الاختلاس .. وتعزيز الأمن الاقتصادي

 

فايزة الكلبانية

فجرت عملية اختلاس قام بها مدير فرع إحدى شركات التمويل الكبرى، وهو من جنسية آسيوية، تساؤلات حول منظومة الأمن الاقتصادي في بلادنا، إذ أوضحت التحقيقات الداخلية للشركة أنَّ قيمة المُخالفات غير الاعتيادية التي ارتكبها "المدير الهارب" تصل إلى 1.35 مليون ريال!!

ولذلك تضاعفت علامات الاستفهام حول هذه القضية وما قد تسببه من خسائر للمساهمين في الشركة والاقتصاد الوطني، وما إذا كانت هناك ضرورة مُلحة لتدريب موظفي البنوك والشركات، وبخاصة شركات تحويل الأموال، على الإجراءات المتبعة في حالات تحويل أموال طائلة، أو الاختلاسات.

وهنا نسأل أين دور الجهات الرقابية المعنية إذا ما  تبين أنَّ هذه الأموال تم تحويلها عن طريق البنوك التجارية؟! فمن غير المعقول أن يتم تحويل مبلغ كهذا بعيدًا عن الأعين الرقابية في البنوك ولو على دفعات أو غيرها من الطرق. فهل يوجد تنسيق بين الجهات المختصة في حالات مشابهة لمعرفة مصادر هذه الأموال في حال تم الاشتباه بمصدرها؟ هل جاءت بالسرقة أو الاختلاس أم بطريقة شرعية؟ وعلى سبيل المثال كيف يُمكن لموظف يتقاضى 1000 ريال عُماني، أن يتوافر في حسابه البنكي مبلغ 100 ألف ريال عماني وأكثر بين عشية وضحاها؟! كيف إذن استطاع الحصول على هذه المبالغ؟ وسؤال آخر، في حال أن الموظف لديه القدرة على جمع مثل هذه الأموال، فكيف تمكن من الهرب بهذه السهولة دون أن يتم اكتشافه؟

أسئلة كثيرة تقفز إلى مخيلتنا تجعلنا في حيرة من أمرنا، نضرب أخماسا في أسداس.

في العديد من دول العالم، يسأل البنك العميل عن مصدر أمواله، ويتم فرض ضرائب عليه، فأين نحن من هذه الدول وهذه النظم الضريبية؟!

غالباً ما يكون الأمن بمفهومه العام هو النوع الأكثر شهرة، لكن مما لاشك فيه أن ثمة أمن آخر أكثر أهمية، وهو "الأمن الاقتصادي"، من خلال فرض قواعد منظمة للأسواق والتعاملات المالية، بما يضمن حفظ المصالح الاقتصادية الوطنية، وكشف المخاطر والتهديدات والسرقات المالية والاختلاسات. فالأمن الاقتصادي جزء مهم من الأمن الوطني لبلادنا، ولا يمكن أن ينفصل عنه. وعلى الجهات المسؤولة أن تضع هذا الأمن في مقدمة الأولويات كغيره من القضايا الأمنية الاجتماعية والصحية والبيئية، وهي الخطوة التي من شأنها أن تعزز الأمن القومي بصفة أشمل وأعم. فمثل هذه الاختلاسات والسرقات المالية الكبرى، تضر بأمننا الاقتصادي، وتستنزف مقدرات الوطن، وتنعكس سلبياً على مناخ الاستثمار.

ويرى قانون الجزاء العماني، أنَّ الاختلاس جناية تصل عقوبتها إلى السجن 5 سنوات وغرامة توازي قيمة الأموال المختلسة، لكن فقط في حال كون الجهة المختلس منها حكومية أو تساهم الحكومة بنسبة 40% من رأسمالها فما أعلى. وبعد اطلاعنا على نص المادة 213 في الفصل الرابع المعنون "الاختلاس والإضرار بالمال العام" من القانون المذكور، فإنه يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن (3) سنوات، ولا تزيد على (5) سنوات، وبغرامة مساوية لقيمة المال موضوع الجريمة كل موظف عام اختلس أموالاً عامة أو خاصة أو ما في حكمها مما هو في حيازته أو تحت إدارته بسبب وظيفته أو بمقتضاها. وإذا حصل الاختلاس بالتزوير أو استعمال محرر مزور تكون العقوبة مدة لا تقل عن (5) سنوات، ولا تزيد على (10) سنوات، وفي جميع الأحوال، يحكم على الجاني بالرد والعزل من الوظيفة، والحرمان من تولي الوظائف العامة بصورة مطلقة.

بينما في حال كون الشركة خاصة أو مساهمة عامة فإنَّ القضية تعد جنحة ولا تزيد العقوبة القصوى فيها على 3 سنوات سجن والحد الأقصى للغرامة ألف ريال عماني، وتقع في إطار "إساءة الأمانة" بحسب المادة (360) التي تقول: "يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن (3) أشهر، ولا تزيد على (3) سنوات، وبغرامة لا تقل عن (300) ريال عماني، ولا تزيد على (1000) ريال عماني، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من سلم إليه نقد أو أي منقول آخر على وجه الإعارة أو الوديعة أو الوكالة أو الإجارة أو الرهن أو اؤتمن عليه بأي وجه كان، فأقدم على كتمه أو إنكاره أو اختلاسه أو تبديده أو إتلافه".

ونظرًا لكون المدير الهارب غير عُماني وغادر البلاد بالفعل، فإنَّ الإجراءات القانونية في هذه الحالة ترتبط بالاتفاقيات الموقعة بين السلطنة والدولة التي يحمل المتهم المحتمل جنسيتها، فإذا كانت هناك اتفاقية بينهما يمكن محاكمته في بلده بهذه التهمة، أو في حالة وجود أدلة تثبت ارتكاب المتهم للواقعة فيمكن للجهة المتضررة أن تطلب مخاطبة الشرطة الدولية "الإنتربول" بعد تسجيل البلاغ وتقديم الأدلة الثبوتية، والتي بدورها تتيح لها إصدار مذكرة اعتقال في كافة الدول المنضمة لها لضبطه وتسليمه للجهة الطالِبة.

في السنوات الأخيرة الماضية، وعبر مختلف وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي كثيرا ما تعالت الأصوات بنماذج من قضايا الفساد التي قام بها عدد من كبار المسؤولين واختلاسات بمبالغ طائلة كبدت الوطن خسائر اقتصادية فادحة، وعلى مدار سنوات، مستغلين ثغرات ربما أو ثقة زائدة عن الحد من قبل الشركات التي يعملون فيها، أو حتى غياب الأطر التشريعية الرقابية، وتقاعس البعض عن محاسبة أمثال هؤلاء.

من المؤكد أنَّ قضايا السرقات والاختلاسات المالية والفساد المالي، من أسوأ ما قد يواجهه أي اقتصاد لأي دولة، فأحد أردأ الحروب التي قد تخوضها دولة ما، الحرب الاقتصادية، التي يتم فيها تهديد مصالح الدولة الاقتصادية عبر مثل هذه العمليات، رغبة من الطرف الآخر في الإضرار بهذه المصالح.

faiza@alroya.info