في الاحتفال باليوم العالمي للشعر في 21 آذار (مارس):

السِّحر المُخدِّر،، قراءة في نص (غادة سعيد) (2)

جمال قيسي – العراق


سأوجز ما أنا مقدم عليه في التحليل الفني بخلاصة نتوسع بعدها تطبيقيًا على النص؛ لنمسك  الاستفتاح السردي الذي أزعم!!
في اللعبة السردية تختط (غادة سعيد) أمر في غاية الجدة ومع  إن المقطع قصير إلا أنها تستفتح أسلوبًا جديدًا بالمرة، وهو ما سنتناوله في  تأشيرنا لـ(وجهة النظر) التي  تكون من الخلف للسارد العليم، في بداية المقطع تمتزج  معها المفارقة الزمنية في الاسترجاعات، فيما تتلاشى الاستباقات، لتظهر لدينا لاحقًا، بشكل مفاجئ، وفي منطقةانتقالية يظهر لدينا  السارد الضمني، وهو الصوت الذي يسرد الرسالة في جهاز الهاتف وهذا السارد الضمني يشكل أيضًا(وجهة النظر) من الخلف؛ أي بمعنى سارد عليم، لكن اتجاه الحكي معاكس، حيث تلتقي الاسترجاعات الزمنية مع  استرجاعات السارد الرئيس، لتتقاطع في نقطة وسطية وتختلط وتتوحد لدينا المساحة المأبرة وتنتظم لدينا المفارقتين الزمنيتين باسترجاعتهما، لتظهر المساحة الزمنية كاستباق، رغم رهونية اللحظة، ففي فائض المعنى، هي لحظة مستقبلية، وسنؤشر قضيتي الوصف والمكان ضمنًا.

