــلِ
وتحـــــتَ السحــــــــلِ
وتحتَ حصار الضغطِ
وبيـنَ نيــــوبِ الخوفِ
وتحـــت َشفاه ِالسيــفِ
وفوق جبينُك قهرٌ يضرم ْ؟
ألأنكَ حرّ تعدمْ؟ (5)
 إنهما التبعية والحرية عنوانان لا يتقاربان ، ففي ظلِّ ذوي المصالح (ماسحي الجوخ)، يصبح الوطن رهنًا لأهوائهم ، فالوصوليون يلوّثون المخلصين الأحرار، الذين تأبى كرامتهم التذلّل.
إن صيغة السؤال مترادفة مع الجملة المصدرية " أن تبقى تحت النعلِ " تلامس الحس بالصورة التي ترسمها، لأنها مجازعقلي يدلّ على سحق الإنسان الشريف، وتكرار المكان (تحت) ثلاث مرات يؤكد الدونية وحصار الأحرار بشتى الطرق : بالسحل ، وبحصار الضغط .. إن موسيقى القافية الشعرية (ب ، ل ، ط) تشعرنا بالطرق، لنفاجأ بالاستعارة "نيوب الخوف"، وهنا صورة لابتلاع المبدع غير المنتمي.
هذه هي مأساة كل عربيٍّ يعيش في ظل انعدام المساواة، نتيجة لتكريس الطائفية، أو الحزبية.
الخوف يصبح هاجس لا المنتمي ، فهو أشبه بالفريسة المهدّدة بالابتلاع ، ليس هذا فحسب ، بل إن الشاعر يضعنا في صورة أقسى، ألا وهي "تحت شفاه السيف" الدالة على تهديده بصورة مستمرة. إن الظرفين "بين ، تحت"، متآخيين مع كلمتي الخوف والسيف ، يشكلان حقلاً معجميًا، يعتريه رنين جرس الإنذار، وتهديد هذا الإنسان الذي يكره العبودية، والذي لم يتبق له سوى العبوس المرتسم على جبينه الذي تجلى بالاستعارة: "قهر يضرم".
 يلاحظ هنا أن فعل (يضرم) مبني للمجهول، ونائب الفاعل هو "القهر"، فالفاعل مجهول والإضرام مستمرّ ، ولكن لم نشعر بالاشتعال، فالهول واقع بين الظرفين: "فوق وتحت" وأخيرًا بعد سلسلة الصور المندمجة بالسؤال، هل يأتي الجواب في صورة الأحرار في العالم ، الذين يأبون أن يكونوا أذيالاً لأهل السلطة؟ وهذا الجواب يأتي بصيغة سؤال: العارف، فالألف أداة الاستفهام أتت مضافة الى أداة النصب (لأن) التي تفييد السببية، والسبب هو الحرية وجزاؤها الإعدام.
وفي الحرية حياة، وضوء وفرح، أما في الإعدام فموت وعتمة وحزن، وهذه هي نتيجة ترسيخ محاربة لا المنتمي.
في المقطع الأول من القصيدة، يخيل إلينا أن الحر هو المواطن لا المنتمي،  ولكننا نتفاجأ بصور جديدة مبينة في المقطع الثاني، فيصبح الحر هو الحاكم الذي لا يرتبط بأي دول مستعمرة، أو طامعة، ونتساءل عن جزاء هذا الحر، الذي ناله أي الإعدام، هل هو فعل حقيقي، أو مجازي؟
فيكرر السؤال: ألأنك حر تعدم؟
والواقع أن لهذا التساؤل تأثير متأتٍ من خلال الصيغة الخطابية، والأسلوب المباشر في رسم صورة واقعية، والوقع الأكبر في التأثير سببه القافية التي تنتهي بروي حرفه مجهور عددْ (4): ب – ل – ل ط ، يتبعه روي حرف (ف) عدد (2) ثم يلحق بروي حرفه الميم ، عدد (2) .
وفي المقطع الثاني يعدّد الشاعر سعيد الصقلاوي نتائج فساد وطغيان الدول المستبدة والمعتدية:
               " سرقوا من أهدابِ الأطفالِ الصُّبحا
               وسقوا أزهارَ الأيامِ الملحا
               صلبوا في دفقِ النبضِ الحلمَ وناحوا
               حرقوا في الشريانِ الأفراحَ وصاحوا
               فالنهرُ دمٌ " (6)
  المعجم اللغوي لهذا المقطع، في البيت الأول والثاني، يُعبّر عن هدوء وسكينة، وفي الأبيات الأخرى تصبح الكلمات أكثر قسوة وحدّة يخدشها فعل سرقوا، والاستعارة المكنية "سرقوا من أهداب الأطفال الصبحا" تشرح وضع الأيام التي كانت ساكنة وبريئة، فأصبحت على يد الظالمين ظلامًا دامسًا، وفي البيت الثاني استعارة أخرى مكنية أيضًا، تبدأ بتفصيل أعمال الظالمين المؤذية، فعوض أن يعملوا على ازدهار البلاد، يعملون على أذيتها، وجعلها مالحة، ليس فيها أزهار؛ ثم يتابع بشرح الأذى الذي قامت به الدول المعتدلة، فتأتي استعارة أخرى قاسية في وقعها في الإحساس: "صلبوا في دفق النبض الحلم وناحوا" ودفق النبض هو الشعور بالحياة، والاندماج بها من خلال الحلم، وقد جسّد الشاعر الحلمَ المجرد، فقال إنه صلب على أيد الظالمين، وترك ، ليموت ببطء. ليس هذا فحسب بل إن المؤذين ناحوا، كي يظهروا أبرياء من أفعالهم القذرة؛ ويتبع هذه الصورة الشعرية المعبرة صورة أخرى في البيت الذي يليها، فتمتد اليد التي صلبت الحلم الى الشريان ، لتحرق فيه الأفراح، ليس هذا فحسب، بل إنهم صاحوا فرحين: فالنهر دم.
نلاحظ أن هذا المقطع  مؤلف من جمل فعلية، فيها حركة وحيوية، والأفعال أتت فيه متعدّية، بصيغة الماضي، متصلة بواو الجماعة ، والحروف أتت فيها متجانسة: "سقوا سرقوا، صلبوا، حرقوا" . حرف القاف القوي كرّر أربع مرات في هذا المقطع. والحاء (الحرف المهموس) كرّر سبع مرات، وفي هذا ايحاء الى ان فعل الإجرام طال كل همس وسكينة.
وهذا الإجرام أدّى الى تحويل نهر الماء إلى نهر دماء.
ويتصدر القسم الثاني للمقطع الثاني صورة مخيفة وهي "والليل فم"، فهذا التشبيه البليغ أفضل تعبير، وفاتحة لسرد أفعال المجرم الشنيعة.
   
