في الاحتفال باليوم العالمي للشعر في 21 آذار (مارس):

فعالية الرمز في "ثورة الأشجار" للشاعر أوفى عبد الله الأنور

عبد الجواد خفاجي – ناقد وروائي من مصر

 

اعتمدت التجارب الشعرية في هذا الديوان علي توظيف الرمز ، سواء رمزية الألوان أو الأشياء، أو عن استدعاء الرموز الأسطورية والتاريخية مثل سيزيف ، والسند باد ، وكافور، أو توظيف رمزية الشخصيات الأدبية مثل : أمل دنقل وحجازي وعفيفي ، والسَّياب والسمَّاح، أو توظيف المعادل الموضوعي كتقنية رمزية يلجأ إليها الشاعر للتعبير عن مفاهيم مجردة كالعواطف مثلاً ، وهو ظاهرة  في الشعر الحديث تختصر كثيراً من الإطناب، يلجأ إليه الشاعر لوصف حالة ما ، كما أنه ينأى بالشعر عن التقريرية والكلام المباشر .
في قصيدته التي يحمل الديوان عنوانها حشدٌ من لغة رمزية تقوم عليها بنية القصيدة  من عينة: الأشجار ـ طائر ـ بلاد البرتقال ـ الطير ـ الغريب ـ الشجر الحزين ـ عقبات ـ غربان ـ سكين ـ أغنية الرماد . ولعلها رموز تتجه من حيث طبيعتها الرمزية إلي تشكيل ثنائية متنافرة: (الشجر الغافي الذي يرقب طائراً يصطفي وجها جنوبي الملامح، يشيل في أضلاع وطناً ويحن إلي بلاد البرتقال) من جهة، ومن جهة ثانبة نقيض نجد (الطيور الغريبة والعقبان والغربان التي تحط غلي الشجر الحزين)  لتبقي السكين لصيقة استخدام الطيور ، فيما تظل الأغنية الرمادية لصيقة بالطائر الذي اصطفي وجها جنوبي الملامح .
والحقيقة إن متل هذه اللغة الرمزية ما كان لها أن تؤديدورها لولا أنها تتكئ علي معطيات الذات الشاعرة وعلي رموزية أخري مستدعاة من الأدب ¬الأسطوري مثل شخصية السند باد.
أما معطيات الذات فتتمثل في تَغَيُّبها في كلمة "طائر" التي جاءت منكرة، وحضورها في كلمة"جنوبي"، ليتضح لنا أن الشجر الغافي الحزين الذي يرقب طائراً حنَّ إلى بلاد البرتقال هو من معطيات الذات الشاعرة ومكتسباتها الراهنة في واقع الحال، إذ الأشجار مفردة لصيقة بالريف ، وليتضح لنا أن الطيور الغريبة من عينة "العقبان" و"الغربان" تلك التي تحط فوق الشجر الحزين في الجنوب ما هي إلا رموز للشر الوافد ، حاملاً سكيناً يتجه بها نحو الجذور/ الأساس الذي ينبني عليه هذا الكيان الحزين في الجنوب.
الصورة الشعرية التي انبنت عليها هذه اللغة الرمزية تحمل كثيرًا من الرمزية أيضاً، فهي صورة الواقع نفسه الذي يخلِّف المفارقات والمتناقضات، فبداية هو واقع شرير يترصد الأشجار الحزينة في الجنوب على ما في مفردة "الأشجار" من رمزية تعطي مدلولها في الأصالة والعراقة ، بجانب دلالتها على الريف، ومن هنا تأخذ المفردة دلالتها باتجاه الإنسان الريفي في الجنوب.. أما المفارقة أن السكين التي من المفترض أنها أداة لذبح الطيور تصبح في الصورة أداة لاجتثاث  الجذور، فيما تتجه دلالة الجذور إلى الموروث الحضاري والثقافي للإنساني الجنوبي.