في بداية النص نؤشر الاسترجاع الزمني
(كنت أستعيد مجد الشمس والزيتون وقامة الشعير الذي لم يتحسس قامته بعد، وزهور النّعمان، مع بداية اخضرار الحقول وتعطل الرياح.. على كرسي متحرك، كنتُ وصمتي الممتد الذي يغطي زماني) مجرد استعادة الذكريات، هي عملية (مفارقة زمنية استرجاعية) لحد اللحظة الأمر يمر بسلام، لكن القدرة الوصفية على لسان السارد الأول تتمخض عن تراكبية، لتفضي إلى شاعرية في غاية التعقيد، في تداخل البنى والوظائف،من خلال تجاور، وتفاوت،وإلزام ؛وهو ما ينمّ عن قدرة سردية فذّة؛ فالشمس والزيتون وقامة الشعير،وزهور النعمان، نسق يبدو منتظمًا،لكن السارد أسس للشاعرية مسبقًا بلفظة المجد ليعطي كل ملفوظ وظيفة، إسقاط  الشعور  على الأشياء  تمنح  الدلالات  كفعل وظيفي،  ففي واحدة  من ملاحظاته. النابهة. أشار. رولان بارت  عن  الوظائف  كونها  تكمن  في الطابع. الشمولي الذي يتخذه  البحث. على اعتبارها   البنى. ووظائفها  وحدات  تُكوِّن  كل أشكال  الحكي  ولاتنحصر الوظيفة  في الجملة، فقد تقوم كلمة  واحدة  بدور الوظيفة  في الحكي.  (١) لنطبق  ما أسلفنا (تجاور، تفاوت الزام) ففي  عبارة (كنت  استعيد مجد الشمس) أشرنا أولًا  الاسترجاعات  الزمنية وثانيًا  تجاور الملفوظات  لتشكل جملة سردية  تؤدي  وظيفة  شاملة.  وتفاوت لأنه في حال عزل كل ملفوظ  سيكون بوظيفة خاصة به وإلزام هو صياغة وتوجيه الوظائف  لغاية بمعنى الأوقات الرائعةن والزهو الشبابي، ومجد الشمس والزيتون، إحالة ضمنية سيمولوجيًا، إلى العمق الحضاري،للبيئة، التي تؤدي بِنَا إلى مجد هذه الأرض المرتبط  بمجد  الإمبراطورية  الرومانية ،في أيام علو كعبها، جغرافية المكان هنا (حوض البحر المتوسط).  مع إن الروائي ربما لم يكن متعمدًا، لكن هذه الإحالة، تنتظم وفق المنظومة الرمزية اللاشعورية، التي تتسلل، إلى ثنايا  الخطاب،أشبه بعملية التسلل الرمزي في الأحلام، إذ أن عملية الأدب وصناعته لا تبتعد عن اللاشعور الجمعي في بعض ترميزاتها؛ إنها الشفرة القادمة من أعماق التاريخ الإنساني، والمتضمنة في لا شعورنا ، عن أي مجد  يتكلم السارد، ففي الانفتاح على الأنساق الخارجية للنص يقفز بِنَا إلى أن الأرض  التي  ينتمي. إليها  شهدت الظهور الحضاري الكبير، في حقب عديدة، الإنسان هو ذاته ،لكنه في زمن انكسار شخصي وعام. وفي لحظة تأسي يستعيد مجد هذا الحيّز
مع الانتباه إلى قضية في غاية الأهمية وهي موضوع التمييز بين المتن الحكائي والمبنى الحكائي، مع إن هذا المقطع السردي ينتمي إلى  سرد السيرة ذاتية، إلا أن تمكّن الروائية (غادة سعيد) من الأسلوب السردي  أعطانا نموذجا  على صغره  تطبيقًا للشاعرية التي تميز السرد، حيث يتخطى التقريرية، إذًا سنحدد المميزات الشاعرية في  النص: لقد أشرنا إلى المتن الحكائي  (fable) وهو مجموع الأحداث المتصلة فيما بينها والتي تكون مادة أولية للحكاية، أما المبنى  الحكائي (sujet) هو القصة نفسها، ولكن بالطريقة التي تفرض علينا على المستوى الفني، ذلك أن الروائي ليس من الضروري أن يتقيد بالترتيب الزمني والحدثي للقصة كما جرت في الواقع، فهو يعمد إلى التقديم والتأخير والتلاعب بالمشاهد  وهذا يسمى (المبنى الحكائي) وفي أغلب الأحيان  "الحبكة الحكائية  " (2)
إذًا المبنى الحكائي هو خارطة الشاعرية، والتي سنلتقط، العبارات التي، مارست الشاعرية (بوطيقيا)  
{لكن جنون الأمل كان يجرفني بعيدا... رغم كل شيء كان يجرفني...
كان يهمس لي أن لا قوة في الأرض ولا في السماء يمكنها انتزاعكِ مني}.
{كنت كطائر الفينق الذي فقد الذاكرة ولم يشعر أبدا أنه احترق منذ زمنٍ طويل، وأنه خارج لتوه من الرماد، منبعثا في كامل اناقته وتألقه}.
{ هل تتذكرين يوم وعدتكِ، أنني سأجد قطع غيار بديلة، تعوض قطعا أتلفها السكري في بدنك الأسيل،}
{إن علاقتي بكِ، هي علاقة الهزيمة بالنصر}
(نص غادة سعيد)
كنت أستعيد مجد الشمس والزيتون وقامة الشعير الذي لم يتحسس قامته بعد، وزهور النّعمان، مع بداية اخضرار الحقول وتعطل الرياح.. على كرسي متحرك، كنتُ وصمتي الممتد الذي يغطي زماني
