من المكتوب إلى المرئى

جدلية الزمان والمكان فى سرديات إبراهيم أصلان

إبراهيم عاطف إبراهيم - ناقد وأكاديمي


منحت السينما  المصرية سرديات واعمال أصلان الروائية شهرة كبيرة،وذلك عبر تجربة فيلم (الكيت كات) الذى أتخذ من نصوص رواية (مالك الحزين) مرجعية لبعض شخصيات الفيلم،وذلك النجاح السينمائى استمر حتى تكررت التجربة مرة ثانية فى فيلم (عصافير النيل) الذى أتخذ أحداث الرواية مرجعية واقعية فى رسم خطوط الفيلم الدرامية.
وجاء الاستخدام الفريد لتقنيات التصوير السينمائى والفن التشكيلى فى وصف الأماكن بمثابة النافذة التى تتيح للقارئ أن يطل على ذلك العالم المدهش الذى  يكشف عن عالم كنا نجهله رغم بساطة حياة الشخصيات الشعبية التى تتشكل منها ،وهو بذلك يكشف لنا قيمًا فنية وجمالية جديدة تعبر عن الروح المصرية الحقيقة التى غابت تحت قهر التهميش والاغتراب داخل المدينة المعاصرة.
والأقتراب النقدى من سرديات أصلان يكشف سمات الصورة السردية التى اعتمدت على الفن السينمائى الذى استعار منه أصلان بعض التقنيات السينمائية مثل: تقنية اللقطة الكلية عن بعد واللقطة عن قرب التى تركز على شخصية محددة فى موضوع محدد،وتقنية الفلاش باك والاسترجاع؛لمعرفةأحداث ماضية ،وما يلازمها من انتقالات زمنية سريعة ومتلاحقة،وتقنية المونتاج الذى يعتمد على تجاور الأمكنة والأحداث التى تنتمى لأزمنة مختلفة ومتباعدة مع الأهتمام المتساوى بوصف الأشياء والإنسان .
مرجعية التقنيات السردية فى رسم الصورة السردية استلهمت  أيضاء بعض سمات الفن التشكيلى الذى استعار منه ذلك الأهتمام القوى بتحديد إطار المكان  ومظهره الخارجى ومحتوياته الداخلية ،وهيئة الشخصيات التى يحويها ،وتأتى الدقة فى تحديد الألوان ،والظلال،والأضواء ،وذلك شكل فيما يشبه رسم لوحة كلية للمكان مع الوقوف أمام التفاصيل الصغيرة التى قد يمر إليها الكثير دون أن تجذب أنتباه أحد ،وتاتى عين الكاميرا التى يفتحها السارد على المكان وذلك لتقديم صورة دقيقة تتميز بالحيوية والايجاز.

إذ لاشك أن إبراهيم أصلان قد عمل على إبراز قيمة الإنسان فى مقابل قيمة الأشياء ومن السمات الأسلوبية للسرد عند أصلان،وهى استخدام استراتجية نقل مركز الأهتمام من الأشياء إلى العلاقات الإنسانية؛فالعلاقات الأنسانية هى التى توجد الأشياء وتمنحها القيمة،والاهتمام بالصورة السردية التى تقوم على عنصر الحركة مع تباين الزمان والمكان.
وقد انعكس طبيعة وقوة تأثير سمات مدرسة تيار الوعى بما فيها من بعثرة وتفتيت للسرد على طبيعة الصورة السردية ،ويأتى التعامل مع المكان بوعى وقصد ،حيث يأتى تكرار أسماء الأماكن الواقعية نفسها التى يتكون منها الفضاء النصى لدى أصلان ،ومع ذلك  التكرار المستمر أكتسب المكان قداسة فى طقوس الوصف والتوقف السردى تتميز كيفيًا عن الأماكن الأخرى؛مما خلق رأبطة بين المكان والشخصيات وتلك الرابطة  أصبحت  رأبطة روحية فالشخصيات لاتطيق الأبتعاد والخروج بعيدًا عن المكان وأصبح المكان هوية للشخصيات.
واستطاع السرد نقل معاناة الإنسان المعاصر وخاصة إذا كان مهمشًا مكانيًا وثقافيًا داخل المدينة،ولكن قوة تناول تفاصيل حياة الشخصيات اليومية يعبرعن نوع من قوة الهامش الذى يتخذ من المكان هوية تفصله عن العالم الخارجى ويظهر فى المكان وهو الحى الشعبى الذى تهرب إليه الشخصيات ولا تستطع الابتعاد عنه لانه يعبر  الهاجس الأول والهوية التى تشكلت عبر تجارب الحياة التى شكلت تاريخ من العلاقات الإنسانية ظلت مختزنة فى ذكريات الشخصيات فى علاقاته بالمكان عبر علاقة الاسترجاع للماضى المكان .
وحيث ان النص الأدبى لا نجد المرسل بشكل مباشر ،بل نجد موقف اتصاليًا داخل موقف اتصالى آخر،فنحن لدينا رسالة يستقل معناها بذاته،لايعتمد على من أرسلها ومن يستقبلها. لذلك يتميز الخطاب الأدبى،بأنه يجمع داخله بين الشكل المنطوق والشكل المكتوب ،لذلك جاء الحوار حيث يفتح السرد على جزء مهم من المكون الثقافى للمجتمع ،والمحادثات اليومية التى تتم بشكل روتينى،والحوار يصبح بذلك وسيلة؛ لتقديم وجهة النظر المختلفة للطرفين المتحاورين،وإعلان كل منهما موقفه.
و البنية الحوارية لدى أصلان تتميز بقلة أعداد المشاركين فى الحوار،حيث يمكن تركيز المشهد لوقت قصير على عدد محدود من الشخوص الغرباء،حيث أن الكلام الموجه إلى عضو واحد يتميز بثبات اتجاه النظرة والرغبة من جانب المتحدث فى تعيين الشخص،أو اكثر تعيينا بصريا،حيث ان العين حاسة على درجة عالية من المكانية والحسية،ومن المعروف أن الناس يكتبون على نحو مختلف عن الطريقة التى يتحدثون بها،لذلك فالحوار القصصى يصبغ نفسه بصبغة بصرية.
وتتميز الحوارية اللغوية لدى أصلان بالاقتصاد،وتعتمد المشاهد على المسرحة،وهى حوارية تعبر عن عالم مغترب مهمش  تتحول فيه  أحاديث يويمة عابرة إلى مقاطع حوارية تتميز بالحيوية والتلقائية والدهشة التى تمتزج مع اللغة اليومية البسيطة التى تصور مصائر شخصيات مهمشة تجسدها جدلية المكان والزمان فى صورة سردية مرسومة بدقة تربط الفن بالحياة فتمنح الحياة اليومية دلالات فنية متجددة على الدوام.
دائما يظهر الأختلاف بين عمل فنى وآخر،ولكن الأختلاف ليس فى الموضوعات ؛بل قد يتناول الكاتب موضوعًا فنيًا متشابهه مع تناول كاتب  آخر للموضوع نفسه ،لكن من أين يأتى الأبداع والتفرد؟! ..أنه ياتى من الاختلاف فى تناول الصيغ والتراكيب التى تعبر عن روح التجربة الأنسانية الفريدة للكاتب ،وتظهرالذات المبدعة العاشقة للموضوع ،وهذا ما يظهر فى تجربة أصلان فالقارئ يجد نفسه أمام روا عاشق مولع بالمكان ينقل لنا كل تفاصيله بدقة وشغف ومتعة حسية.

تعليق عبر الفيس بوك