الإنسانيّ هو الأجدر بالبقاء

أ.د/ يوسف حطيني – ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات


تماماً مثلما تعدّ زاهية طبق الكبسة.. مثلما تزيّن المائدة.. مثلما ترسم فوق جدار يوسف وراية، هكذا بأناة دودة القزّ في نسج الحرير، تنسج هدى حمد خيوط روايتها "التي تعدّ السلالم" على الرغم من تداخل الخطوط الحكائية، وتقدّم أنساقاً فنية متعددة، تتنوع بين السرد المباشر، والسرد عبر الرواية والمذكرات والأحلام والكوابيس، وتُطوّر الأحداث باطّراد دون أن تترك للقارئ فسحة للخروج من دوامة سؤال يلاحقه باستمرار: وماذا بعد؟
* * *
تشغل الساردة البطلة زهيّة مساحة الفضاء الطباعي الذي يمتدّ على نجو مئتين وسبعين صفحة، لتقول لنا حكايتها مع الخادمات في لحظة فارقة؛ حيث تغادر الخادمة السيريلانكية دارشين لتحلّ محلها الإثيوبية فانيش التي تغيّر كثيراً من مسلّمات زهيّة تجاه الخادمات؛ إذ تستطيع الخادمة كسر حصار المربّع الذي تفرضه الساردة حولها، بل تأخذها معها إلى عالم الإنسانية الأرحب، حيث يقوم كل فرد بواجبه في ظلّ علاقات إيجابية.
وعلى جانب هذه الحكاية تنمو حكايتان أخريان:
•    حكاية عامر الباحث عن أمّه بي سورا، مندمجة في حكاية أبيه حمدان، ومقدَّمة من خلال تطور الأحداث الموازية لحكاية الخادمة، ومن خلال رواية يكتبها عامر بنفسه على لسان أبيه.
•    حكاية فانيش التي تمتد من حقول القهوة الإثيوبية إلى السعودبة فالإمارات فعُمان، لتحكي عذابات تلك الخادمة ونضالها لإكمال حقّها في التعليم، ثم لإطعام أسرتها وعلاج أمّها المريضة.
وإذ تنتهي الحكاية الأولى بانتصار حاسم للإنساني على الشيئي النفعي، وتنتهي الحكايتان الأخريان بنصف انتصار يسعى إلى استكمال نصفه الآخر، تنجح الروائية في ترسيخ إمكانية التغيير في ذهن القارئ، وتحقن رؤاه بأمل، خاص أو عام، لا يبدو تحقيقه بعيداً.
* * *
وتبدو زهية في هذه الرواية قوية بما يكفي لتجمع تناقضاً يتجلّى في سفرها وحيدة للدراسة، ومنعها راية ابنتها من السفر وحيدة، وقوية بما يكفي لتكون أول فتاة في قريتها تجلس على كوشة، ص70، وأول من ترتدي فستان زفاف بديلاً للثوب العماني الأخضر، وهي على الرغم من هذه القوة تعترف، لنفسها فقط، بضعفها وبعجزها عن تنظيف بيتها في غياب الخادمة. لذلك فإنها، في مواجهة هذا الخوف، تحلم لدى وصول فانيش، بعد ثلاثة أسابيع من رحيل دارشين، بشروط تتقيد بها الخادمة الجديدة: لا أرى.. لا أسمع.. لا أتكلّم، وأبقى داخل مربع الحصار.
ويرصد المرء على مدى الحكاية الأساسية تحوّلات شخصية زهيّة، تلك المرأة التي كانت تعامل الخادمات، كأنهنّ آلات مخصصة للعمل، لا صوت لهنّ، ولا هموم ولا شكاوى، فتحوّلت بفعل تأثير فانيش امرأة أخرى تدافع عن خادمتها بشراسة في وجه صديقة تتهم خادمتها بالسرقة، وتمنعها من تفتيش غرفتها..
ولاشك أنّ شخصية فانيش الغنية، وكابوسها الباهر الذي انتقل إلى أحلام زهية كانا علامتين فارقيتن في تغير الساردة نحو اتخاذ موقف إيجابي حاسم تجاه الخدم والعمالة عامة، إلا أننا لا ننكر أثر الاستعداد الفطري لديها، والحث المستمر من قبل أفراد عائلتها أنفسهم على إحداث ذلك التغيير.
* * *
أما عامر زوج زهيّة فله حكاية أخرى، حكاية حب عاصف ينسرب في ثلاثة جداول، تصبّ كلها في منبع واحد، عامر الذي أخذ من أمّه الإفريقية دكنتها وطولها الفارع وأصابعها النحيفة، وأخذ من أبيه أنفه العربي وشفتيه الدقيقتين، وقلبه المشبع بالحنين، يوجه حبه العميق نحو أقانيم الوله الكبرى في حياته: أمه بي سورا وزوجته الحبيبة زهيّة وزنجبار التي عاش فيها يوماً واحداً، وغادرها مع جموع الراحلين عن ذلك البلد الذي أصبح بقاء العمانيين فيه يشكّل خطراً كبيراً على حياتهم.
ها هنا يبدو عامر شبيهاً بأوديب، تشدّه نحو أمه عُرى قدرية وثيقة، يجدها في وجه جميع الأحبة، فأمه بي سورا لا تغيب عن مخيلته، ولا عن ساحة وعيه، على الرغم من أنه لم يرضع منها "سوى مرة واحدة، المرة التي تلت الولادة. يومه الأول والأخير في شرق أفريقيا" ص60.