كما تغطي اللحية الخفيفة وجهه أسمري.. استعنت بنظارتي الشمسية لاكتشاف سحر اللحظة، فاجئتني  رسالة الكترونية على هاتفي المحمول:
إلى تلك التي سكنت العقل والوجدان:
ها قد مرت فترة طويلة دون أن اتحدث إليك. لست ادري ما الذي حدث؟ حقا لست أدري.!
أخبرتك ذات مرة، عندما هربت من وطن جاحد ودين فاسد، يومها قضينا معا تلك الليلة المفعمة بالأشواق والأحزان والدموع..
تلك الليلة التي احتفت فيها دواخلنا الهشة المبعثرة بعرس الدم والألم.. هل تتذكرين أني قلت لك بأني أصبحت أتجنب وقوع عيني على عينيك؟ أتعرفين لماذا؟
حتى لا يتكرر ذلك المشهد الرهيب الذي تكرر  قبل سفري. لقد كنت أعرف أن فكرة الرحيل بالنسبة لمغتربٍ مثلي واردة في أي لحظة، لكن جنون الأمل كان يجرفني بعيدا... رغم كل شيء كان يجرفني...
كان يهمس لي أن لا قوة في الأرض ولا في السماء يمكنها انتزاعكِ مني. وأنتِ، هل كنت تعلمين ؟ أكيد أنكِ كنتِ عاقدة العزم، على الرحيل من دوني!..
لكنكِ فضّلتِ أن لا تتحدثي عن عزمك أبدا، لأنك كنت تعرفين مدى جنوني. تعرفين روح المحارب التي تسكنني...
كنت كطائر الفينق الذي فقد الذاكرة ولم يشعر أبدا انه احترق منذ زمنٍ طويل، وأنه خارج لتوه من الرماد، منبعثا في كامل اناقته وتألقه. وأشعر فقط بجمالكِ وقربكِ. وأنّي هكذا كنتُ دائما.
ذاك الطائر الذي لم تعرف عينه معنى القبح أبدا ولا قلبه معنى الخوف أو الوحدة او الألم. لم أنتبه للنظرات التي كنتِ ترمقينني بها. ولم أدرك مغزى رموزها وإشارتها. لم أفهم الخطابات التي كانت تخترقني من عيونكِ التي امتزج فيها الفرح بالحزن... الأمل باليأس.. والخوف من الرحيل واستحالة ايجاد هدية تليق بجسدكِ الفاني..
حبيبتي و كل أيامي:
هل تتذكرين يوم وعدتكِ، أنني سأجد قطع غيار بديلة، تعوض قطعا أتلفها السكري في بدنك الأسيل، ذي السوالف الطويلة والفاحمة...
أعرف أنكِ، اللآن تقرأين هاته الكلمات، بعيون يستوطنها دمع فرحٍ، وتبتسمين في خجل ويداك تمنعان شفتيك من السقوط على الإيميل لتقبيل هديتكِ... مع أني أجزم القول: لو كنتِ في صحة جيدة،  لن تنمعك الفرحة من الاحتفال في الأماكن المغلقة كالعادة.
ببساطة، حبيبتي، لأنكِ لا تكرهين إلا الظلال وأنتِ معي.. يا لئيمة حظي... (أضحكُ ملئ السماء)..
أخدكِ من يدكِ ، لا بل من روحكِ، ونذهب سويا، إلى جحيم فراش الحب بدم الزمن، فعشقنا ورباطنا وارواحنا لا بد لها أن تعيش أكثر  من أعمار الأنبياء والرسل.. لنحارب الأوهام الكثيرة المعششة في  رأسكِ.. مع تخليصه من فكرة الموت دوني..
أجلس الآن، داخل مقصورة القطار السريع على درجات السلم، متكئا على سارية باب النجدة. أنسج، في خاطري، الشعر والخواطر والأزجال والحـِكـَم لأرمي بها كنرد من غبار أو جمرة من لساني على شعرك المسدل على ركبتيكِ... لأختبر جمراتي ومداها العابر في التقاط اللوعة والمعنى... من سيدة قلبي وتاج رأسي المرصع بأنفاس الياسمين...
إنشدادي إليكِ لم يكن عابرا، لكنه كلي، مربوط بالرعشات. جمرة لساني وسط فمي  كمن مضغ من السواك الكثير.  فحـُمرته كافية لأقول أن القبلة في الفم واللوعة في اللسان، ثم أستدرك أنكِ تتلمـّسينها. وانتِ بعيدة عني، في دبيب حارق وحار يقود ولا ينقاد...
لن يعرف أي واحد في هذا العالم – حتى ضنونه – أن علاقتي بكِ، هي علاقة الهزيمة بالنصر، وأن صوتكِ الجريح المغموس في الوجع، مثل ريشة وسط عواطفي، خاصة وأنت غائبة عني، تئنين وأنا العاجز ساعتها على التخفيف من ألمكِ.. لألعن القدر..
أما الأن، فالقدر ابتسم لنا،.. نعم ابتسم لنا.. فجهزي نفسك، حبيبتي، لنعيش ما تبقى لنا من عمر الانبياء في ورع الحياة وعطور الجنة..

أحبكِ..
أسمرك.. في الطريق مع هديتكِ..
المصادر:
١ -  رولان بارت/ مقدمة في تحليل بنية النص ،مجلة تواصلات No8’1981
٢- نظرية المنهج الشكلي  ،نصوص الشكلانين الروس ،تَر  ابراهيم الخطيب ،الناشرين المتحدين ،المغرب،ط١ ،١٩٨٣، ص١٧٩
3 - نص غادة سعيد.

تعليق عبر الفيس بوك