حوت أحداثًا ورسائل سلطانية نفيسة

الغساني يرصد جوانب مضيئة من تاريخ عمان في "مقتطفات من يومياته"

الرؤية - محمد على العوض
يقدم لنا كتاب "الأستاذ عبد القادر بن سالم الغساني.. مقتطفات من يومياته" الصادر عن مكتبة دار الكتاب العامة، والذي حرره الدكتور سالم بن عقيل مقيبل أفقًا معرفيا ومتعة أخلاقية في السيرة الذاتية للأستاذ عبد القادر الغساني رحمه الله.. فالكتاب ترجمان للنفس العالية التي كان يحملها بين جوانحه، ويشف عن عقلية مستنيرة كانت تزيّن هامة الأستاذ.
ينتمي الكتاب إلى "أدب اليوميات" وهو جنس أدبي ليس ثمة كتابة تضاهيه في قيمته التاريخية والوثائقية والمعرفية، فهو يصدر عن روح صادقة عركتها التجارب، ورؤية حقيقية تسجل ببراعة وقائع حاصلة وانطباعات حقيقية ترتبط بالأمكنة والأزمنة والشخوص؛ فمثل كل كتب أدب السيرة الذاتية - اليومية- يسلط إصدار "الأستاذ عبد القادر بن سالم الغساني.. مقتطفات من يومياته" الضوء على أحداث ووثائق تاريخية مهمة، وجمة الفوائد، يقودنا فيها الغساني برهافة حسه التربوي ولغته العالية إلى مسافات تمتد من صلالة إلى حضرموت مرورا بعدن وبيروت وبغداد وعمّان والخرطوم والقاهرة.. يقطع فيها القارئ رحلة عبر الزمن وغياهب الماضي، يشعر فيها باندياح الكاتب وروحه الوطنية والإنسانية من بين ثنايا السطور.
يشرع الأستاذ الغساني في يومياته هذه كثيرا من الأبواب الموصدة والمشاهد الجميلة، ونقابل فيها كثيرًا من المواقف والأشخاص العظام كالسلطان تيمور بن فيصل جد صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- والسلطان سعيد بن تيمور، ونقرأ مع الغساني رسائل شكر من السلطان سعيد بن تيمور وجلالة السلطان المعظم قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه – بعد أن قام بإهدائهما كتباً وجدت استحساناً من المقام السامي.
 كما نقف في "مقتطفات من يومياته" على تاريخ التعليم في محافظة ظفار، والأفكار والجهود التعليمية التي بذلت حتى تُشرق شمس التعليم في عمان وتتوسع خارطته كمًّا وكيفا لتعم كل البوادي والحضر.. وترصد أيضا التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي خلال فترة تأسيس الدولة العمانية المعاصرة التي كان شاهدا عليها، وأحداثا وجوانب مضيئة من تاريخ عمان.
تكشف يوميات الغساني بجلاء تام مساهمته ودوره المقدر في النهوض بالتعليم في السلطنة؛ لاسيما في مجال التعليم والتربية بمنطقة ظفار، فقد كان -رحمه الله- شاهدا على عهد النهضة المباركة، وأحد الرواد الذين ساهموا في تطوير قطاع التعليم في مراحل نموه الكمي والنوعي وصياغة نهضة التعليم ووضع اللبنات الأولى للمناهج العمانية.
من خلال قراءة هذا اليوميات يمكن تصنيفها إلى ثلاث محطات رئيسية: المحطة الأولى تتعلق بالتنشئة المقرونة بطلب العلم أنّى كان.. نشأ الغساني في بيت علم وعمل وعبادة، فقد كان الوالد -التاجر- المهتم بالعلم حريصا على تعليم أبنائه علوم الدين والدنيا؛ لذا دفع ابنه لطلب العلم متنقلا بين صلالة وحضرموت، وشاء له الله في هذه المرحلة أن ينهل من العلوم الكثير.
أمّا المرحلة الثانية فيمكن تصنيفها على أنها مرحلة العمل والإنتاج، فبعد عودة الابن من حضرموت إلى صلالة تمّ تعيينه معلما بالمدرسة السعيدية عام 1941 وتدرج في العمل العام بانتقاله لمكتب الإشراف التربوي بالمنطقة الجنوبية التي صارت فيما بعد محافظة ظفار، ثم أصبح بعدها مديرا لهذا المكتب، ليشغل بعده منصب المدير العام للديرية العامة للتربية والتعليم بمحافظة ظفار، هذا بجانب عضويته في جميع اللجان على مستوى الوزارة خلال تلك الفترة وإشرافه على كلية المعلمين. ويمكن أن نصف هذه المرحلة من عمر الغساني بغزارة الإنتاج والعمل والتزامن مع عصر النهضة، وأنها تمثل مرحلة تحد وتجرد ومثابرة، أعطى فيها الغساني وطنه عصارة جهده وعلمه؛ استشعارا لمسؤوليته وحجم الأمانة التي كانت ملقاة على عاتقه، فاستطاع بجدارة تحويل التحديات إلى إنجازات.
المرحلة الثالثة هي مرحلة النفس المطمئنة كما سماها د. أحمد بن علي المعشني في تقريظه بمستهل الكتاب؛ وتبدأ هذه المرحلة من تاريخ تقاعد الأستاذ الغساني من الوظيفة عام 1996 وتنتهي بصعود روحه إلى بارئها، وقد عدّها المعشني من أخصب مراحل صاحب المقتطفات، فقد استجمع فيها الأستاذ كامل طاقاته وملكاته الروحية من خلال التأمل والذكر والانقطاع للعبادة وقراءة القرآن وأمهات الكتب والتواصل مع طلابه؛ مستكملا رسالته التربوية الرائعة خلال عدد من الإنجازات المشهودة التي قرر أن يختم بها لوحة حياته الجميلة، ومن بين تلك الإنجازات تشييده مسجدا على نفقته الخاصة كصدقة جارية ووقفه العديد من المباني والعقارات؛ وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الأستاذ رفض أن يحمل المسجد اسمه، وفي هذا نكران للذات وتواضع جم. كما أنشأ مكتبة دار الكتاب التي تعتبر معلما فكريًا وثقافيا في محافظة ظفار، وكأنّه كان يرغب في مواصلة دوره في ترقية العقول ونشر المعرفة بين النّاس حتى بعد مماته.
واصل الغساني العطاء في مجال البحث العلمي عند تعيينه عضوا مكرما في بدايات مجلس الدولة عام 1997 إلى عام 2000 وكانت مشاركته فعّالة من خلال لجنة إعداد موسوعة السلطان قابوس لأسماء العرب، ونال في العام 2001 وسام السلطان قابوس للثقافة والعلوم والفنون وهو ابن 81 عاما.
ألا رحم الله المربي الفاضل الأستاذ عبد القادر بن سالم الغساني بقدر ما قدم للوطن وأعطى.. وطوبى له الجنة بإذن المتعال.  


 

تعليق عبر الفيس بوك