ولا يقل ارتباط عامر بأمه عن ارتباطه بزنجبار، لأنّ كليهما واحد، وكل منهما يقود إلى الآخر بالضرورة، وإن كان الواقع لا يجود بمثل هذا اللقاء بين الحبيب وتلكما الحبيببتين، فلا بأس برحلات طفولية، لا يسأم عامر من تكرارها: "يحلو لعامر أن يحكي لي كثيراً حكاية صنعه للطائرات الورقية والكرتونية في طفولته، طائرات طيّرها ناحية زنجبار، وتمنّى أن تصل إلى أمه" ص60.
من هنا فليس غريباً أن تكون زهية ذاتها أمّاً رمزية لعامر، ساعية في ذلك إلى تعويضه عن فقدان الأم والبلد، وليس غريباً أن يبحث عامر عن حضن أمه بين يدي حبيبته: "يشتعل الحنين في قلبه إلى وجه أمّه فيدسّ رأسه في صدري، تمتد أصابعي الطرية إلى شعره، واستمرّ في تدليك فروة رأسه إلى أن يصاب بالخدر وينام" ص61.
لقد بقي عامر مسكوناً على مدى الرواية بهاجس الانتماء، من خلال علاقته بزوجته وأبيه حمدان، ومن خلال سفره إلى زنجبار، ومن خلال كتابة روايته، قبل السفر وبعده، وعلى الرغم من ذلك، فقد بقي خائفاً من أن يبقى معلّقاً في الهواء بلا جذور.
*          *          *
وفي المقابل، فإنّ حكاية فانيش، التي تسردها الروائية عبر المذكّرات، تقدّم الوجه الآخر من حكاية حمدان، أي أنّها تقدّم الحكاية الشبيهة بحكاية حمدان من وجهة نظر الآخر، هذا الآخر الذي لم تكن زهية تراه، ولم تكن تسمع صوته، أو تحسّ بوجوده.
في المذكرات يبدو الآخر إنساناً سوياً، يسعى إلى تحصيل ثقافته، يحبّ أرضه مثلما نفعل، ويتمسّك بدينه مثلما نفعل، ويشعر بالغصة والحنق والحزن حين يُكره على تغيير دينه. وإذا كانت الروائية قدّمت مسوّغاً حبكويّاً مقنعاً لهذه المذكرات، ولقراءتها من قبل زهيّة، فإنّ ما تقوله مهم جداً إذ يسلط الضوء على مجموعة من القضايا المتعلقة بالخادمات، لعلّ أخطرها هو تغيير دينهنّ، وهنّ لا يمكن خياراً آخر، وتصوير ذلك على أنه انتصار للإسلام، في حين أنّ أولئك المسلمين الجدد لا يعرفون لغة القرآن، ولا يفقهون من أمور الإسلام شيئاً، ولا يقدّمون للإسلام سوى أرقام جديدة لا يحتاجها، وهم مستعدون للتخلي عنه بزوال ضغط ربّ العمل.
* * *
وتثبت هدى حمد في هذه الرواية، من خلال التطبيق العملي للدرس السردي، أنّ الرواية تستطيع حمل الأيديولوجيا التي تؤمن بها دون أن تتحول إلى مجرد مقولات ذهنية، ودون أن تلبسها ثوباً أيديولوجياً لا يطيقه الفن، كما تثبت أن الروائي القادر على أن يلعب ببيضة السرد وحجر الحكاية يمكنه أن يقدّم عدداً من الحكايات المتداخلة، في مسرود موحد، دون أن يفقد بوصلة التوجيه، ودون أن يُحدث إملالاً لدى المتلقي.
لقد أدركت هدى حمد، أنها خلال حكاياتها المتداخلة لا بد أن تلجأ إلى التنويع، فاستندت إلى السرد المباشر في حكايتها العامة، فيما لجأت إلى الرواية داخل الرواية، في تقديم جانب حكاية حمدان التي كتبها عامر، كما اعتمدت على المذكرات في تقديم جزء من حكاية فانيش، كل ذلك بالإضافة إلى استراتيجيات نصية أخرى كان أبرزها التنقل بين زمن وآخر، وبين مكان وآخر، في سياقات سردية متصلة، اعتماداً على الاستذكارات أو الرسائل أو المذكرات أو المكالمات الهاتفية، ولا ننسى بأي حال طبعاً اعتمادها على الأحلام، بوصفها جزءاً فاعلاً في الحكاية الرئيسية، فقد قامت الأحلام بدور مهم في تسمية الولدين راية ويوسف؛ مثلما قام الحلمالأساسي الكابوس، بدور مهم جداً في توجيه الحكاية.
وتستعين هدى حمد في سردها بلغة مباشرة الدلالة بشكل عام، وتفيد في بعض الأحيان من المجازات البسيطة ذات الدلالات الوارفة، كما تعطي الروائية لغتها في بعض الأحيان بعداً اجتماعياً، من خلال اللهجة العامية التي تواتر ذكرها في الحوار، ومن خلال العادات الاجتماعية كالختان، والإيمان بالسحر والشعوذة، ومن خلال الأغنيات الشعبية التي كانت أم زهية تغنيها لراية الصغيرة.
* * *
باختصار، إن رواية "التي تعدّ السلالم" تعدّ أيضاً مجموعة من القضايا التي يعاني منها الإنسان العربي في أعماقه، وتطرحها بشكل فني راقٍ، بعيداً عن وطأة الأيديولوجيا، وتفتحها من خلال وعي المؤلفة بوظيفة الفن، على أمديتها الاجتماعية والإنسانية.

تعليق عبر الفيس بوك