أما الأساس الرمزي  فهو شخصية "السندباد" الذي كثيراً ما اتكأت عليه القصيدة العربية منذ الخمسينيات كرمز للبطل المتغرب المسافر في رحلة البحث عن الخير والرزق الوفير، والذي يحمل في الصورة آمالا عريضة في الثراء ورغد العيش والعودة بسلام إلى أرضه ووطنه، وكثيراً ما كان يعود منهزماً، وكثيرا ما كانت تترصده المخاطر والأهوال، وكثيراً ما كانت تنقطع أخباره .. هو في تجربة "أوفى" منقطعة أخباره، فيما يظل الشجر الحزين مترقبا عودته، جاهراً بالسؤال: "يا سندباد .. هل تعود؟ " ص 90 . .. وهكذا تأخذ مفردة "طائر" دلالتها باتجاهين، إما باتجاه الذات الشاعرة المغيبة في وطنها المسيج بالحزن والشرور ، مستباحاً من الغريب الوافد، وإما باتجاه إنسان الجنوب الذي امتشق حلمه وآماله وارتحل كسندباد، ليبقى جنوبه حزيناً ينتظر عودته، ثم لتتسع رمزية الأشجار لتشمل الجنوب كله الذي تعرض لاجتثاث قيمه الأصيلة، غافيا على آماله وأحلامه التي طال انتظارها، مفتقداً لأبنائه الذين رحلوا إلى بلاد النفط، متسربلا بحزنه وأسئلته التي لا تريم، بانتظار الذي لا يجيء، عرضة لعوامل محوه واجتثاث جذوره.
وفي صراع النقائض، ومع غياب السندباد محقق الأحلام ، وبخلو المشهد من المخَـلِّص، وأمام استبداد الحزن بالمشهد تتجه الرؤية الشعرية إلى الحلم بالثورة .. هو حلم مختلف ، على النقيض من حلم الأشجار التي تحلم بعودة السندباد.. حلم الشاعر يبقى في الأشجار نفسها عندما تصنع ثورتها باتجاه المدينة/ الرمز الأخير في القصيدة الذي يعطي دلالته في السلطة ، وفي المركز المتحكم الذي يفرض سطوته على أطراف الخريطة، ولتبقَ المدينة طرفاً في المعادلة الرمزية ليس باعتبارها السالف فقط ، بل أيضاً باعتبارها النداهة التي أغوت السندباد وأغرقته في لجة الغياب.
الحقيقة أننا ـ رغم إتكاء القصيدة على هذا الجهاز الرموزي الثري ، الذي احتضن مضامين واسعة وبلورها في رؤية عميقة ـ لا نستطيع أن نغفل سقوط النص في التصريح والمباشرة أحياناً، خاصة عندما يرتفع صوت الشاعر بعيداً عن الرمز ، قائلاً: "والسندباد لا يجيب، فصمته أغنية الرماد والنحيب" صـ 91 ، وغير ذلك ثمة إلحاح على ما يُفترض أنه من معطيات الصورة وتداعياتها، فقد كرر الشاعر: "خراب العمر" ثلاث مرات، وألح كثيرا على مفردات "الخراب والأرض اليباب".
أما ما يضعضع هذا الجهاز الرموزي هو توظيف رمز "السندباد" الذي فقد قيمته الرمزية والإيحائية في المحفل الشعري منذ الستينيات، وقد أضحى مطية الشعراء.
أما مفردة "ثورة" فقد أضحت هي الأخرى بلا قيمة  أو أثر شعري مذ أضحت مطية الاستخدام السياسي، وشاعت على ألسنة الساسة؛ فكل انقلاب ـ وما أكثر الانقلابات ـ ثورة، وقتل الخصوم وسجنهم ثورة تصحيح ، واستصلاح فدانين في الصحراء ثورة خضراء، وهلم جره من استخدامات تخلط مادة "ثَوَرَ" بمادة "خَوَرَ"!!.

تعليق عبر الفيس بوك