            " والليل فم
               للأصوات المشنوقة فوق الصلبان
               للأحزان المرسومة فوق الجدران" (7)
إن انعدام العدالة في التعامل مع الحاكم الحر، يطال شعبًا كاملًا، وسواء كان هذا الظلم جاهرًا صوته من خلال احتجاج الشعب الذي يصرخ،  فالأصوات لا تصل، لأن الشعب يُغتال مع حاكمه، والأحزان تُرسم فوق الجدران من خلال الدماء التي تلطخها، وينتقل الشاعر الى رسم صورة الحاكم المحكوم عليه بالإعدام ، فإذا بالليل الذي عمّ حياته ، يسرد شكل محاكمته، فيتغير حينئذٍ الحقل اللغوي من صيغة الجمع إلى صيغة المفرد.
.........................
المصادر:
(1)    د. ناظم حمد السويداوي، الرؤية والتشكيل في الشعر العربي، دار العلوم العربية، بيروت، لبنان، 2016، ص، 38، 39.
(2)    الإمام  الفقيه أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي،جمع وتحقيق ودراسة الدكتور مجاهد مصطفى بهجت، طبعة دار القلم الأولى، 1420،1999ا،ج1.
(3)    عمر بن الحسن ، نسيم الصبا، مطبعة الجوائب، قسطنطينية، ن1302،   ص، 110-111.
(4)    المجموعة الكاملة لمحمود درويش،  ج2، المزامير، ص 28.
(5)    سعيد الصقلاوي، نشيد الماء، مطابع النهضة ، مسقط 2004
(6)    نشيد الماء ، ص 70
(7)    نشيد الماء ، ص 70

 

تعليق عبر الفيس بوك